“امرأة غير شرعية”.. أنين المهاجرين وسياط الشرطة الإسبانية

قيس قاسم

يُفشي الفيلم الإسباني “امرأة غير شرعية” (La Mujer Ilegal) أسرارا خفية، ويُعرّي انتهاكات رجال شرطة وموظفي دولة فاسدين لأجساد مهاجرات وطالبات لجوء يتعرضن للابتزاز والتهديد بالطرد في حالة رفضهن الاستسلام، ومن خلال محام نزيه يكشف الاستغلال الفظيع للسلطة، والمواقف السياسية العنصرية التي تسمح باستغلال الكائن الضعيف دون رحمة، والتربح غير الشرعي من وجوده.

كل ذلك يتأتى عبر نص سينمائي روائي مدعوم بسرديات وثائقية تغني متنه، وتمنحه عمقا وصدقا، ويُبرر بوجودها كثرة ما فيه من مواضيع ومعالجات تضعه بين الأفلام الشجاعة المُعلنة موقفا رافضا لما يجري، ليس في إسبانيا وحدها، بل في العالم أجمع.

يسرب مخرج الفيلم “رامون تيرمينس” موقفه بذكاء عبر مقاطع يقتبسها من برامج حوارية تلفزيونية، ومن أخبار ترد في ثنايا نشرات إذاعية، وهذا التراكم الفيلمي والسرد الدرامي يُرجعان أسباب بؤس أوضاع المهاجرين واستغلال قوة عملهم وأجسادهم، وحتى قتل بعضهم؛ إلى مد يميني وفكر عنصري تصاعد أكثر في زمن الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، وما زال متغلغلا في مؤسسات إسبانية حساسة.

 

“فيرناندو فيلا”.. تحت رحمة محامٍ يتجاوز حدود وظيفته

تظهر روح التوثيق في الفيلم خلال المشاهد الأولى التي تنقل لقطات سريعة من لقاءات المحامي “فيرناندو فيلا” (الممثل دانييل فارالدو) مع عدد من المهاجرين توكل للدفاع عن قضايا لجوئهم في المحاكم ودوائر الهجرة.

كل شخص يحكي قصته المؤثرة فيتعاطف معها، وفي أحيان كثيرة يتجاوز تعاطفه حدود وظيفته، فيتدخل شخصيا لتقديم المساعدة الممكنة لموكله، ومن خلال تلك اللقطات ذات النكهة الوثائقية، يتعرف المُشاهد على رجل نبيل الأخلاق يتعاطف مع المهاجر، ويقدم له كل أشكال الدعم بطيب خاطر.

لإتمام بناء شخصية المحامي ينشغل المخرج والمشارك معه في كتابة السيناريو “دانييل فارالدو” بنقل جوانب من حياته الشخصية، ووجعه من تدهور حالة زوجته الصحية، بعد أن سرى في جسدها السرطان، ولم يبق لها من العمر إلا القليل.

الممثلة “كلاوديا دودوفا” التي قامت بدور بائعة الهوى الكوسوفية “زيتا”، والتي انتحرت بعد تحويلها إلى مركز الاحتجاز

 

“زيتا كراسنيكي”.. مصرع بائعة الهوى الكوسوفية

في أوج تأزم حالة زوجته الصحية وقرارها بوضع حد لحياتها (الموت الرحيم)، ومع شدة ارتباكه من توسلها إليه لمساعدتها في تنفيذ ما تريد؛ يأتي طلب زميلته المحامية لأخذ قضية شابة مهاجرة من كوسوفو بدلا منها، وقد تردد أول الأمر ثم قَبِل بعد ذلك.

من متابعته لقضية “زيتا كراسنيكي” (الممثلة كلاوديا دودوفا) يتضح أنها بائعة هوى، لكنها بعد تعرفها على شاب قررت الزواج منه والشروع بحياة جديدة، ورغم دفاعه عنها وتقديمه حججا قوية تجيز إقامتها، فإن قاضي المحكمة قرر تحويلها لمركز الاحتجاز، ما يعني احتمال ترحيلها من إسبانيا، وبعد أيام قليلة يخبره مدير المركز بانتحار الشابة.

