“عصيان”.. قصة عجوز مهمل تلتقي عندها عورات المجتمع التونسي

د. أحمد القاسمي

عادة ما نُلقي ببقايا ما نستهلك أو ما هو غير صالح للاستعمال في أكياس القمامة ونترك أمرها للدولة، لكن كثيرا ما تقف دولنا العربية عاجزة عن معالجة نفاياتها، والعودة إلى أزمة بيروت عام 2019 أو صفاقس التونسية هذه الأيام كفيلة بتأكيد زعمنا.

لكن ماذا لو كانت هذه النفايات أبا طالت شيخوخته وأضحى مُقعدا مستطيعا بغيره، فيقدّر أبناؤه أن صلاحيته قد انتهت، وأنه بات عبئا ثقيلا عليهم، ثم تعجز الدولة عن “معالجته أو إعادة تصنيعه”؟ ألا تبدو الفكرة سريالية؟

ربّما، لكن فيلم “عصيان” (2021) للمخرج التونسي جيلاني السعدي الحاصل على التانيت البرونزي لأيام قرطاج السينمائية 2021، يجعل من هذا الحدث نواة قصّته ليفضح عبره واقعا فقد إنسانيته.

شخصيات الفيلم.. كل الطرق تؤدي إلى بابا الحاج

ينتهي النقاش بين شقيقين إلى ضرورة التخلص من والدهما المُقعد والفاقد للقدرة على الكلام، فيلقيان به على قارعة الطريق، وذلك بعد أن يأخذا حقيبة أمواله وأوراق هويته، ولن يشكل ذلك همّا بالنسبة إليهما، فالفانوس الكهربائي المُضاء سيكشف وجوده للمارة، والكرسي المتحرك سيساعدهم على أخذه إلى مأوى العجزة، ولا شكّ أن الدولة الحريصة على راحة مواطنيها ستتولى أمره.

 

يحدث هذا كلّه ذات ليلة عاصفة تؤججها الاحتجاجات المجنونة التي تضرب العاصمة وضواحيها وتخرج عن السيطرة، فتغلق مداخل المدينة، وتظلّ الشوارع خالية، وتمثل الليلة نفسها إطارا لأحداث فردية تجدّ هنا أو هناك، فالملاكم مسمار ذو القبضة القاتلة يتهاوى على غير المتوقع أمام خصمه، ويسبّب وكيله خسارة مُعتبرة، فيُطرد ليهيم على وجهه، والشابة الفاتنة بية تُغضب شريكها، ويغلق الباب دونها غير آبه بتوسلاتها ولا بالأخطار التي تتهدّدها في الخارج، وولد جنات الذي يطرق باب طليقته عساه يرى ابنته الصغيرة التي يشتاق إليها يواجه هجوما شرسا من نساء يعنفنه، ثم يجردنه من بدلته الأنيقة، ويلبسنه جلبابا نسائيا يستر عورته، فيهيم على وجهه.

وكما تلتقي المياه المنسابة في الأماكن البعيدة في الحوض نفسه، تلتقي شخصيات الفيلم المتدهورة عند بابا الحاج في فضاء المدينة المقفر وفي ليلها الدّامس، ثمّ تهيم على وجهها معا بعد أن خسرت رهاناتها وأضاعت وجهتها، ومن تجمّعها وتشابه أحوالها تحاول أن تجد شيئا من الحماية، وأن تعتني بالعجوز بابا الحاج.

بابا الحاج.. استعارة رمز التضحية في كل الحضارات

ينزّل الفيلم أحداثه ضمن عالم واقعي، أي عالم محتمل الوجود الفعلي، فتونس ما بعد الثورة لا تختلف كثيرا عن تونس التي تجسدها الأحداث، فقد فقدت صوابها، يتجاور فيها العمل التخريبي الذي يدمّر مقدرات الدولة، والاعتصام الذي يقطع الطرق، ويهدد الأمن العام دون قضية محدّدة، والعمل اللصوصي الذي يزدهر في حالات الفوضى وانعدام الأمن.

