“أوسلو”.. مفاوضات السلام في مرآة السينما الغربية

عبد الكريم قادري

عندما سألها عن سبب إصرارها وحرصها على إنجاح المفاوضات السرية رغم أنها لم تكن طرفا فيها، توقفت الدبلوماسية النرويجية “مونا جول” عن ما كانت تقوم به، ثم نظرت إليه بعينين دامعتين، وقالت: “لأنني عندما كنت أعمل هناك، حدثت مواجهة كبرى بين الطرفين، رأيت شابين يافعين يتواجهان، أحدهما يرتدي سروال “جينز”، والآخر ذو لباس عسكري، نظرت في عينهما فرأيت نفس الخوف والرعب مرتسما على وجه كل منهما، لهذا أردت بقوة تغيير هذا الأمر وإزالة هذا الخوف”. فما قصة هذه الأحداث التي وقعت على الأراضي الفلسطينية وتفاوضوا من أجلها بشكل سرّي في أوسلو؟

تعامل المخرج الأمريكي “بارتليت شير” بحذر شديد في فيلمه الأحدث “أوسلو” (OSLO) الذي بدأ عرضه في 28 مايو/أيار 2021 على منصة “إتش بي أوه” (HBO)، وقد تناول فيه المفاوضات السرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين كانت تمثلهم “منظمة التحرير الفلسطينية” في تسعينيات القرن الماضي.

 

اتفاقية الاعتراف.. زوجان نرويجيان ينسجان خيوط المفاوضات

أظهر الفيلم الدور الرئيسي الذي لعبته “مونا جول” (الممثلة روث ويلسون)، فقد كانت تمثل وقتها دبلوماسية بلدها النرويج، بالتعاون مع زوجها “تيري رود لارسن” (الممثل أندرو سكوت) عالم الاجتماع ومدير مؤسسة “فافو” (FAFO) (وهي مؤسسة تعنى بالأبحاث تابعة لحزب العمال النرويجي)، وقد لجئ إليها في بادئ الأمر من أجل التهرب من أي تبعات سياسية رسمية في حالة فشلت المفاوضات بين الأطراف؛ وقد نسج الزوجان “مونا” و”تيري” خيوط هذه المفاوضات التي جمعت في أول الأمر بين السياسي الفلسطيني أحمد قريع (الممثل سليم ضو) وزير المالية في منظمة التحرير الفلسطينية، وبين أستاذ الاقتصاد في جامعة حيفا “يائير هيرشفيلد” (الممثل دوفال غليكمان).

بدأ النقاش بين الطرفين في أحد فنادق لندن بشكل سري تماما، وذلك من منطلق كيفية الاستفادة اقتصاديا بين الطرفين، ليتطور الأمر إلى مفاوضات سرية على عدد من المسائل في مدينة أوسلو النرويجية في أحد القصور التاريخية، بعيدا عن أعين الإعلام والفضوليين، ليتطور الأمر بينهما بعد أن اشترطت “منظمة التحرير الفلسطينية” -التي كان مقرها في تونس، ويرأسها الرئيس الراحل ياسر عرفات- بأن يكون ممثل إسرائيل شخصية رسمية.

كان لمنظمة التحرير ما أرادت من شروط بعد أخذ ورد ومشاورات عدة، بحضور أحمد قريع وحسن عصفور (الممثل وليد زعيتر) عن الجانب الفلسطيني، و”أوري سافير” (الممثل جيف ولبوش) المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، و”جول سنجر” (الممثل إيغال ناعور) الممثل القانوني لوزارة الخارجية، إضافة إلى “هرشفليد” ومساعده “رون بونداك” (روتيم كاينان) كممثلين عن الطرف الإسرائيلي.

توصل الطرفان بعد جولات عدة إلى اتفاق إعلان المبادئ، وأبرز ما فيه أن تعترف إسرائيل بـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، وتعترف المنظمة بإسرائيل، ليقع بعدها توقيع اتفاقية السلام في أمريكا بين الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحاق رابين” الذي وقع اغتياله بعد وقت قصير، على خلفية توقيعه لهذا الاتفاق.

الزوجان النرويجيان “مونا جول” و”تيري رود لارسن” اللذان نسجا خيوط مفاوضات اتفاقية أوسلو في النرويج

 

تثبيت وجهة رأي “الآخر”.. تلاعب السيناريو بالحقائق

من الصعب على المتلقي السينمائي أن يقف أمام الأعمال التاريخية دون أن يطرح جُملة من الأسئلة المهمة حول حقيقة ما شاهده، خاصة في فيلم “أوسلو” الذي تطرّق لقضية في غاية التعقيد والحساسية والصعوبة، وأكثر من هذا أن مساحة المناورة كانت محدودة ومحسوبة، إذ أن الفيلم تطرّق لجوانب سرية من هذه المفاوضات التي لا يُعرف عنها الكثير، وكل ما وصل لهذا المُتلقي هو ما أراده “الآخر” أن يعرفه، سواء تعلّق الأمر بالنرويجيين أصحاب المبادرة (على الأقل ظاهريا حسب معطيات الفيلم ومعلومات التاريخ)، أو الأمريكيين، أو حتى الإسرائيليين والفلسطينيين.

