“إبراهيم”.. علاقة عائلية مختلفة في الضواحي الفرنسية

 ندى الأزهري

يُحبّذ أبناء الضواحي الفرنسية أن تدور أفلامهم حول محيطهم الاجتماعي والمكاني، أفلام كهذه يتزايد حضورها على الشاشات السينمائية الفرنسية، وذلك لما تقترحه من مواضيع جديدة تنطلق بالسينما نحو فضاءات أكثر اتساعا، وفئات اجتماعية أشد تنوعا.

إنها فئات كانت مهمشة سينمائيا حتى وقت قريب، وإن سبق وظهرت في بعض الأفلام، فذلك في حالات فردية ذات خصوصية ضمن قصة رئيسية لا علاقة محورية تربطها بهذا المجتمع، فالسينما قليلا ما انجذبت نحو الطبقة العاملة، وهي تهتم أكثر بالطبقات البرجوازية.

قد تكون مضامين تلك الأفلام متوقعة في أكثر الحالات، لكن يبقى ثمة أمل لدى مشاهدها في الوقوع على أسلوب معالجة يوفّر جديدا، ويتعامل على نحو مبتكر وجاذب مع مواضيع مطروحة بل مستهلكة أحيانا.

إذ أن أفلام الضواحي الفرنسية تدور حول سكانها الذين هم في معظم الأحيان من عائلات مغاربية الأصل أو أفريقية، وهي تتطرق لأساليب عيش وطريقة تفكير، وتستعرض ألوان تهميش اجتماعي واقتصادي، ولتبرز سمعة الضواحي السيئة التي تتعلق بجرائم وانحرافات وتهريب وترويج مخدرات.

يسعى بعض صناع السينما لتقديم صورة مغايرة عن هذه الأفكار السائدة السلبية عامة عن الضواحي، أو عن أهلها من تلك الفئات المهاجرة التي بقيت فيها أو غادرتها.

 

“هؤلاء الفرنسيين ذوي السحنة التي تُبدي أنهم من مكان آخر”

في فيلم “إبراهيم” (2019) للمخرج سمير قاسمي تتبدى هذه المغايرة في نوعية العلاقة بين أب وابنه، فهي مخالفة لما يُعرض ويقال في هذا النوع من الأفلام، من انحسار لتأثير الأب على أبنائه مثلا، أو حتى غيابه بالكامل عن الحضور في حياتهم، كما أن الفيلم يعطي في النهاية بصيص أمل عبر انفتاح إبراهيم عاطفيا، وتأثير هذا على نفسيته وسلوكه.

ثمة فارق آخر يكمن في الشكل الفيلمي وأسلوب المعالجة الذي اعتمده المخرج، وتجسّد هذا في اختيار مواقع تصوير في باريس كمكان للحدث، تتحرك فيه شخصياته المغاربية بعيدا عن الضاحية، كما في ميله للصمت بدلا من الحوار بين الشخصيتين الرئيستين، وابتعاده الكامل -حتى حين غضب الشخصية- عن الصياح والحديث بطريقة معينة تُميّز سكان الضواحي أو من أتى منها، كما هو معتاد في هذه النوعية من الأفلام.

لقد سعى المخرج كما يقول لإبراز “هؤلاء الفرنسيين ذوي السحنة التي تُبدي أنهم من مكان آخر، هؤلاء الذين ينهضون باكرا جدا للذهاب للعمل، ولا يميلون كثيرا للكلام”. لقد آثر الدخول إلى عوالمهم والحديث عن دواخلهم، وعرض قصصهم التي ليست لديها فرص كبيرة لتظهر على الشاشة.

إبراهيم على يسار الصورة رفقة صديقه المُتخصص في السرقات في المنتصف، والذي يُعرّفه على شخص مثلي لكسب المال

 

إغراء المال.. جاذبية عوالم الانحراف

إبراهيم (الممثل عبدل بن ضاهر) شاب يافع يعيش مع أبيه أحمد (الممثل سمير قاسمي) العامل في مقهى في حي الأوبرا بباريس، أما أمه فهي متوفاة، وهو مشتت بين أب مستقيم متحفظ وقليل الكلام، وبين رفيق له أكبر منه سنا في المدرسة الصناعية يسعى للمال السهل بكل الوسائل، وهو متخصص في السرقات الصغيرة، لكنه لا يتردد أيضا في بيع الجسد للمثليين.

