“التنقيب”.. نبش في كنوز الآثار والذاكرة البريطانية

د. أحمد القاسمي

يحمل الفرد ماضيه في ذهنه، وكلما رغب في استعادته توظيفا لخبراته في فهم الراهن لجأ إلى ذاكرته، واستخدم قدرته على القص، أما الجماعات قبل انتشار الكتابة والتدوين، فكانت تدفن ماضيها وأسرارها في بطن الأرض، فلا يدركها قاصدها اليوم إلا عبر الحفر والتنقيب.

وقاصدو الماضي الإنجليزي كثر، فقد غدت بريطانيا في القرنين الماضيين إمبراطورية تبسط سلطانها في العالم بأسره، حتى عُرفت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ودفعت هذه النخوة مواطنيها بداية القرن العشرين إلى النبش في الماضي القديم بحثا عن امتداد هذه العظمة في التاريخ، فانتشرت ظاهرة التنقيب عن الآثار، ولم تخل من مغامرات شيقة ومفاجآت مذهلة كانت إحداها موضوع فيلم “التنقيب”.

 

“سوتن هو”.. كنز الذهب يكشف أعظم الثروات الأثرية

يحكي فيلم “التنقيب” (The Dig) -الذي أنتج 2020- للإنجليزي “سيمون ستون”، عن استئجار السيدة الثرية “إيديث بريتي” سنة 1939 للمُنقّب المحترف “بازل براون”، ليبحث عن آثار ممكنة في أراضيها بموقع “سوتن هو” (Sutton Hoo).

فشلت عملية الحفر الأولى، وانتهت بانهيار أرضي غمر المُنقّب بالتراب، وكاد يودي بحياته، لكنه أعاد الكرّة في موقع مجاور، لينجح في الكشف عن قارب يعود إلى العصر “الأنجلو ساكسوني” (القرن السادس ميلادي)، ويتضمن كنزا ذهبيا كبيرا.

لم يكن المغنم المالي وحده العظيم، فقد قدّر المختصون في التراث أن قيمته التاريخية أثمن بكثير من بريق ذهبه، وبالفعل فقد عُدّ الحدث من أكبر الاكتشافات الأثرية في إنجلترا، وشكّلت قطعه علامات أعاد في ضوئها المؤرخون تدقيق معارفهم حول تلك الفترة المجهولة من تاريخ بريطانيا، وتعاظم فخر البريطانيين بتاريخهم.

لم تخلُ أحداث الفيلم من جراح وأوجاع، فإثر هذا الاكتشاف الكبير تولى المتحف البريطاني مسؤولية الموقع، فيشرف الأكاديمي “شارل فيليب” وفريق البحث التابع له على الحفريات، وحينها تتدهور صحة مالكة العقار، وينسب الإنجاز إليه ظلما، ويهمل دور “بازل براون”، ويعامل معاملة مهينة.

موقع “سوتن هو” الذي يتم البحث فيه عن آثار ممكنة بين الحقيقة التاريخية على اليمين والتخييل الفيلمي على اليسار

 

نبش عن الحكاية بين ثنايا التراب.. تزاوج الأدب والسينما

يوجد بين الفيلم وموضوعه تشابه عجيب، فكما ينقّب السينمائي عن الحكايات العجيبة فيجمع أشلاءها ويُعيد تركيبها ويُشكل منها عوالم الإيهام الفاتنة؛ ينقب عالم الأثري عن الآثار لجمعها، ويتقصاها ليستخرج منها قصص الأمس.

لا شيء ينافس قدرة الآثار في إعادة تشكيل عوالم الماضي وقد أضحت حكايات تسرد، ولا يوجد مورد لهذا الإيهام كالأدب، فهو يهب الحكايات الشيقة، لذا اقتبس الفيلم مغامرته من رواية بالعنوان نفسه للصحفي والكاتب الروائي البريطاني “جون بروستون”، نشرت أول مرة سنة 2007.

لكن للحكاية حكاية بدورها، فنواتها الأساسية على علاقة بالواقع والتاريخ معا، فقد عاد الروائي إلى وقائع حدثت بالفعل سنتي 1938-1939 في “سوتن هو”، لكن متى كان الأدب يستنسخ الواقع؟ فهو يخلقه من جديد في عالم النصّ وهو يعيد صياغة أحداثه.