محمد حسين قريّع هو ممثل المخرج جيلاني المفضل، فقد جعله بطل معظم أفلامه

 

ولا شكّ أنّ المجتمع التونسي يعاني من أزمات كثيرة، شأنه شأن مختلف شعوب العالم، بعد أن هيمنت الرأسمالية المتوحشة عليه، وحوّلت كلّ شيء إلى منتج يقاس بمعيار الرّبح والخسارة، لكنّ اهتزاز أركانه بعد الثورة جعلته يعيش أزمة قيم حادّة، دفعت بقيمه الأخلاقية والإنسانيّة إلى الخلف، ووضعت الماديّ في الواجهة، ففقدت العائلة تماسكها، بعد أن جعلت مطاردة لقمة العيش الآباء ينشغلون عن أبنائهم، ويوكلون أمر تربيتهم إلى الشارع وإلى مواقع الإنترنت.

لقد ساد الهدر المدرسي، وانتشر العنف والجريمة بين الشباب، وهذه الثورة نفسها باتت سفينة تائهة تتقاذفها الأمواج المتلاطمة، فلا تعرف سبيلها إلى مرسى بعينه، بعد أن تعاقبت الأزمات السياسية، وقد اعتلت سدّة الحكم نخب عاجزة على إدارة الشأن العامّ لا يحرّكها غير نهمها الشديد إلى المال العامّ.

أما صورة بابا الحاج فهي استعارة قوية تجسد لهذه الأزمة التي تدمّر كلّ الرّموز، فأبناؤه يعاملونه معاملة كيس قمامة، وحين تحاول الدولة (الشرطة) إغاثته تكون رائحة برازه أقوى من احتمالها، فتلقي به على الطوار من جديد، وقد مثّل الأب في مختلف الحضارات البوصلة التي تهدي إلى القيم الأصيلة، وترمز إلى التضحية في سبيل سعادة الأسرة.

سينما الواقع.. مرآة تعكس قبح عورات المجتمع

تحاول كاميرا جيلاني السعدي أن تكون أمينة في تصوير الرّاهن التونسي، فتعلن تبنيها للواقعيّة الفجّة التي ترى أنه ليس من دور المبدع أن يصطنع القصص الحالمة الزائفة، ولا أن يخفي عورات المجتمع، وترى أنّ الإبداع الحقيقي يكمن في الجرأة على نقل الواقع بكل ما فيه من الفجاجة والعنف والبذاءة أيضا.

مخرج فيلم “عصيان” جيلاني السعدي الذي عرّى المجتمع ووضعه أمام صورته القبيحة في تونس

 

والعمل الفنيّ الجميل وفق هذا التصوّر هو العمل القادر على وضع المجتمع أمام صورته القبيحة، وذلك بدل طلائها بالمساحيق المزيّفة للحقيقة، لكن العجيب أن سينما الجيلاني السعدي وهي تمعن في تصوير هذه الواقعية تتجاوز الحدّ لتصل إلى الغرابة.

وجهة المدينة الفاضلة التي ينشدها الجميع.. اغتراب الشخصيات

رغم الحضور الكثيف لعناصر الواقع، فإن الفيلم ينهج نهج التغريب، ولا نقصد بالعبارة هنا المعنى المعجمي الذي يفيد اتباع الغرب والتأثر به، بل جعل عالم الحكّائي مخالفا للمألوف غريبا، وجعل شخصياته تعيش حالة من الاغتراب تدفعها إلى التعايش مع وضعها المتدهور، وإلى الشعور بالعجز أمام تفاقمه، وإلى الاعتقاد بأنّ حل معضلاته أمر يتجاوز قدراتها، فلا يبقى لها إلا أن تستسلم للوهم، وتنصرف عن مجابهة الواقع.

فبدل أن يعمل الملاكم مسمار على الثأر من هزيمته بالمزيد من التدرب، وبدل أن يحاول ولد جنات أن يكون أبا مسؤولا، أو أن تعمل بيّة على مواجهة شريكها؛ تنخرط هذه الشخصيات الثلاث في الجنون الجماعي، ولتبحث لنفسها بدورها عن اعتصامها الخاص للمطالبة بحق بابا الحاج في العلاج في دوّار إستراتيجي بمساعدة أحد متعهدي الاعتصامات الذين يقدمون خدماتهم إلى المحتجين، فيزودونهم بالإطارات القديمة، أو يوجّهونهم إلى أكثر المداخل حيويّة لتصاب المدينة بالشلل التّام.

