“أبنائي الأعزاء”.. خطة ماكرة لجمع شمل أسرة أوروبية ممزقة

د. أمــل الجمل

في بلاد الشرق الأوروبي، حيث تتلاشى الروابط العائلية وتفقد جدران المنزل ألوان طلائها، تعيش عائلة بولندية حالة من التمزق والشتات، فقد تفرق الأبناء عن مهد العائلة، وبقي الوالدان وحيدين في منزلهما يصارعان الوحدة والاغتراب وضعف التواصل مع الأبناء.

فجأة وبدون سابق إنذار يقوم والد هذه العائلة باستدعاء أبنائه، فقد اختفت الوالدة أو هربت، وعليهم أن يعودوا إلى المنزل من أجل تجميع الخيوط لحل لغز هذا الاختفاء المفاجئ، لكنهم يفاجؤون بأسرار كثيرة من حياة هذه الأم الغامضة.

قد تبدو فكرة الفيلم مألوفة في السينما الأوروبية، لكن المخرج يفعل ذلك بطريقة مُسلية للغاية، بل يُعد تجربة مشاهدة غير عادية، إذ يبتعد الفيلم عن أجواء الميلودراما والكليشيهات المعتادة. إنه يتأرجح بين الإثارة والكوميديا، ينحاز إلى معالجة بصرية غريبة جديدة مشبعة بالمجاز، مُطعّم بلمحات تورية ظريفة لا تخلو من رقة مُوجعة، كما أن العبثية والواقعية موجودتان بوفرة -وإن بتوازن- في النص البصري، في الحوارات والأجواء المحيطة بالأسرة.

شارك فيلم “أبنائي الأعزاء” (Dear Ones) في مسابقة “شرق الغرب بمهرجان كارلوفي فاري الـ55، وهو نص سردي سينمائي عن أسباب عدم نجاح العلاقات الأسرية في الغرب، وعن عزلة هذه الأسر الأوروبية وتفرق شملها، وهو من إنتاج بولندي تشيكي مشترك.

يبدأ المخرج البولندي “جيغوج ياروشوك” (بالبولندية: Grzegorz Jaroszuk) فيلمه الروائي الطويل الأحدث “أبنائي الأعزاء” بلقطة للشاب “بيوتر” وهو يُمسك بمجموعة من الأحجار البلورية الصغيرة، يحركها ويهمس إليها بأن تجلب له يوما أفضل، يتنقل في أرجاء الغرفة، ينفخ في علبة مليئة بمسحوق أحمر يتطاير في الأجواء.

هنا يرن جرس الهاتف، نسمعه يقول في لهفة وقلق “هل حدث شيء؟”، ثم بعد لحظة صمت يُضيف “لا.. لم أقصد، لكن بما أنك تتصل فلا بد أن شيئا قد حدث”.

 

“إنها لم تختفِ، بل هربت مني”.. رحلة البحث

في اللقطة المشهدية التالية نرى “بيوتر” ينزل من سيارة الأجرة، فيلمح أخته “مارتا” تنزل هي أيضا من سيارة أجرة أخرى، ينظران لبعضهما بدهشة، إذ لم ير كل منهما الآخر منذ سنوات، تحديدا منذ زفاف “مارتا”، كذلك لم يلتق أي منهما بالأب والأم منذ الزفاف. لا يشيران إلى الأسباب، باستثناء أنهما حضرا الآن فقط، لأن الأب اتصل بهما وأخبرهما بضرورة أن يتحدث معهما.

يتردد الأب في الحديث، يطمئن على أحوالهما، يعتذر ويدّعي أن لا شيء يُريد الحديث عنه، بعد إلحاح وملاحقة منهما يخبرهما بأن والدتهما قد اختفت دون أن تترك أثرا، يقترح الأبناء إبلاغ الشرطة فيرفض الأب قائلا: إنها لم تختف، بل هربت، لقد هربت مني.

هنا، يقرر “بيوتر” و”مارتا” البقاء مع الأب في البيت حتى عودة الأم أو العثور عليها. هذه التعلّة الدرامية التي أتاحت لم شمل الأسرة المغتربة عن بعضها يُوظفها المخرج للبناء عليها تدريجيا، لأنه سيجعلهم ظاهريا يبحثون عن شخص اختفى، لكنهم دون أن يُدركوا أنهم كانوا يبحثون عن أنفسهم هم أنفسهم، فقد كانوا بحاجة ماسّة إلى ذلك، وأثناء تلك الرحلة يكشف “ياروشوك” عن مأزق الشخصيات جميعا، وإن بشكل كوميدي به لمحات عبثية، بكثير من التورية والمجاز المعجون ببعض المشاهد العاطفية الحزينة.