قضية الكوسوفية تنقل الفيلم برمته إلى دروب أخرى، ومعها يدخل المحامي بصحبة الناشطة المدنية العربية الأصل “فاطمة جامد” (الممثلة راكيل كامون) في عوالم سوداوية يسودها الاستغلال، ويتكشف لهما أثناء بحثهما عن حقيقة موت “زيتا” فظاعات اغتصاب وانتهاك أجساد نساء مهاجرات، بعضهن يُجبر على امتهان الدعارة، وحتى التعرض للقتل بغطاء رسمي.

الممثل “دانييل فارالدو” الذي قام بدور المحامي الذي تعطاف مع عدد من المهاجرين وتوكل للدفاع عن قضايا لجوئهم

 

صراع الشرطة وباعة الرصيف.. ثنائية الخير والشر

لا يتردد فيلم “امرأة غير شرعية” في اقتحام مغامرة “الخير والشر”، تلك الثنائية التي يخاف سينمائيون كثيرون من الوقوع في مطباتها، ويتجنبونها خشية من وصم أعمالهم بالسذاجة والتبسيط.

يضع صانع الفيلم في جهة الشر ضابطا فاسدا متعجرفا وعنصريا، لكنه يستغل قبحه واستهتاره بالقوانين ليمرر من خلالها قصصا ثانوية تنفع النص الأصلي، وتحيله إلى منجز سينمائي متماسك ومتعدد المستويات.

يصور الضابط “أوريول كاديناس” (الممثل إيساك فيريث) مع رجال شرطة آخرين وهم يشنون حملات اعتقال ضد باعة مهاجرين يعرضون بضاعتهم الرخيصة على الرصيف، حيث يهددونهم إما بالطرد، أو دفع رشوة لهم، وفي أحيان كثيرة يأخذون بضاعتهم، وحتى لا ينكشف أمرهم فإنهم يرحلونهم من البلاد عبر مركز الاحتجاز.

الممثلة “يولاندا سي” التي قامت بدور النيجيرية “جوليت أوكورو” صديقة الكوسوفية التي تم قتلها على يد رجال الشرطة الإسبان

 

إسكات الضحية.. تحالف الشرطة وزعماء العصابات

تقود قصة بائعة الهوى المحامي والناشطة المدنية إلى صديقة لها نيجيرية اسمها “جوليت أوكورو” (الممثلة يولاندا سي)، فقد كانت تعمل معها في نفس الماخور، وتعرف أن موتها لم يكن انتحارا، وذلك لعلمها بوجود علاقة بين مقتل خطيبها على أيدي رجال شرطة كانوا مشتركين معه في الاتجار بالممنوعات، لكنه عندما أعلن لهم عن رغبته بترك ذلك العالم والعيش مع خطيبته حياة سوية، قرروا قتله أمامها، ولإسكاتها وعدم كشف الحقيقة أمر الضابط بتصفيتها بتواطؤ مدير مركز الاحتجاز معه.

وتكشف تحرياتهما أن الشابة القتيلة قد تعرضت للضرب والتعذيب قبل تصفيتها، وأن مئات المهاجرين المحتجزين يقبعون في زنزانات، ويتعرضون للابتزاز والتهديد والانتهاك الجسدي.

يقود التحري إلى حقيقة ارتباط مركز الاحتجاز بعمليات الاتجار بالبشر، وبرؤساء أوكار الدعارة والمخدرات، وسط ذلك الفساد تنشأ علاقة غير سوية بين الضابط والشابة النيجيرية. ومن بين بائعات الهوى -الذين يتواصل معهن جسديا بالتهديد- يختارها لتكون خليلته، لكن عند اكتشافه صلة الصداقة بينها وبين القتيلة؛ يقرر التخلص منها عبر ترحيلها عنوة إلى بلدها.