يذكر الكاتب بالفعل أنه ما اهتم بالموضوع وحوّله إلى رواية إلا بعد أن علم أن عمته “بيجي بيجوت” عالمة آثار كانت تعمل ضمن الفريق المُكتشف للموقع، وأنها أول من وجد قطعة من ذهب الكنز، لكنه لم يسمع الحكاية منها مباشرة، فالخبر لم ينته إليه إلا بعد موتها، وذلك لضعف صلته بها كما يذكر في تصريح له لصحيفة “الديلي ميل”.

وللقارئ عندئذ أن يتوقع أن الروائي قد قام ببحث ليجمع تفاصيل الحكاية، وأن مصادره تراوحت بين السماع من أفراد العائلة والعودة إلى التحقيقات والتقارير الصحفية حينئذ. ولا شك أنه سيضيف عناصر يقتضيها تناغم الأحداث ومنطقيتها، وأنه سيبحث عن مثيرات تمنح الحكاية سحرها وجاذبيتها، وتعرض موقفه من بعض الأحداث.

هذا ما يؤكده في تصريحه المشار إليه أعلاه، فيذكر أنه رمى من خلال كتابة هذه الرواية إلى أن يلفت الأنظار إلى قيمة الآثار، وأن يحذّر من مغبّة العبث بها، ثم مثّل الاقتباس الفيلمي حياة جديدة للحكاية بعد أن كانت علامات مخبأة بين ثنايا التراب، ثم كلمات بين دفتي الكتاب، فكانت للحكاية حكاية بدورها لا تقل عنها إثارة.

السيدة “إيديث بريتي” هي مثال جيد للشباب والجمال واللطف في التعامل مع محيطها

 

“إيديث بريتي”.. مثال الرومانسية والتراجيديا الكلاسيكية

السيدة “إيديث بريتي” هي مثال جيد للشباب والجمال واللطف في التعامل مع محيطها، مع ابنها ومع موظفيها، وعلاقتها مع المنقب “بازال براون” شاهدة على ذلك، فبعد أن تستأجره للعمل في أراضيها، توافق على منحه الأجر العادل بعد أن كان الآخرون يستغلونه، وتوظّف له مساعدين اثنين كما يحب، وحين تُلاحظ ضيقه تشدّ من أزره فتلاطفه، أو تدعوه إلى العشاء معها.

وعلى العموم فقد عمل الفيلم كثيرا على الارتقاء بها إلى مستوى الشخصية النموذجية، فهو يختزل فيها القيم الأخلاقية الأصيلة، فيُعلي من قيمة الوفاء والبر بالوالدين من خلال رعايتها لوالدها المريض منذ 13 سنة، فقد ظلت أثناءها تسهر على راحته، وترفض من أجله الزواج من الكولونيل الذي تحب، ولفتنة المتفرّج بها يجعل الفيلم الكولونيل يبادلها وفاء مثيلا، فقد ظل يُجدّد خطبتها لها كامل هذه المدة مرة في السنة، بجعلها هدية عيد ميلادها.

لم تقبل “إيديث” بعرض الكولونيل إلا بعد وفاة والده، ولكن الحياة لم تسعفه كثيرا ليهنأ بصحبتها، فيفارق الحياة مُخلّفا لها ابنا وحلما بالعثور على الكنز في أرضهما المشتركة، ولا شكّ أنّ الوفاء للوطن سيكون أفضل تجسيد لهذه القيمة، فالأرملة الثرية تربح القضية التي تخوّل لها الاحتفاظ بالكنز باعتباره ملكية خاصة، لكنها تتنازل عنه لفائدة الدولة، ورغم كل هذه العناصر الإيجابية تقسو عليها الحياة ولا تبادلها الكرم نفسه، فتجردها من عطف الأب، ثم من حماية الزوج العاشق، ثم تأخذها بعد معاناة طويلة مع الموت.

المُنقّب المحترف “بازال براون” المعروف بذكائه وعصاميته وحبه لعمله

 

“بازال براون”.. منقب عصامي تسرق منه الحياة نجاحه

تمثل شخصية “بازال” قطبا ثانيا تدور عليه أحداث الفيلم، فالرجل بسيط عصامي التكوين، تعلّم مهنة التنقيب من والده، وهو يدرك بفطرته ما عليه أن يفعل قبل أن يدركه بعقله، ولمهارته هذه يُقبل عليه المستثمرون في هذا المجال، ولعصاميته يعملون على استغلاله وتوظيفه بأجر زهيد.

