“العرب الغربيون”.. صراع داخلي يمزق عائلة فلسطينية في المهجر

محمد موسى

كما هو الحال في أفلامه الروائية العنيفة، يُقارب المخرج الدنماركي ذو الأصل الفلسطيني عمر شرقاوي حياته الشخصية الملتبسة بنفس العنف والمكاشفة، فيقدم في فيلمه التسجيلي الجديد “العرب الغربيون” صورة قاتمة كثيرا عن ثمن الاغتراب وصراعات الهوية لعائلته المشتتة الجذور.

يركز الفيلم على أبي العائلة منير، وهو الفلسطيني الذي لجأ في شبابه إلى الدنمارك، وتزوج من دنماركية، وخلف أبناء منهم عمر الذي يُمثل ويخرج منذ سنوات أفلاما باللغة الدنماركية، وأحيانا بالعربية.

لا يحيد المخرج الدنماركي عن أسلوبه الصادم الذي طبع أفلامه الروائية العنيفة، فهو يوجه منذ المشهد الأول من مشروعه التسجيلي الكاميرا على أزمة الوالد الفلسطيني الخانقة، فيصوره في شقته ذات الأثاث الرخيص وهو غاضب من ضوضاء الشارع من حوله.

 

“أقسم بأنني سأقتل ذات يوم هذا الصبي الصربي”

“أقسم بأنني سأقتل ذات يوم هذا الصبي الصربي”، هكذا كان منير يصرخ بالكاميرا، فقد كان ناقما على صبي كان يسوق دراجته النارية برعونة، ويصدر أصواتا عالية.

منير بالحقيقة مستاء من تغيير التركيبة السكانية للحي الذي يسكن فيه، ويُذكر ابنه بحال الحي عندما سكنه قبل أكثر من ثلاثين عاما، وكيف أن “الأجانب” أفسدوا الحياة في المنطقة.

يشي ذاك المشهد الافتتاحي للفيلم الوثائقي بحياة صاخبة للأب انتهت بالخسارات، فهو يعيش وحيدا في حي يتبدل سكانه، وهو ناقم على الظروف التي قادته إلى هذا الحال، بيد أن أزمته الأساسية تتمثل في علاقاته المتوترة مع أولاده، وبالخصوص مع ابنه عمر، فهو من جهة لا يقدر على فراق والده، وفي الوقت ذاته لا يستطيع تحمل طباع هذا الوالد وغضبه الذي يُمكن أن ينفجر في أي لحظة.

صورة تجمع الأب الفلسطيني منير بزوجته الدنماركية التي انفصلت عنه منذ زمن طويل نظرا لطباعه القاسية

 

سنوات الغضب.. تسلل الكاميرا إلى جحيم طباع الأب

لا يهتم فيلم “العربي الغربي” بمعالجة فيلمية تشرح تاريخ عائلة منير، أو يبّين دوافع الشخصيات حتى يمكن فهمها، بل يقذف في المقابل الكاميرا في وسط الواقع لتسجل لحظات عنيفة.

هناك مشاهد في رُبع الفيلم الأول تُفصح قليلا عن أزمة العائلة، فنعرف مثلا أن منير انفصل عن زوجته الدنماركية منذ زمن بعيد، وأنها ستظهر في مشاهد قليلة في الفيلم، أحدها كان قاسيا جدا، عندما تحدثت لابنها المخرج عن طباع أبيه الصعبة، وأن هذا الأب غير قادر على تغيير هذه الطباع لأسباب عدة.

يتبين تدريجيا عبر زمن العمل التسجيلي أن الفيلم سجّل حياة الأب منير على مدار سنوات عدة، أحيانا بكاميرات صغيرة سيئة الجودة، ذلك أن الأب نفسه كان لا يطيق وجود الكاميرا، وكان يصرخ بابنه أحيانا أن يوقف التصوير، بينما كان المخرج يُخفي في أحيان أخرى الكاميرا، أو يتركها تُسجّل مناكفاتهما دون علم الأب.

اشتغل منير مع ابنه عمر في بعض أفلامه الروائية، وذلك بسبب رغبة الابن نفسه وبممانعة من الأب، وكان الأب كثيرا ما يهدد بترك العمل، حتى أنه ترك التصوير مرة وأغلق هاتفه حتى لا يرد على الابن، وعندما كان يرد على الهاتف، كان يطلب بحزم من ابنه أن يتوقف عن الاتصال به وتركه يعيش بسلام.