أبطال الفيلم يتطلعون إلى المدينة الفاضلة التي ينشدها الجميع، والتي تبدو شوارعها نظيفة وأنوارها فاقعة

 

سريعا ما يتحول الأمر إلى استعراض مبهر، فولد جنات يركب الدراجة النارية التي تسطو عليها المجموعة، ويجرّ كرسي بابا الحاج طائفا بهذا الدّوار في حركات بهلوانية توقعه أرضا، وتعبث بجسده العليل. ثم تظهر وجهة الجماعة شيئا فشيئا؛ مدينة مبهرة أنوارها فاقعة وشوارعها النظيفة تلتمع تحتها، وتحيط الأشجار الباسقة ببناياتها الرائعة ذات المعمار الحديث، وفي مركزها ترتفع ساعة شارع الحبيب بورقيبة شامخة.

إنها المدينة الحلم التي تتلألأ في الأفق البعيد، أو المدينة الفاضلة التي ينشدها الجميع، لكنّ الطوفان يحيط بها ويمنع قاصدها من الوصول إليها.

إفلاس بضاعة الشخصيات.. سخرية الكوميديا السوداء المؤلمة

كثيرة هي المواقف الساخرة في الفيلم، وأغلبها على صلة ببابا الحاج، بداية من رجل الشرطة الذي يمثل سلطة الدولة والتزامها إزاء مواطنيها، والذي يتعاطف مع بابا الحاج الشيخ المهمل، ثم يلقي به بعيدا في الغابة بحجة رائحته النتنة، إلى متعهد الاعتصامات الذي يشكو تراجع عائداته وتهرّم شاحنته وقلة حيلته بعد تراجع تجارته، إلى الاعتصام المجنون الذي يدبّره رفاق الصدفة تعاطفا مع بابا الحاج، والذي ينفضّ حين تنفد كمية الجعة التي سطا عليها مسمار انتقاما من وكيله الذي خذله.

يعمل المخرج في سخريته هذه على المبالغة في تضخيم المواقف، وتحميلها ما يتجاوز طاقتها حتى تكون أكثر بروزا لصرف أنظار المتفرّج إلى عيوب المجتمع التونسي، ويجسد ذلك بأسلوب مباشر لا إيحاء فيه، ولا تلميح تماما كما يفعل فنان الكاريكاتور. لكن السعدي يوظّف هذا الأسلوب على نحو خاص، فلا يضمنه هزلا، ولا يجعله مضحكا، وإنما يشيع منه في النّفس قتامة، ويزرع فيها حزنا عميقا.

مسمار وبية وولد جنات شخصيات هامشية من قاع المجتمع التونسي في فيلم “عصيان”

 

تلك هي السخرية السوداء التي تعتمد الإيلام سبيلا إلى النقد، ولفت الانتباه إلى ما يصيب قيم المجتمع من انحراف ومن عبث ينافي كل منطق سليم. فهل كانت الثورة حملا كاذبا أم جنينا مجهضا؟

يبقى المخرج متردّدا بين الموقفين، لكنه يحسم أمره بشأن الحاضر، فيدين بجلاء هذه الاعتصامات، ويجدها خروجا عن القانون، وإنهاكا للدولة بات يهدّد كيانها وديمومتها، ويحمّلها هي نفسها المسؤولية فيما يلحقها من الأذى نتيجة لتراخيها في تطبيق القانون، والاستقالة عن القيام بدورها، آية ذلك تقاعس الشرطيين عن القيام بالواجب، وخلودهما إلى النوم والاحتجاجات على أشدها.