ورغم ظروفه هذه يظل “بازال” شخصية مستقلة قادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، ومن عناصر الجذب في شخصية الرجل ذكاؤه الوقّاد الذي يحوّل عناصر الوجود إلى علامات منبئة بوقائع الماضي وحضاراته، فتزاح الحجب أمامه لينظر في الفضاء وفي الزمن أيضا، فها هو يقدّر بنظرة واحدة أن هذه الأرض تضم في أحشائها مقابر قديمة، وأن توزيع التراب يلمح إلى انتمائها للعصر الأنجلوسكسوني، وأنّ شكل ترصيفه يدل على عبث اللصوص به، وها هي ذي الحفريات تؤكد حدسه.

ومن صفاته الحميدة حبه لعمله وإخلاصه فيه، فالبحث بين ركام الأتربة أكثر من عمل، إنه حالة وجود يعيشها بكل جوارحه، فيهجر إليه زوجته ويتجاهل رسائلها، فتتفهم انشغاله وتمنحه حبها ولطفها، وبقدر الإخلاص يكون الجزاء، فيكتشف القارب وما يضم بين دفتيه من الذهب، وتبدأ معه رحلة جديدة في قراءة العلامات وكشف قصص الماضي المطمورة تحت التراب، لا شك أن القارب يعود إلى ملك عظيم أو إلى قائد مظفر استعمله في حرب وراء البحار، فما الذي يجعل مئات الرجال يجرونه إن لم يكن رجلا عظيما؟

وعبر العلامات يورّط المتفرّج في تخيّل موكب سحب القارب المهيب بواسطة عشرات الخيول. ورغم الجهد المبذول في خلق شخصية المنقّب العميقة، يجعل الفيلم نهاية “بازال براون” حزينة، فحالما يتأكد اكتشافه العظيم يقتحم عليه الباحث الأكاديمي “جون فيليب” عالمه ويسرق منه الأضواء، ثم ينسب إلى نفسه الاكتشاف دون “بازال”، بل إنه يهينه فلا يسمح له بأن يتصرّف إلا بإذنه.

“إيديث بريتي” رفقة “بازال براون” قبل الانهيار الأرضي الذي كاد يودي بحياته

 

أصحاب الكنز.. نموذج البطلين الذين أنهكهما المرض

يدرك المخرج جيّدا أننا نستهلك الحكايات بنهم، فنهربها من ثقافة إلى أخرى، أو من عصر إلى آخر، أو من فن إلى آخر، وأننا نجد قصص البائسين والمحطمين الذين تقسو عليهم الأقدار أجمل القصص، لذلك يجعل من “إيديث بريتي” و”بازال براون” نموذجين لهذه الشخصيات المريضة والبائسة والمحطمة رغم النجاحات. ولئن جعل مرض “إيديث” عضويا، فإن مرض “بازال” كان روحيا وجوديا، فقد سُرق مجهوده العلمي، وتعرض للإهانة في الموقع الذي اكتشفه.

وعبر التعاطف معهما يستدرج المتفرّج ليغوص في الحكاية، فيدخل غرف التاريخ المظلمة لينير عتمتها، ولفهم حاضر البلاد في ضوء ماضيها، وترك رسالة عن تصور ما يجب أن يكون عليه المستقبل؛ ألا وهو أنّ بريطانيا لم تمثل مركز السياسة العالمية والمؤثر الرئيسي فيها إلا لعظمتها المتجذرة في التاريخ، وأن هذا لم يتحقق إلا بوجود شخصيات وطنية تنكر ذواتها وهي تخدمها.

ومن شأن الحكايات الملهمة والنهايات الحزينة أن تنتزع المتفرّج من حياده، وتعطف قلبه على مثل هذه الشخصيات وهي تصورها في شكل نماذج عليا، ولعلّها حرّكت فيه آلاما دفينة، وجعلته وهو يتابعها يستعيد تجاربه على نحو ما.

وعندئذ يمثل مسارها خارطة طريق ترشده إلى السبيل الذي يجب أن يقطع؛ ألا وهو مواجهة المحن بجلد وصبر وحكمة، وعدم التفريط في القيم الأصيلة مهما انحرف الآخرون، وبالفعل ينجح الفيلم في انتزاع الإعجاب بوطنية هذا الثنائي، لكن لنتخيّل نحن كيف سيكون الأمر بالنسبة إلى المتفرّج العربي وهو يرى آثاره المنهوبة تُزين المتاحف الأوروبية وساحاتها العامة؟

السيدة “إيديث بريتي” تتناقش مع الأكاديمي المتعالي “جون فيليب” حول مصير الكنز

 