صورة تجمع الأب منير الحاد الطباع بابنه المخرج عمر شرقاوي الذي سأل والده عن ماضيه قبل وصوله الدنمارك

 

تقارب الطباع وتنافر العواطف.. شخصية الأب والابن

دائما ما يوجد توتر عندما تجتمع العائلة، أحيانا بسبب الأب، وكثيرا بسبب الأبناء أنفسهم، إذ يبدو أنهم لم يتصالحوا مع مواجهة ماضيهم، ففي واحد من المشاهد العنيفة في الفيلم، يتطور النقاش بين المخرج وأخيه إلى معركة بالأيدي، وتكاد الكاميرا أن تسقط وهي تصور ذاك الموقف.

يتنقل الفيلم التسجيلي بوقته بين الأب وعمر، فيولي الابن اهتماما كبيرا، حتى بدا أحيانا أن الشخصيتين تكملان بعضهما لجهة علاقتهما بالماضي وتفاعلهما مع الواقع، واصطدامهما بنفس القضايا التي يفشلان في التعامل معها.

سأل المخرج أباه في مناسبات عدة عن ماضيه قبل وصوله إلى الدنمارك، بينما كان الأب الغارق في مشاكله الخاصة مشغولا بالحاضر المُعقّد، وعلاقاته المتوترة مع القريبين من حوله.

لا نعرف الشيء الكثير عن المخرج نفسه، وبالتحديد عن حياته الخاصة، فرغم وجود ابنة له تظهر في الفيلم، فإنه يُبقي حياته الخاصة بعيدا عن الفيلم، وربما لا تقل تعقيدا عن حياة أبيه.

تصل أزمة عمر إلى حدود مُقلقة عندما يقوم بضرب أحد الممثلين العرب في فيلم من أفلامه، وهو أمر ستسجله إحدى الكاميرات، بل سترافق الكاميرا جهود البعض في تضميد جراح الممثل.

كانت المواجهة بين منير وعمر هي السائدة في أكثر من نصف الفيلم، وقليلة جدا كانت لحظات الصفاء، حيث لم يهتم الفيلم بالبحث في أسباب المواجهة أو تحليلها، بقدر تصويرها بكل تعقيدها وأحيانا عنفها.

المخرج عمر شرقاوي في تظاهرة احتجاجية ضد العدوان على غزة في كوبنهاغن

 

“إلى متى سيتفرج العالم على موتنا؟”.. فاصل الوجع الأعظم

يظهر الفيلم إحدى حروب غزة دون أن يحدد أية حرب هي، وتكون فاصلة في الفيلم، من حيث إنها تجبر الشخصيات على أخذ فسحة بعيدا عن مشاكل العائلة، والانغماس مرة أخرى في الجرح العام النازف.

ترصد كاميرا الفيلم منير وهو يتفرج على قناة الجزيرة الإخبارية التي كانت تنقل الموت الفلسطيني، حيث خفّت تعليقات الرجل وهو يحاول أن يخلص ما تعنيه مشاهدة صور الدمار ذاتها، وكانت غرفته خالية إلا منه ومن سجائره التي تحترق واحدة تلو الأخرى.

يخرج الفيلم من بين جدران بيت منير، ويصور غضب فلسطينيين وعرب يعيشون في الدنمارك، ومرة أخرى لا يلجأ الفيلم لأساليب تقليدية وهو يصور احتجاجات الغاضبين في العاصمة كوبنهاغن، بل يبقى مع العالم المعتم الذي صنعه عبر استخدام ألوان خاصة، وعن طريق التصوير بكاميرات صغيرة كانت لا تتوقف أحيانا عن الحركة.

“إلى متى سيتفرج العالم على موتنا؟” تصرخ امرأة فلسطينية في تظاهرة غزة، بينما كانت الكاميرا تتنقل على وجوه الواقفين، وتتوقف على وجه عمر شرقاوي الذي كان يختصر بحزنه وغضبه المناسبة برمتها.

الأب منير في شبابه، حيث يتذكر أصوات الرشاش والمدافع في حيفا

 

“سقطت على الأرض من الصدمة”.. رحلة إلى مرابع الطفولة في حيفا

يقنع المخرج أباه في النهاية على التعاون والذهاب معه من أجل رحلة الفيلم إلى فلسطين المحتلة لمعاينة الأماكن الأولى التي عاش فيها الأب قبل هجرته، ويظهر الوالد وابنه واقفين في حيفا أمام البيت الذي كان يوما مكان طفولة الأب، وعندما يدخلان إلى البيت يتذكر الأب أصوات الرشاش والمدافع، وكيف هاجر وحده إلى المجهول وقتها.

