“المحاصرون”.. عدالة المال واللون في أمريكا

رغم مرور أحد عشر عاما على سجنه الذي دام أحد عشر شهرا، إلا أنه لم ينسَ مطلقا ذلك الظلم الذي أحسّ به وقتها، إذ ترك خلفه زوجة شابة وابنا لم يتجاوز 10 أيام من عمره، وقد كانت حسرته كبيرة لأنه لم يكبر أمام عينيه، وكل هذا لأن “ويليام” لم يكن يملك مبلغ الكفالة النقدية الذي كان سيُحرره ويحرر الملايين من أمثاله. فما قصة نظام الكفالة النقدية الذي ظلم السود والبنيين في أمريكا؟

يقدم الفيلم الوثائقي “المحاصرون.. الكفالة النقدية في أمريكا” (Trapped: Cash Bail in America) -الذي أخرجه عام 2020 “غاريت هوبارد”، وكتبه “كريس جنكينز”- وجه الولايات المتحدة الأمريكية المُظلم الذي لا يظهر في وسائل الإعلام، لأن هذا التناول سينقص من قيمتها وهيبتها، ويجعل العالم أمام تلك التركيبة العجيبة التي تبني نظام هذا البلد وحضارته.

هذا البناء الذي يظهر قوة أمريكا بين الأمم قد تأسس في المقابل على جثث السود والهنود الحمر والبنيين وغيرهم. هؤلاء الذين عانوا كثيرا من التمييز العنصري الذي ظلم الملايين عبر الزمن، حيث اضطهدهم وهضم حقوقهم وتعامل معهم على أنهم مواطنون من درجة ثانية وثالثة، ولا يزال هذا النظام الذي سوّق لنفسه أمام العالم على أنه بلد الحريات والعدل يمارس تلك الممارسات الظالمة، فالتمييز العنصري وحده هو من يحرك الكثير من أوراقه في الزوايا المعتمة.

ميلان الكفة إلى المال.. تعرية القضاء الأمريكي

جاء هذا الفيلم لكشف بعض تلك الأدلة التي لا تزال إلى اليوم لطخة عار في وجه أمريكا العنصرية، لأنه لا يزال فيها ذلك الرجل الأبيض الذي يرى غيره من الملونين على أنهم مجرمون دائما، لهذا تجب محاسبتهم ليس على ما ارتكبوه، بل لأن ألوان بشرتهم مختلفة عنه.

قام هذا الفيلم -الذي أنتجه موقع “يوتيوب” التابع للمؤسسة الأم “غوغل”- بتعرية النظام القضائي الأمريكي، وأظهر مدى هشاشة بعض جوانبه، خاصة نظام الإفراج عن طريق الكفالة النقدية الذي ظلم مئات الملايين من الأمريكيين، بعد أن تحوّل الأمر إلى وسيلة تُدرّ المال، مما أفقده روح الردع بعد أن زادت المبالغ المالية المُسلّطة على الموقفين قيد النظر من الفقراء ومتوسطي الدخل الذين لا يستطيعون دفعها، وبالتالي يبقون في السجون لشهور في انتظار محاكمتهم، حتى لو كانت تهمهم بسيطة، أو اتهموا بأشياء لم يرتكبوها من الأساس، وهذا ما جعل الميزان القضائي يميل في اتجاه من يملك المال.

خطاب الرئيس “جونسون”.. أكثر من نصف قرن على المعضلة

اختار المخرج “غاريت هوبارد” جزءا مكتوبا من خطاب الرئيس الأمريكي الراحل “ليندون جونسون” سنة 1966 ليكون مفتتحا رئيسيا لفيلمه، إذ يقول فيه: يمكن للمُدّعى عليه أن يدفع الكفالة التي يمكنه تحمّلها لشراء حريته، ولكن المُدّعى عليه الفقير لا يستطيع الدفع للسجن الذي يقضيه لسبب واحد فقط، وهو أنه فقير.

الرئيس الأمريكي الراحل “ليندون جونسون” الذي أشار إلى أنه لم يستطع تغيير المعضلة القضائية التي تخص عدالة بلاده

رغم مرور أكثر من نصف قرن من الآن على خطاب “جونسون” الشهير الذي أشار فيه بشكل واضح إلى هذه المعضلة القضائية التي تخص عدالة بلده، فإنه لم يستطع تغييرها، مع أنه كان الرئيس والقاضي الأول للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لا تزال هذه المشكلة الكبيرة تنخر جهاز العدالة الأمريكية إلى غاية اليوم.