الجيلاني السعدي.. لغة سينمائية جريئة تعري المجتمع

يمثل فيلم “عصيان” امتدادا لنهج الجيلاني السعدي السينمائي المختلف الذي يميل إلى الأحداث الغريبة الخارجة عن المألوف أو المعقول، بداية من “خرمة” (2002)، إلى “عرس الذيب” (2006)، إلى ثلاثية “بدون” في السنوات (2012-2014-2018).

في فيلمه الطويل الأول يغوص بنا السعدي في حياة سكان القبور الذين يكسبون رزقهم بما تجود عليهم الموت به من الجثث لغسلها ودفنها، ويأخذنا إلى شخصيته خرمة الشاب الساذج البسيط الذي يرث عن معلمه مهنة غسل الأموات ودفنهم، ويعمل على فرض الاعتراف بها عملا قائم الذات. لكنه يثير غضب الأهالي، فيبتكرون له عقابا غريبا، حيث يربطونه ليلا إلى عمود مُضاء، ويطلون جسده عسلا حتى يبقى فريسة للبعوض.

 

وفي فيلم “عرس الذيب” يرفض صطوفة المهمش مشاركة أصدقائه اغتصاب سلوى، وهي إحدى الراقصات وبائعات الهوى، حيث يحاول -دون جدوى- إثناءهم عن صنيعهم، وبدل الاعتراف بجميله فإن سلوى تنتقم منه هو بالذات، فتعنفه مجموعة من المنحرفين يقودهم شقيقها، حيث يخلعون ملابسه ويرمون به في أكداس النفايات، ليلتقطه بعض المارة ويحملونه في شاحنة لنقل الخضراوات إلى مستشفى شارل نيكول عاريا إلا من لباسه الداخلي.

في مختلف أعماله يحاول المخرج أن يغوص بأسلوبه الفريد في قاع المجتمع، وتصوير الشخصيات الهامشية التي تخفي الحكمة وراء ما يبدو عليها من السذاجة والبلاهة، ويعوّل في ذلك على الأداء النمطي لممثله المفضل في مختلف هذه الأفلام، وهو محمد حسين قريّع (خرمة وصطوفة وولد جنات)، جاعلا من جسده مادة فنية يطوّعها في كل مرّة وفق حاجات الفيلم الدرامية.

استفزاز جماهير الثورة للتحرر.. صناعة الفن الثوري

يبدو الجيلاني السعدي رافضا للمقاربات الجمالية الرومنسية التي تهرب من مواجهة الواقع بجرأة، عاملا على فضح تناقضات الواقع، سالكا مسلك الفنّ الثوري الذي يحثّ الجمهور على الوعي بحالة الاغتراب التي يعيشها، ويحرّضه على التحرر من حالة الاستلاب التي يعيشها. لكن هل تعمل هذه الأحداث الغريبة على كشف الحقيقة وتقديمها عارية من خلال “تحليل متناقضات النظام الرأسمالي المسؤول عن هذه الحالة” كما يرى منظرو التغريب؟ هل باتت الشخصيات أكثر وعيا بأنها تعيش واقعا متدهورا، وبأنّ ما تطلبه وهم يستحيل الوصول إليه؟

 

هل سيصبح المتفرّج التونسي أقدر على إدراك انحرافه بالثورة التونسية المغدورة بعد أن يشاهد الفيلم، ويفهم الأسباب العميقة لهذا الانهيار الذي يضرب الدولة ويهزّ المجتمع، فيندفع إلى تجاوزها وإلى معالجتها؟

تبدو هذه المعاني شديدة الخفاء، فهجاء الثورة التونسية والسخرية من شعاراتها ومآلاتها أسرع إلى القفز إلى ذهن المتفرّج من هذا التحليل السياسي الذي يقترحه سينمائيّ محبط.

ويظلّ الحاصل بعيدا عن هذه الخلفيات النظرية والنيات الطيبة، فنزعته إلى الواقعية الفجّة لا تنتج غير شخصيات مهزومة متدهورة عاجزة عن مواجهة أزماتها، فتهرب إلى الغرائبي، كما تهرب الشخصيات الرومانسية إلى الخيال، فتجسّد فنّانا مكتئبا أكثر مما تُجسّد روح الفنان الثوري.