أمانة الفيلم.. خيال فني يخون الواقع والرواية

كما هو الحال بالنسبة إلى كل فيلم مقتبس، فقد تسارعت الأقلام إلى طرح ثنائية الأمانة والخيانة، وهل يسلم من مواجهتها فيلم منحدر من أصل أدبي، أو مستلهم لأحداث حقيقية من هذه المقاربة الساذجة؟

إن إلقاء نظرة على ما كتب حول الفيلم في مواقع النقد الغربية يكشف مدى الترحاب به، وفي الوقت نفسه يلمس نبرة مرارة مردّها تعامل النص مع الوقائع بحريّة، وعدم احترامه لحرفيتها التاريخية، فما أشير إليه من أن “روري لوماكس” قريب “إيديث بريتي” الذي استقدمته لمساعدة “بازال براون” في عمليات الحفر لم يوجد في الحقيقة أصلا، إضافة إلى أنّ السيناريو جعل هذه الشخصية الموهومة مغرمة بالتصوير الفوتوغرافي، ونسب إليها التقاط صور الموقع، فحرم “باربارا واغستاف” و”مورسي لاك” من حقيهما المشروع باعتبارهما من التقطاها.

ومن ذلك ما ذكر الفيلم من أن “بروستون بوجي” زوجة عالم الآثار “ستيوارت بوجي” طالبة متدربة، وأنها تعيش علاقة فتور بزوجها، والحقيقة أنها لم تكن متدربة في الأصل، ولم يقع استقدامها إلى موقع “سوتن هو” بفضل زوجها، وإنما كانت باحثة آثار مجربة.

ويدين بعضهم تحجيم دورها في الاكتشاف في ما وجد من الوثائق، ويردّه إلى تعامل ذلك العصر مع النساء، ويجد أن الفيلم قد انساق في هذا الاتجاه، فيصورها واقعة في الخيانة الزوجية، والحال أن “روري لوماكس” العشيق المزعوم شخصية مختلقة، أما العلاقة بين “بازال” و”جون فيليب” فكانت جيدة، ولم يتوان الثاني عن مدح عبقرية الأول والثناء على دوره، وإن لم ينسب إليه الإنجاز برمته رسميا.

لقد غفلت هذه القراءات عن كون الفيلم اقتباسا حرّا وتخييلا يُقيّم وفق انسجامه الداخلي وتشكيله الجمالي، لا من منطلق الخيانة والأمانة الذين يعكسان توجها أخلاقيا في النقد.

 

صدام المتناقضات.. صناعة التشويق الدرامي المتصاعد

لم تخلُ القراءات النقدية من تسرع حجب عن أصحابها الغايات التي رمى إليها المخرج، فالفيلم النمطي يقتضي بناء عضويا مترابطا ومتصاعدا في الوقت نفسه، وأول مراتبه خلق الصراع بين أطراف متناظرة، حتى أن مُنظّر السيناريو الأمريكي “سيدْ فيلد” ما فتئ يُذكّر الكُتّاب باستمرار بأن فيزياء “نيوتن” أساس الكتابة السينمائية، وأن “كل حركة لها حركة مقابلة تماثلها في القوة وتعاكسها في الاتجاه”.

وعليه فقد كان “سيمون ستون” يصهر أجزاء الحكاية في خط درامي متصاعد، ويوجد الروابط بين الشذرات المتنافرة، لتُشكّل خطا دراميا متصاعدا يرفع من منسوب التشويق، وقد خلق شخصيات محببة تمثل القيم الأصيلة تواجه شخصيات أخرى منفرة قيمها أقل أصالة وصفاء.

من هنا يتأتى الصدام بين “بازال براون” الموهوب المتسامح و”جون فيليب” الأكاديمي المتعالي، أو بين “إيديث بريتي” التي ترمز إلى التضحية والفداء، وتجار الآثار المبتزين، فكان الفيلم أساسا يعمّق ما به يكتسب شرعية الانتماء إلى الفن السينمائي، ويشكل رسالة ملخصها أن بناء بريطانيا عظيمة لا يحتاج المعرفة فحسب، ولا يحتاج مالا ومضاربات اقتصادية بقدر ما يحتاج القيم المعنوية والأخلاقية الأصيلة، وأن بريطانيا المنشودة بلاد لا تتنكر لمن ضحوا من أجلها دورهم.

يقدّم الفيلم نفسه باعتباره إحياء لذكرى البطلين “إيديث” و”بازال” وتكريما لهما، وخلقا لمضامين جديدة تعبر عن وجهات نظر المخرج حول سبل العيش معا في وطن واحد، وليس ترجمة للحكاية الأدبية من العبارة إلى المشاهد والصورة.