الممثلة “راكيل كامون” بدور الناشطة المدنية العربية الأصل “فاطمة جامد” التي تكشف الوجه القبيح للقادة اليمينيين في إسبانيا

 

أرشيف الصور والشهادات.. فرصة سانحة لإدانة الفاسدين

يتصاعد الصراع بين الطرفين، ومعه تتكشف مواقف عنصرية متجذرة، وسلوكيات لا ترى في المهاجر سوى كائن من الدرجة الثانية، وهذا الموقف الدوني يزيد من غضب الناشطة فاطمة، ويدفعها للمشاركة في ندوات تلفزيونية تكشف خلال محاوراتها الوجه القبيح للعنصريين والقادة اليمينيين في إسبانيا، ومن جهة ثانية تتعمق صلتها بمحام نزيه وشجاع يقف بالضد منهم، ويتعاطف مع بشر يفتح لهم بيته ويستقبلهم بما يليق بآدميتهم، معاندا -بسلوكه هذا وإصراره على كشف الحقيقة- الضغوط والتهديدات التي يتلقاها من ضابط الشرطة.

يترافق التصعيد الدرامي طيلة زمن الفيلم مع موسيقى تصويرية رائعة كتبها خصيصا له الموسيقار “ديفيد سولار”، إيقاعاتها المتصاعدة تتناسب مع أجوائه الآخذة بالتوتر كلما اقترب المحامي والناشطة المدنية من كشف تورط الضابط ومدير المركز في قتل المُحتجزة لديهما.

وبالصور الملتقطة لجثتها المشوهة وبالكشف عن ماضيها وبشهادات شهود، توفرت للمحامي فرصة توجيه تهمة استغلال المنصب للضابط.

منع إقلاع طائرة من مطار إسبانيا وإيقاف ترحيل الشابة النيجيرية التي قرر أحد الضباط الإسبان التخلص منها

 

إغلاق بؤرة الفساد.. حين يصدح القضاء بكلمته

المخرج “رامون تيرمينس” هو صاحب أعمال سينمائية مهمومة بالهجرة وكاشفة للتمييز، كما في فيلميه “كتالونيا فوق الجميع” (Catalunya Uber alles) و”بوينس آيريس السوداء” (Negro Buenos Aires).

يخصص “تيرمينس” فصلا مشوقا من فيلمه “امرأة غير شرعية” المعروض على منصة “نتفليكس” عن عملية إيقاف ترحيل الشابة النيجيرية، ومغامرة المحامي وفاطمة الناجحة في منع إقلاع الطائرة من المطار، لينقل الفيلم معها إلى مستوى آخر تتعرى فيه الممارسات المشينة والعدائية لأجهزة الشرطة، وفي جانب آخر يتعزز التضامن الإنساني عند أشخاص ما زالت في قلوبهم رحمة.

حصيلة الفيلم إدانة القضاء للضابط ومدير مركز الاحتجاز بالجرائم التي ارتكباها وبالفساد الذي تورطا به، لكن أسباب استغلال المهاجرين وبشكل خاص النساء منهن ما زالت مستمرة، وينبغي العمل على إيقافها بفضحها علنا، ذلك ما يجسده المشهد الأخير الذي يظهر فيه المحامي بجانب الناشطة المدنية وسط تظاهرة حاشدة تطالب بإغلاق مركز الاحتجاز، وذلك بوصفه بؤرة للفساد، وعلامة على وجود بشر أبرياء ما زالوا بين جدرانه يعانون دون ذنب من آلام التمييز والاستغلال.

 

الناس يولدون أحرارا على الأرض.. نهاية متفائلة

مثلما داخَلَ “امرأة غير شرعية” بين الوثائقي والروائي في مُفتتحه الجميل، فإنه يختتم بشجاعة مساره بذات الأسلوب الذي افتتح به، فيظهر على الشاشة مهاجرون حقيقيون يحكون بإيجاز بعضا من تجاربهم في إسبانيا.

قصص ونهايات تشي بقوة نساء قاومن الظلم ونجحن في تربية أطفالهن على قيم الخير والعدل، إنها نهايات متفائلة منقولة بروح مرحة تواقة للعيش السوي مع بقية بشر يرفضون وجود قوانين وتوصيفات تفرق بين البشر، انطلاقا من فكرة أن الناس يولدون أحرارا على الأرض، وبالتالي لا وجود فيها لإنسان شرعي وآخر غير شرعي.