وقد لخّص فيلم “المحاصرون.. الكفالة النقدية في أمريكا” الأمر، وبيّن تبعاته الفردية والاقتصادية والاجتماعية على البلاد والأجيال القادمة، خاصة وأن المخرج اختار حيّزا جغرافيا معيّنا، وهي مقاطعة بنسلفانيا ليُسلّط عليه عدسة كاميراته الدقيقة، وبالتالي يضمن أن تكون الفكرة مُتناولة بشكل جيد ومعالجة من جميع الجوانب والاتجاهات، ومقدورا عليها وعلى تفاصيلها.

ويضمن هذا الاختيار عدم الذهاب بعيدا والقفز من حيز إلى آخر دون طائل، وقد استطاع عن طريق هذا الاختيار الذكي أن يُظهر عددا من المآسي والإفرازات التي حدثت وحطّمت حياة الكثيرين، وكل هذا لأن هؤلاء لم يكن بمقدورهم دفع الكفالة النقدية، وبالتالي وقع تناسيهم في غياهب السجون المظلمة، لتفترسهم الأحزان والوحدة والخوف من المستقبل والماضي بعد أن خسروا حُريتهم.

“لا أستطيع التنفس”.. جريمة قتل قصمت ظهر البعير

وظّف “غاريت هوبارد” حادثة “جورج فلويد” الشهيرة، وجعلها في بداية فيلمه حتى يُظهر عنصرية أمريكا ووجها القبيح، وقد رأى العالم كله تلك الحادثة التي بثّتها جميع المنصات والقنوات، وهذا حين وضع الشرطي الأبيض ركبته على رقبة “فلويد” قاطعا عنه الهواء رغم استغاثته الطويلة “لا أستطيع التنفس”، ولقد لخّصت هذه الحادثة التي حرّضت الأمريكيين على التظاهر والخروج للشوارع والمدن، احتجاجا على عنف الشرطة وتمييزها العنصري الذي لا ينتهي في حق السود وجميع الملونين.

غرافيتي للأمريكي الأسود “جورج فلويد” الذي قُتل خنقا على يد شرطي أبيض في أمريكا

وقد رأى المخرج أن هذه الحادثة ستكون مدخلا جيدا للقضية التي سلّط عليها الضوء، إذ يلتقيان في خاصية التمييز العنصري، لأن معظم النوّاب العامين يطلبون كفالة نقدية مرتفعة جدا لا يقدر المتهم على دفعها، خاصة إذا كان هذا المتهم أسود البشرة، ولأن هذه الفئة من المجتمع الأمريكي تعاني الفقر والبطالة، فإنهم لا يقدرون على دفعها، وبالتالي يُحرمون الحرية ويرمون في السجون.

“ويليام إيفانز”.. أنين المُكتوي بنار الميزان العدلي

قد تتبع الفيلم خطوات عدد من الأفراد الذي تضرروا من هذا النظام، ومن بينهم “ويليام إيفانز” -الذي أشرنا إليه في مفتتح هذا المقال أعلاه-، إذ قبض عليه ورمي في السجن لأنه لم يستطع أن يدفع 7500 دولار ككفالة نقدية، وقد حُرم من أن يرى ابنه الذي كان عمره 10 أيام عندما اعتقل، وعندما خرج وجده كبر وبدأ يمشي، وبالتالي فإنه ضيّع مرحلة عمرية مهمة من حياة ابنه لم يقف عليها، وبالتالي أحس بأن النظام العدلي في أمريكا خذله وخذل أسرته.

“ويليام إيفانز” يتحسر على أيام سجنه بحرقة لعدم قدرته على دفع كفالة نقدية تبلغ 7500 دولار

ليس “ويليام” وحده من اكتوى بنار هذا الميزان العدلي المضطرب، بل هناك عشرات الملايين في أمريكا كلها، وحسب إحصائيات رسمية فإن 60% من المتهمين المسجونين في مقاطعة بنسلفانيا لم يقدروا على دفع الكفالة، وبالتالي وقع سجنهم ونسيانهم، لهذا كرّس “ويليام إيفانز” وقته في الدفاع عن هؤلاء والمطالبة بضرورة إلغاء أو تخفيض مطالب النيابة العامة لدفع مبالغ مالية مرتفعة للإفراج عن الموقوفين، خاصة الذين ارتكبوا جنحا أو قضايا صغيرة، لأن الجرح الذي بقى في قلب “ويليام” رغم مرور 11 سنة لا يزال لم يشفَ منه، والدليل أن الدموع لم تغادر عينيه في المقابلة التي أجريت معه في الفيلم.