يتلمس ضعفا لدى إبراهيم في مقاومة إغراء المال، فيحاول استمالته لعالمه المنحرف. إبراهيم في سن يميل فيها إلى المغامرة والتجريب، ومع أن في دواخله بذرة طيبة حساسة تجعله يتردد بعض الشيء في اتباع الرفيق؛ فهو لا ينفك أن يقع تحت تأثيره، لكنه يفشل مرة بعد أخرى في مغامراته للحصول على المال، مما يجعله يكلف أباه التائب الكثير.

يحاول أحمد بجهد وكفاح زيادة مدخوله والتطور في نوعية عمله، ومن أجل ذلك يلزمه إصلاح أسنانه للظهور بمظهر مناسب يؤهله للترقي من غاسل للصحون إلى نادل، لكن حلمه يتحطم عندما يضطر لاستعادة كرامته، إلى تسوية فاتورة سرقة لابنه، ودفع كل مدخراته كي لا يستدعي صاحب المحل الشرطة.

تتوتر العلاقات بين إبراهيم وأحمد نتيجة لذلك، لكن إبراهيم يقرر عندها تحمل كل المخاطر لإصلاح نتائج مغامرته التي تحمّلها والده.

نظرة الأب لابنه إبراهيم بعد حادثة السرقة التي ارتكبها الولد والتي كلفت الأب دفع كل مدخراته كي لا يستدعي صاحب المحل الشرطة

 

انكشاف السرقة.. ذروة الإثارة وعقدة التحولات

انكشاف السرقة هو الحادثة الرئيسية في الفيلم، وهو ذروة الحبكة، لكنها لا تشكّل بالفعل محورا أساسيا للسرد، فقد حصلت وربما يحصل غيرها، أو أي شيء يقود لتساؤلات عن كيفية تحوّل علاقة بين أب وابنه بعد ارتكاب فعل ما، وهو هنا شنيع، ترى هل سيتعقل إبراهيم نهائيا؟ هل ستتغير نظرة الأب؟

يبدي الفيلم هنا بسلاسة التحولات دون أن يعالجها كفعل ورد فعل، ويتابع على منواله الهادئ الإيقاع، ولا يهتم كثيرا لتغيير الوتيرة بعد الحادثة، حيث يستمر -على نفس المنوال في الإيقاع- في إبراز الشخصيات في يومياتها، دون حصول مواجهة بينها، ودون تحولات صارمة في مسيرتها، بل بالاعتماد على المزيد من الصمت والتعبير القائم على النظرات.

الممثل سمير قاسمي بدور الأب أحمد العامل في مقهى في حي الأوبرا بباريس

 

“كلما عرف المشاهد أقلّ، انتبه أكثر لما يدور أمامه”

فيلم “إبراهيم” فيلم متقشف في بنائه، حيث يفضّل إبراز المشاعر في بساطة مدهشة، ويستند في هذا على رهافة التعبير الصامت، ليأتي التفاعل مع الفيلم من الشخصيات لا من الأحداث، فعند كل موقف ناتج عن حدث ما، تعبّر الشخصيات عبر نظرات متهربة وضبط نفس وتعفف عن الكلام. هكذا تنتهي بأن تثير مشاعرنا أكثر، وتهزنا على نحو أعمق، إنه رهان استخدمه المخرج فـ”كلما عرف المشاهد أقلّ، انتبه أكثر لما يدور أمامه”.

السرد في فيلم “إبراهيم” مثير للعواطف، وذلك في اعتماده أيضا على تفاصيل دقيقة من الحياة اليومية من خلال الصورة، ودون غرق في التفسير والكلام، حيث يظهر حنان الأب واهتمامه بابنه، ليس فقط في نظراته بل في سلوكه، مثل إحضاره سلة الطعام لابنه وهو يتدرب على كرة القدم رغم غضبه منه.

يتبدى قلقه على ابنه في أرق أصابه حين لم يعد للبيت، وهنا يكتفي المخرج بلقطة قصيرة لمنفضة السجائر ملأى في الصباح، لا كلام ولا مجادلة ولا تصوير للأب وهو يدور ويلف في عز الليل تعبيرا عن هواجسه، كلها وسائل بسيطة تعطي للصمت بلاغته وللموقف دلالته.