افترق منير عن أمه لستة أعوام، وعندما وصل إليها أخيرا إلى بيتها في العاصمة الأردنية عمّان لم تعرفه في البداية، وسألته على الباب عن هويته. يصف منير تلك اللحظات الخاصة كثيرا قائلا: سقطت على الأرض من الصدمة.

يبقى عمر في الأراضي الفلسطينية، ويذهب الى رام الله، ويتنقل بعدها بين القرى والمدن الفلسطينية، ويقابل البدو الرّحّل، ويحكي لهم بعربية ضعيفة قصته وقصة أبيه.

وفي أول إشارة عن الزمان في الفيلم، يُصوّر المخرج مشاهد من العاصمة المصرية القاهرة أثناء ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011، وينقل من هناك شهادات تتماشى مع مناخات العنف والتيه التي تلفّ المنطقة.

الأب منير الذي حوله المرض لجسد ضعيف لا يكاد يقوى على حمل رجليه

 

ذبول الأب.. لحظات من الانسجام والوجع العائلي

لا يبدو أن الزمن يشفي جروح العائلة، إذ يواصل الفيلم نقل لحظات سوداوية من حياتها، وتستمر على هذا المنوال حتى مرض الأب بمرض خطير، ليتحول الفيلم في رُبعه الأخير إلى تسجيل يوميات مرض الأب الذي سيدفع العائلة إلى نسيان خلافاتها مؤقتا، والوقوف مع أبيها الذي كان يعاني كثيرا.

ولأن الفيلم صُوّر على طوال أكثر من عشر سنوات، فإن الفروقات التي طرأت على سحنة منير بسبب المرض تبدو واضحة ومخيفة، فقد كان رجلا يتمتع بقامة طويلة وجسم ضخم، حتى حوّله المرض لجسد ضعيف لا يكاد يقوى على حمل رجليه.

يبقى الفيلم مع الأب إلى الأيام الأخيرة من حياته، يصوره وهو يكاد يختفي تحت المعدات الطبية في المستشفى الذي كان يرقد فيه في العاصمة كوبنهاغن، ثم يُصوّر في وقت لاحق جنازة الأب التي جمعت الأبناء والأحفاد والزوجة السابقة، ومُشيّعين كثرا غصّ بهم الجامع الذي انطلقت منه الجنازة.

وفي مشهد طويل شديد التأثير، بكي عمر والده وكأنه كان يبكي آلام حياته كلها ووجع الشرق الأوسط، وتمنى أن ترجع كل الأيام الماضية مع أبيه رغم خلافاتها ونزاعاتها.

المخرج الفلسطيني عمر شرقاوي الذي أخرج العديد من الأفلام عن الغربة والهجرة والثورة

 

عمر شرقاوي.. سينما الغربة والهجرة والثورة

فيلم “العرب الغربيون” هو الوثائقي الثالث لعمر شرقاوي (47 سنة)، وذلك بعد فيلمي “نصف ثورة” (2011) عن الثورة المصرية التي سجل فصولا منها، وفيلم “أبي من حيفا” (2010) عن والده منير الذي ترك حيفا طفلا في عام 1948.

وبقي المخرج في الأفلام الروائية التي أخرجها بألوان الشرق الأوسط، فهي تحضر في قصة فيلم “المدينة” (2015)، عن فلسطيني يعيش في الدنمارك يقرر العودة إلى فلسطين مع زوجته الدنماركية للعيش هناك، وفيلم “لا تنسيني يا إسطنبول” (2010) عن أُمّ فلسطينية تسافر مع ابنتها إلى تركيا للقاء أقارب لهم هناك.

وتدور قصة أول أفلام المخرج “اذهب بسلام يا جمال” (2008) عن عالم المهاجرين العرب في الدنمارك، ويحكي بعضهم قصص حبهم وكرهم للبلد الجديد.

ما يميز فيلم “العرب الغربيون” هو المناخ الخاص الذي يصنعه الفيلم، سواء عبر الألوان المستخدمة، وحركة الكاميرات وزوايا التصوير المتوترة وغير المعتادة، حيث يعكس التوتر الذي خلقه الفيلم ذاك الخاص بالشخصيات، حتى يبدو أن شيئا ما قريب من الانفجار في أي لحظة.

يبدو الماضي عند شخصيات أفلام شرقاوي -سواء الروائية أو التسجيلية- كإرث قلق يُعكّر صفو الحياة وينغّصها، ولا يمكن الافتكاك منه أبدا، ويُحدد إلى مدى بعيد مسارات الشخصيات وأقدارها.