وأكثر من هذا كله أن معظم من شاركوا في صناعة هذا المنعرج التاريخي المهم هم على قيد الحياة، ولم نقرأ لهم أو نسمع منهم أي رد فعل بعد عملية التلقي من خلال عرض الفيلم، وصمتهم هذا له تفسيرات عدة، من بينها أن فريق عمل الفيلم قد راجع الجوانب التاريخية معهم، وأعطوهم موافقتهم على ما في السيناريو، أو أنهم موافقون على جاء فيه، مع احتمالات وجود أسباب أخرى.

لكن الفكرة الأساسية التي سيخرج بها الجمهور بعد مشاهدة الفيلم، وسترسخ في ذهنه كحقيقية تاريخية؛ هي أن الدبلوماسية النرويجية “مونا جول” مهندسة هذه المفاوضات؛ قد انطلقت في عملية البحث عن مبدأ السلام بين الطرفين دون إعلام السلطة في بلدها، وقد عمل مخرج الفيلم على تكريس هذا المنطلق في كل تفصيل، وكأنه يحاول أن يثبت دورها، أو يناور على معطيات التاريخ ويقفز حولها.

الممثلة “روث ويلسون” التي قامت بدور الدبلوماسية النرويجية “مونا جول”، ومن ثم أصبحت سفيرة بلادها في إسرائيل

 

تلقين المعطيات التاريخية.. أسرار سفيرة النرويج في إسرائيل

من بين المعطيات التاريخية -التي لم يتطرق لها الفيلم- صدور بعض التقارير والحقائق التاريخية سنة 2012 في النرويج، وتُفيد بأن “مونا جول” فعلت هذا الأمر بإيعاز من إسرائيل وبالتنسيق معها، وقد قامت بالضغط على الجانب الفلسطيني خدمة لهم، والدليل أنها أصبحت فيما بعد سفيرة بلدها في إسرائيل، كما مُنحت جائزة بقيمة مالية كبيرة على خلفية دورها الذي لعبته بإحكام.

لكن فيلم “بارتليت شير” أغلق كل أبواب التأويل، وذهب في اتجاه تلقين المعطى التاريخي، فزعم أن “مونا جول” ملاك ولم تكن شيطانا، وهذا ما تُعاكسه المعطيات التاريخية، لأن هذه الاحتمالات لو وضعت قيد التداول؛ فإنها ستؤدي إلى البحث عن المعطيات التي استفادت منها إسرائيل، وكيف خدمت اتفاقية السلام الطرف الفلسطيني.

حينها ستفتح أبواب التأويل لزيادة الاحتمالات وكشف الحقائق المخبوءة في نفوس المفاوضين والوسطاء والوثائق التي ضاعت في النرويج، بحجة أنها لم يحتفظ بها، لكن هناك جهات تقول بأنها أعطيت لإسرائيل حتى تحوك بها الحقيقة التي تريدها هي فقط.

خارطة المفاوضات التي غيّرت الجغرافية السياسية بعد اتفاق أوسلو

 

انتصار المسرح.. احتكاك الفن الرابع والسابع في الإخراج

من الناحية الفنية ركّز فيلم “أوسلو” على المشاهد الطويلة والداخلية، ولم يفتح المخرج “بارتليت شير” مساحات رؤية منوعة للجمهور المتطلع دائما إلى الإحاطة الخارجية بالفضاء الذي تجري فيه الأحداث، وهي المعطيات التي تقشف فيها “بارتليت”، وقدمها في إطار محدود جدا وسريع، مما جعل حضورها شبيها بالغياب.

ويعود سبب هذا الأمر بدرجة كبيرة إلى طبيعة النوعية المتناولة، إضافة إلى الخلفية الثقافية للمخرج الذي جاء إلى السينما من عوالم المسرح المتخصص فيه، حتى أن الفيلم مقتبس من مسرحية تحمل نفس العنوان، لهذا وقع هذا الاحتكاك الفني بين الفن السابع والرابع، من ناحية الفضاءات المغلقة والحوارات الطويلة، وشغل مساحات الرؤية بحركات الممثلين، أو بخلق انفعالات ظرفية لتوصيل إحساس القلق وكسر خط التلقي.

كما أكثر المخرج من عمليات الحوارات التي قتلت اللغة السينمائية وحدّت من حضورها، وبالتالي انتصرت فيها فضاءات المسرح وعوالمه على رؤى السينما واتجاهاتها وجماليتها التي تبنى عن طريق خلق صور موحية ومعبرة، دون اللجوء إلى الحوار في الكثير من الأحيان، رغم أن المخرج أخذ قوالب السينما وشكلها وطريقة عرضها، ويرجع هذا لطبيعة المعلومات المقدمة، وتعقيد القضية المتناولة، وحساسية المعلومات التاريخية التي عمل عليها وزرعها في زوايا فيلمه.