علاقة إبراهيم بأبيه أحمد تبدو علاقة غريبة فيها شدّ وجذب على الدوام

 

أبناء الضواحي.. علاقة غريبة بين الأب وابنه

شخصية إبراهيم الهادئة مرسومة بعمق (كتابة إبراهيم قاسمي وكامي لوغان)، فهي بعيدة مما تبديه السينما عن أبناء المهاجرين، ولو أنه في الفيلم لا يسكن الضواحي، بل أحد أحياء باريس، فهو شاب ذو أصول مهاجرة، وهؤلاء صورتهم متشابهة في تلك السينما.

يبدو إبراهيم بريئا صامتا لا يصرخ ويتحدى كما يظهر مثل هؤلاء عادة، أما علاقته بأبيه فهي علاقة غريبة فيها شدّ وجذب صامت على الدوام. قد يكون الفيلم ذهب أحيانا بعيدا في قلة الكلام تلك، لكن الأمر قد يتعلق باعتياد المُشاهد على أفكار مسبقة، وكأن الفيلم يريد نزع كل الأفكار المسبقة عن أجواء عائلية كهذه، ويتحدى مُشاهده في قدرته على إقناعه.

أداء الأب أحمد رائع في صمته وسيطرته على مشاعره، وقدرته على إظهار ما يعتمل داخله من قلق من انحراف ابنه عن الطريق القويم.

بدت الأمكنة على قلتها متناسبة مع أجواء الشخصيات في ضيقها وأضوائها، في أبنيتها ذات الآجر الأحمر، وهي مظاهر معبرة عن أحياء كانت عمالية في القرن الماضي، في هذا الضوء الرمادي (تصوير “سيلين بوزون”) الذي يميز سماء باريس في الشتاء، وكأنه يؤكد على أن الشخصيات لا تركن على لون في توجهاتها.

المخرج سمير قاسمي الحاصل فيلمه “إبراهيم” على جائزتين في مهرجان “أنغوليم” للفيلم الفرانكوفوني

 

مهرجانات السينما.. ميزانية صغيرة تحصد الجوائز

على الرغم من أن الفيلم أُنتج عام 2019، فإنه لم يُعرض سوى هذا الصيف في فرنسا، وذلك بسبب إغلاق الصالات لشهور عدة في عام 2020، وكذلك في عام 2021، وهذا كما هو معروف عائد إلى انتشار وباء كورونا.

كان الفيلم من بين الاختيارات الرسمية لمهرجان كان في دورته الـ73 الملغاة عام 2020، كما حصد جائزتين عن السيناريو والموسيقى التصويرية (رفائيل إليغ) في مهرجان “أنغوليم” للفيلم الفرانكوفوني في نسخته الـ13 التي جرت في الـ28 من أغسطس/آب عام 2020.

كل هذا لم يزد حظوظ الفيلم في جذب مشاهدين كثر في فرنسا، نظرا لشدة المنافسة والأفلام التي تنتظر دورها في العرض في الصالات الفرنسية بعد فكّ الحظر والإغلاق. هذا مؤسف، فمع أنه فيلم صغير -كما قد يوصف- نظرا لميزانيته الصغيرة وقصته البسيطة واقتصاره على عدد محدود جدا من الممثلين؛ فهو من النوع الذي يمس القلوب ويُحرك المشاعر.

 

“إنه يوم الأحد”.. بذرة صناعة الفيلم الطويل الأول

“إبراهيم” هو الفيلم الروائي الطويل الأول لقاسمي بعد فيلمه القصير “إنه يوم الأحد” (C’est Dimanche) الذي أنجزه عام 2007، ويتناول أيضا علاقة أب بابنه. هذا الفيلم ساعده كما يقول في حديث صحفي على اكتشاف جزء منه لم يكن يعرفه، فقرر المتابعة في فيلم طويل.

وبالإضافة إلى الإخراج فسمير قاسمي هو أيضا ممثل سينمائي قام بلعب أدوار ثانوية في عدة أفلام، وعمل مع مخرجين فرنسيين معروفين، مثل “آرنو دبليشان” و”غيوم كانيه”.