الأخوان “بيوتر” و”مارتا” في صدمة لحظة معرفتهما خبر اختفاء والدتهما

 

“أنت تشبه والدتك كثيرا”.. مفاتيح فك اللغز

يبدأ الأخوان في ممارسة الحياة اليومية سويا، وأحيانا كثيرة بصحبة والدهما، وينزلان إلى الشوارع والطرق للتجول بحثا عن أي إشارة تقودهم لأمهم الحبيبة، وفي المتجر ينتبه “بيوتر” إلى أن أحد الشباب ينظر إليه مليا، وحين يخبر أخته تقول له “ولماذا لم تسأله؟”، فيجيبها “لم أُرد أن أبدو وكأنني أطارده”.

في الحديقة أمام البيت يُفاجأ “بيوتر” مرة أخرى بأن امرأة شابة كانت تعمل كوافيرة تنظر إليه طويلا بدهشة، ثم تقول له “يا إلهي.. أنت تشبه والدتك كثيرا”، الحديث مع تلك الفتاة سيقودهم إلى مفتاح على طريق فك اللغز. هكذا يتوهمون، فهذه المرأة الشابة تخبرهم أن الأم كانت تذهب إلى أحد محلات لعب القمار بشكل يومي، ترشدهم إلى المكان وتختفي.

هناك يلتقون برجل خمسيني يتحدث بتأثر بالغ عن غياب الأم، مُعلنا أنها كانت تُدمن المقامرة قائلا: لقد كانت جزءا من حظي اليومي، كانت دائما تجعلني أكسب، ليتها تعود، كانت امرأة رائعة.

يسألونه إن كان يعرف مكانها، وهل يعرف إلى أي مكان قد ذهبت؟ فيرد: ربما ذهبت إلى أي مكان، فطالما أنها كانت دائما محظوظة، وكانت دائما تكسب في المقامرة، فبإمكانها الذهاب لأي مكان.

البيت الذي كان يرقص فيه الأب وزوجته قبيل اختفائها، حيث يوحي بالعزلة والاغتراب

 

“أن نرقص سويا من حين لآخر دون وجود أحد”.. أسرار الأم

أُصيب “بيوتر” و”مارتا” بحالة دهشة كبيرة لأنهما لم يتخيلا ذلك أبدا عن والدتهما، لكن يبدو أن الابن راق له ما اكتشفه في شخصية والدته، ثم تتوالى المفاتيح تباعا، فالجيران من مختلف الأطياف، خصوصا الأزواج الذين كانت لديهم مشاكل يبدؤون في الحديث عن كرم هذه الأم، ومساعدتها لهم في تسوية مشاكلهم المادية وإنهاء خلافتهم، مؤكدين على أنها كانت تدعمهم ماليا، حتى النساء الشابات غير المتزوجات تحدثن عن الجوانب الإيجابية في شخصية الأم، ويعترف الجميع بأنهم مدينون لها.

وسط دهشة وإعجاب الأبناء يقول الأب: فلنتوقف عن البحث عند هذا الحد. لكن الابن والابنة يعترضان ويقرران مواصلة البحث، فكأن هذه الاكتشافات تُغوي بمزيد من البحث. هنا في أحد صناديق الأم بالبيت يكتشفان بطاقة بريدية لمرقص بعنوان “جينيريشين بار”، وحينها يندهش “بيوتر” مجددا، فيسأله الأب ولما الدهشة؟ فيرد: أمي أنا ترقص؟ هذا آخر شيء أتصوره، لأنني لم أرها ترقص أبدا.

فيُعقّب الأب: لقد تعوّدت أنا وهي أن نرقص سويا من حين لآخر دون وجود أحد معنا وبدون سبب، كنا نرقص فقط لنكون سعداء. هل تتذكرون يوم أن اشتريت هذه المائدة، أنا لا أستطيع أن أنساه، لأننا في ذلك اليوم لأول مرة جلسنا جميعا سويا، التففنا حولها، ويومها فقط شعرنا بأننا عائلة.

حارس الأمن في مرقص “جينيريشن بار” الذي كانت تذهب إليه الأم المفقودة، حيث يقود الأسرة في رحلة للبحث عنها

 

حارس الأمن.. وجه آخر غامض للمقامرة المحظوظة

لا يُعلق الأب على ضعف ذاكرة أبنائه فيما يخص المائدة التي هم في تلك اللحظة ملتفون حولها أيضا، ثم يواصل معهما البحث، فيظهر أحد الشباب المذعورين، يخبرهم أنهم إذا أرادوا الوصول إلى الأم فعليهم لقاء رجل محدد، ثم يُرشدهم إلى “جينيريشن بار” الذي كانت الأم تذهب إليه، فحارس الأمن المسؤول عنه لا بد أنه يعرف عنها الكثير، وربما يفسر اختفاءها ويعرف مكانها.