على طاولة المفاوضات يجلس من الطرف الفلسطيني سالم ضو بدور المفاوِض أحمد قريع وبجانبه وليد زعيتر بدور حسن عصفور

 

تأثيث الصورة.. لوحات بصرية عامرة بالمعاني والجمال

عوّضت الإضاءة الجيدة في فيلم “أوسلو” غياب بعض المعطيات السينمائية، وقد خلقت لوحات بصرية عامرة بالمعاني والجمال في كثير منها، خاصة في المشاهد الملتقطة داخل القصر التاريخي الذي يعكس الرهبة والجمال الممتد، وروحية المكان المسكون بالماضي، إضافة إلى إعادة تمثيل بعض المشاهد التي تخص الدبلوماسية “مونا جول” عندما كانت تعمل في الأراضي المحتلة.

وقد جاءت هذه الصور مليئة بالمعاني من خلال المواجهات المباشرة بين الجيش الإسرائيلي والمتظاهرين الفلسطينيين الذين يقاومون بالحجارة، وقد أثث المخرج هذه المشاهد الاسترجاعية ببعض الحبيبات البيضاء وكأنها الثلج، وذلك من أجل زياد تأثيرها البصري والروحي على المتلقي.

كما كانت مشاهد تساقط الثلج خارج القصر التاريخي مؤثرة بصريا، وكانت بمثابة المتنفس الذي كان الجمهور بحاجة له بعد أن تلقى تلك المعلومات التاريخية أثناء مفاوضات الأطراف داخل القصر، لهذا جاء التلقي البصري كتعويض رئيسي على التلقي النفسي المحاط بالإثارة والغموض، وانتظار نتائج هذه المفاوضات الدقيقة والخطيرة.

على اليمين المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية “أوري سافير”، والآخر الممثل الفلسطيني سليم ضو بدور السياسي أحمد قريع

 

“سليم ضو”.. حرفية تجسيد الشخصية العربية

استحوذ الممثل الفلسطيني سليم ضو -الذي أدى دور المفاوض والرجل السياسي أحمد قريع- على مساحات واسعة في الفيلم، وذلك بحضوره القوي وأدائه المميز لتلك الشخصية العربية، وأكثر من هذا فقد عكس صورة العربي/الفلسطيني الغيور على أرض ومستقبل أبناء وطنه، لهذا نجده حاضرا بقوة في كل تفاصيل الفيلم.

وقد انعكس هذا الحضور في عمليات تفاعله في كل مشهد وفي كل تفصيل، فنجده يغضب ويفرح وينتصر ويحزن ويتعامل بروح مرحة، إضافة إلى انفعالات أخرى تتناسق مع نفسيته ومع مظاهره الفيزيائية.

ويعود سبب هذا التفاعل الكبير إلى حرفية الممثل الذي لعب كثيرا من الأدوار في مسيرته السينمائية، آخرها دوره المحوري في فيلم “غزة مونامور”، إضافة إلى كونه فلسطينيا يعرف الروح العربية وخبر القصة التي جاء بها الفيلم، لهذا يكون المخرج “بارتليت شير” قد وُفّق كثيرا في اختيار هذا الممثل لأداء دور أحمد قريع، وربما لو وقع الاختيار على ممثل غير فلسطيني أو ممثل أمريكي، لكان الفيلم سيأخذ بُعدا آخر، وتتغير معطيات التلقي الإيجابية في هذه النقطة المحورية في الفيلم.

الفلسطينيون والإسرائيليون على طاولة واحدة لأجل التوصل إلى نتائج مفاوضات أوسلو

 

“أوسلو”.. وثيقة سينمائية ناقصة تخذل الجمهور العربي

فيلم “أوسلو” وثيقة سينمائية بصرية تبحث عن من يشرح تفاصيلها وعوالمها ومنطلقاتها الأساسية، خاصة أن المعطيات التاريخية المهمة التي جاءت فيه تبحث عن من يؤكد بعضها أو ينفيه، وهذا انتصار للتاريخ، ودور لكل جهة في بلورة هذه الحقائق وتقديمها للجمهور العالمي الذي سيكتفي بما فيها ويعود لشؤونه.

لكن المتلقي الفلسطيني أو العربي يبحث دائما عن الحقائق العلمية التي لا يطالها الشك، لهذا وجب على الباحثين والمؤرخين البحث أكثر في كواليس اتفاق المبادئ في أوسلو، والكشف عن وجه “مونا جول” الحقيقي، وخلفها الدبلوماسية النرويجية، وذلك لإظهار الدور الحقيقي الذي لعبته بعيدا عن التجميل وقلب الحقائق.