مبادرات تحريك المياه الراكدة.. مشاريع مجهضة

استعان المخرج “غاريت هوبارد” في فيلمه بعدد من الأسماء المهمة التي تعمل وتنشط في الميدان الحقوقي من أجل إصلاح جهاز العدالة الجنائية في أمريكا، ومن بين المطالب المرفوعة التخفيف من المبالغ المالية المرتفعة التي يحكم بها القضاة استجابة لطلبات الإفراج بكفالة نقدية.

ومن بين هؤلاء الشخصيات “نيسا تيلور” مستشارة العدالة الجنائية، و”أليكس دومينغوس” منظم حملة العدالة الذكية، و”جيسكا لي” محققة العدالة الجنائية، ومنظمة الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية في ولاية بنسلفانيا، وهي منظمة غير ربحية مكرسة للدفاع عن الحقوق الفردية والحريات الشخصية، ويعمل موظفوها ومتطوعوها -حسب ما جاء في بيان أهدافهم- على الحفاظ على الحريات التي تستند إلى دساتير الولايات المتحدة وبنسلفانيا، وقوانين الحقوق المدنية وتعزيزها، ومن بين هذه الحريات حرية الكلام والدين وتكوين الجمعيات، والحق في تقديم التماس للحكومة، والفصل بين الكنيسة والدولة، والحق في الخصوصية، والحرية الإنجابية تبعا لسير القانون، وحقوق المتهم، والحق في المساواة في المعاملة أمام القانون.

منظمة حقوقية تدفع كفالة النساء السوداوات اللواتي لا يستطعن دفع كفالتهن

تعمل هذه الجمعيات مجتمعة أو بشكل فردي على جمع التواقيع لتقديمها للمنتخبين لتحقيق المطالب المذكورة أعلاه، كما أن هناك جمعيات أخرى تقوم بجمع المال ودفعه للجهات المختصة ككفالة نقدية للنساء السوداوات اللواتي لا يستطعن دفع المال، حتى يعدن إلى بيوتهن ويجتمعن بأسرهن من جديد في انتظار موعد المحاكمة.

وقد استجاب كثير من السياسيين والبرلمانيين لهذه المبادرات، لكن هناك من يرفض هذه المبادرة، خاصة ممن يملكون مكاتب الكفالة النقدية، وبالتالي ونظرا لتعقيد الأمور تجهض هذه المشاريع الحقوقية، أو تتناسى في الكونغرس وفي المجالس المحلية.

انتقائية العدالة العنصرية.. قوة القضية المعالجة

اكتسب فيلم “المحاصرون: الكفالة النقدية في أمريكا” قوته من القضية التي عالجها، وقد لامس من خلالها أهم شيء بالنسبة للفرد الأمريكي وإلى أي إنسان في العالم، وهو مفهوم العدالة الغائب في الأحياء الفقيرة والمعدومة، لأنه عندما تكون مختلة أو لا تتعامل مع الناس بشكل عادل؛ تقع الكوارث وجرائم الانتقام التي تجعل حياة الفرد المتضرر مليئة بالسواد، خاصة إذا كان الإخلال بهذا الميزان بسبب لون البشرة (أي التمييز العنصري) في أقسى صوره وأبشعها.

وفي أمريكا كثيرا ما يحكم بغرامة مالية مرتفعة على صاحب البشرة السوداء، وفي المقابل يحكم على الأبيض بكفالة نقدية منخفضة، وإن كانت نفس التهمة والحيثيات، لهذا لامس هذا الفيلم شغاف القلب، وقد جاء إصداره في الوقت المناسب بعد أن خرج آلاف الأمريكيين السود والملونين وحتى البيض يدعمون ويُندّدون بالتمييز العنصري في الشوارع على خلفية قتل “جورج فلويد”، لهذا وُظفت صور هذه المظاهرات كما سبق وذكرنا أعلاه.

وتُعد هذه التجربة السينمائية الجديدة للمخرج “غاريت هوبارد” من أكثر تجاربه السينمائية نضجا، فقد سبق له أن أخرج عدة أفلام، منها الوثائقي القصير “رايكرز.. فقدت البراءة” (Rikers: Innocence Lost) عام 2018، وفيلم وثائقي آخر بعنوان “رحلة أمريكا.. يوم التنصيب” (America’s Journey: Inauguration Day) عام 2009، وقد تناول فيه مسيرة الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما”.