في اللقاءات الأولية مع حارس الأمن الشاب تُثار الشكوك والهواجس أنه ربما يكون قد قام بقتلها ليستحوذ على الأموال التي كانت تكسبها من المقامرة، خصوصا أنها جنت أموالا باهظة، وأنه هو الذي كان يستلم المال منها، ويقوم بتوظيفها في شراء عقارات أو ممتلكات، فهذه كانت وظيفته.

عند هذا الحد، ووسط هذه الهواجس والشعور بالريبة، وهجوم الأسرة عليه ودفاعه عن نفسه؛ تبدأ شخصيات أخرى من الجيران في الظهور والكشف عن ملامح وجوانب خفية للأم لم تكن مُعلنة، كأنهم كانوا يخشون الحديث صراحة خوفا من عودتها ومعاقبتهم، أما الآن فقد بدأوا يُشيرون إلى دكتاتوريتها وتسلطها عليهم، مؤكدين أنها كانت شخصية سيئة، وأنها كانت تُهددهم بالأموال التي كانوا مدينين بها، وحينما فشلت في السيطرة عليهم جميعا قررت أن تهرب إلى مكان آخر تستطيع أن تُحكم سطوتها على أفراده.

هنا بعد تلك التفاصيل؛ يقرر الابن التوقف عن البحث، وكأنه ندم لمعرفة هذه الجوانب السيئة المشينة عن الأم، وكأن تلك الاعترافات هدمت الصورة الجميلة المبهجة التي كان يتحصن بها، فأعلن لأخته ووالده أنه أتعس إنسان في العالم، معترفا بأنه يتذكر يوم شراء تلك المائدة التي حكى الأب عنها، مؤكدا أن ذلك اليوم كان الأسعد في حياته أيضا، لأنه في ذلك اليوم اجتمعوا هم الأربعة حولها، وشعر حقا بأنهم عائلة واحدة.

“بيوتر” يهمس للأحجار التي يؤمن بأنها ستحميه من الموت ، فهو مهووس بالخرافات والطقوس الغامضة

 

“بيوتر”.. فوضى الوحدة والخرافات وتعدد الأديان

من المشاهد الأخرى التي تؤكد وحدة “بيوتر” -إضافة إلى مشاهده الافتتاحية- لقطة له مع أخته وأبيه في السيارة، إذ يهمس لأحجاره مجددا، وعندما تُبدي أخته دهشتها وتسأله هل يُعقل أنك تُؤمن بهذه الأحجار، فماذا ستفعل لك؟ يجيبها: إنه إذا وقع لهم حادث سيارة، فستحميه من الموت.

هذه اللقطات المتناثرة بتلقائية سوف يُؤسس عليها المخرج -المشارك في كتابة السيناريو- ليكشف بوضوح تام عن مدى تعاسة هذا الشاب، فهذا الهوس بالخرافات والطقوس الغامضة يشي بأنه في حاجة ماسّة إلى الشعور ببعض النظام في حياته، فتكوين شخصيته وإيمانه بعدة ديانات وبالخرافات يشي ببؤسه، وأن كل ذلك هو مجرد وسيلة للتعبير عن مشاعره.

لقد كان لا يخرج من منزله أبدا، بل إنه يعمل من هناك، كما أن صلته بأهله كانت قد انقطعت، فزاد ذلك من عزلته وهشاشته، مع مزيد من التعلق بالخرافات. يُؤكد ذلك اعترافه عندما يكتشف الجانب الآخر السيئ الذي جرى ترويجه عن الأم بأنها كانت دكتاتورية، ويُفسر لماذا قرر التوقف عن البحث عنها، ومن ثم الاعتراف بفشله.

سيأتي اعتراف الأخت بفشلها هي أيضا لاحقا بعد اعتراف الأب بالحقيقة، فعندما يجد الأب نفسه في مأزق يخبرهم بوفاة الأم. لماذا تصرف الأب هكذا؟ لماذا لم يصارحهم بحقيقة وفاة الأم منذ البداية؟

الأب يعترف لأبنائه عن المرض الخطير الذي أصاب والدتهما وأخذ ينهش جسدها، حتى أنه دفنها بمفرده

 

سر الأيام الأخيرة.. قصة مرض خبيث ينهش جسد الأم

قد يبدو ما فعله الأب في نظر البعض أنانيا أو غير عقلاني، أو على الأقل عملا غير صالح بطريقة ما، لكن إذا تفهمنا شخصيته خصوصا مع رقته الطاغية دون افتعال، وجدنا أنه يتمتع بحنان خاص، وهذا الحنان يُفسر لنا سبب ضعفه، لذلك سنُدرك أنه لم يكن يمتلك القوة الكافية للإعلان عن الحقيقة المؤلمة، كأن إعلان وفاتها يُؤكد حقيقة موتها، وربما يكون هو نفسه في حالة إنكار، ربما كان يريد أن يظل أبناؤه على تواصل معه على أمل عودة الأم ذات يوم.

هنا، سيحكي الأب عن المرض الخبيث الذي أصاب الأم وأخذ ينهش جسدها، وعن وحدتهما في مواجهته، وأنه يوم دفنها كان بمفرده تماما، فلم يشاركه أي من الجيران أو الزملاء، ولم يعرف كيف يخبرهما، وقد فكر في أن لا يفعل، لكنه الآن مضطر بعد أن شعر أنه سيفسد حياتهما المستقبلية.

كذلك سيكشف حقيقة الشخصيات التي شاركته في هذه التمثيلية، ثم يصطحبهما لزيارة قبر الأم، وحينها يشعر الابن بالراحة لبقاء صورتها جميلة كما عرفها، وكما يتضح من لقطات الفيديو المنزلي التي تظهر بين حين وآخر كأنها في ذاكرتهما، لكن الابنة المغدورة تبكي طويلا معلنة أنها في صغرها قررت أن لا تترك الحياة تهزمها، لكنها لم تستطع، لم تصمد أمام قساوة الحياة.

مخرج فيلم “أبنائي الأعزاء” البولندي “جيغوج ياروشوك” الذي حاز على العديد من الجوائز

 

“جيغوج ياروشوك”.. جوائز عريقة لصانع أحزان السينما الإنسانية

يعتمد الفيلم أساسا في بطولته على أربع شخصيات رئيسية، الأسرة المكونة من ثلاثة أفراد وشخص من خارجها. أما الشخصيات الثانوية فتبدو سيئة ورائعة في آن واحد، فأغلبهم أفراد على هامش المجتمع أو يواجهون مشاكل مالية خطيرة. هناك تركيز على لوحة الألوان الباردة، خصوصا عند التأكيد على اغتراب الشخصيات الرئيسية الثلاثة، أما موسيقى الفيلم التي قام بتأليفها الملحن “بيتر أوستروتشوف”؛ فهي عنصر درامي مهم، إنها حزينة للغاية، لكن بها طبقة من العبثية والتوتر.

لقد حصد المخرج البولندي “جيغوج ياروشوك” خلال رحلته القصيرة عشر جوائز من مهرجانات دولية مهمة، إضافة إلى 23 ترشيحا آخرين، خصوصا فيلمه القصير “حكايات البرد” (Frozen Stories) الذي أخرجه عام 2011، ونال جوائز من مهرجانات عريقة، مثل لوكارنو وكان وميونخ وكليرموند فيران ودريسدن. ثم فيلمه الروائي الطويل الأول “كباب وخريطة الأبراج” (Kebab and Horoscope) الذي أخرجه عام 2014، ونال عدة جوائز دولية.

ومن يتابع أعمال “جيغوج ياروشوك” سيشعر بأن هذا المخرج يمتلك بصمته، خصوصا في اختيار قصص أعماله التي تتضمن آثارا للضغط الاجتماعي، وأشكالا للوحدة، وبعض الرفاق المنافقين وغيرهم من الطيبين، وأحاديث السيطرة على حياة الآخرين، وبالتأكيد عن الحرية.

ستجده يتعامل مع الشعور بالوحدة والرومانسية والعلاقات الإنسانية بطريقة حزينة، ربما يجعلنا نشعر بأننا جميعا نعاني في الحياة، لكن ذلك كله لن يمنعنا أن نضحك، وكذلك لديه قدرة على توظيف الفكاهة السوداء دون التخلي عن المستوى المطلوب من الرقة، كما بفيلمه “حكايات البرد” الذي يدور حول فتاتين تعملان في مجمع تجاري، وتعيشان تحت ضغط رئيسهما في العمل، ثم يُصبح لديهما يومان فقط لإيجاد هدف في الحياة، فتقرران المشاركة في البرنامج التلفزيوني “أتعس شخص في الشهر”.