“العدالة في اليابان”.. لعنة النظام في السجون تتحول إلى جحيم يستفز الأعصاب

عدنان حسين أحمد

تُعد السجون اليابانية أشبه بالجزر المعزولة النائية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بشق الأنفس، وكأن سجون الكبار البالغ عددها 62 سجنا كبيرا تنطوي على أسرار خطيرة لا يريدون البوح بها مطلقا، أو إشاعتها بين الناس.

وكل من جرّب الدخول إلى هذه السجون القاسية في أنظمتها الصارمة ومعاملتها القاسية، وخاصة للأجانب الذين لم يألفوا هذا النمط من تقييد الحريات ومصادرتها تماما، فلا يحق للسجناء أن ينظروا مباشرة إلى عيون الحرّاس، ولا يُسمح لهم بالكلام إلا بعد أخذ الرخصة من السجّانين، ولا يجوز لهم إذا ما سقطوا في دائرة الانفعال أن يصرخوا أو  يُصدروا أصواتا متذمرة، أو يضربوا الحيطان بقبضات أيديهم، وإلاّ فسيكون بانتظار كل سجين متذمر 15 حارسا مُدججا بالسلاح، يأخذونه بالقوة ويحشرونه في زنزانة انفرادية لعقوبة قد تمتد من يوم واحد إلى ستين يوما، يُجبر فيها على الجلوس بإحدى الطريقتين اللتين لا ثالث لهما، وهي الركوع على الركبتين في منتصف الزنزانة، أو التربّع بساقين متشابكتين من دون أن يتحرك، إلى أن يثبت للحراس حسن السيرة والسلوك.

لا تقتصر الممنوعات على السجناء فحسب، بل تمتد إلى الطاقم السينمائي الذي مُنع أفراده من تصوير الأبواب، أو التحدث إلى السجناء، أو استجواب الحرّاس أمام المعتقلين، ومع ذلك فقد استطاعوا أن يصلوا إلى مبتغاهم السينمائي، لينجزوا فيلمهم الوثائقي “حياة السجن.. العدالة في اليابان” (Prison Life: Justice in Japan).

إنّ حصول المخرجة “ماري لنتون” وفريق عملها الفرنسي على إذن بالدخول إلى ثلاثة سجون هو فرصة نادرة لاستكشاف عالَم السجون في اليابان، وهو من وجهة نظر الغرب عبارة عن جحيم انضباطي، حيث سمحت السلطات المختصة لفريق العمل السينمائي من الدخول إلى ثلاثة سجون كبيرة، وهي سجن “ناغانو” في أقصى الشمال، وسجن “كوسوغي” في طوكيو، وسجن “إيواكوني” المخصص للنساء في جنوب غربي اليابان.

وعلى الرغم من أنّ المدة الزمنية التي أمضاها الفريق في سجن “ناغانو” قصيرة، فإنها كانت كافية لإعطاء المتلقي صورة أولية عن طبيعة هذه السجون، وطريقة تعامل الحرّاس مع النزلاء الذين تمتد أعمارهم من سن الرُشد حتى سن الـ85.

 

مقارنة السجون.. حين يصبح النظام مستفزا للأعصاب

لا يمكن الطعن في نظافة السجون أو عدم مراعاتها للشروط الصحية، فهي أنظف من المستشفيات وفنادق الدرجة الأولى، لكن ما يصدم الداخلين إليها هو ذلك الصمت المطبق الذي يوحي بأنك تدخل إلى مكان ناء ومهجور لا تسمع فيه أي حركة.

وما يلفت الانتباه أيضا هو ذلك الترتيب المذهل الذي لا تشوبه شائبة، فحتى الصنادل مصفوفة في الأماكن المخصصة لها في أبواب الزنزانات. وفي الصباح يُوقَظ السجناء بطريقتين، وهما أصوات الحراس الممطوطة والموسيقى الكلاسيكية المرتفعة الصوت نسبيا.

تتسلل عدسة الكاميرا لتُرينا أن بعض الزنزانات يوجد فيها ستة سجناء، بينما توجد زنزانات فردية للسجناء ذوي السيرة والسلوك الحسن، وكلما التزم السجين بقواعد السجن وتعليمات الحراس سوف يجد طريقه إلى الزنزانات الفردية المُترفة التي توفر لصاحبها نوعا من الخصوصية والاسترخاء والحرية الشخصية.

وبما أن طاقم الفيلم فرنسي فإنهم يقارنون سجون اليابان بالسجون الفرنسية، ويكتشفون من دون مشقة أن السجون اليابانية ليست مكتظة مثل السجون الفرنسية، وعلى الرغم من نظافة السجون اليابانية وتوفرها على الاشتراطات الصحية، فإنها مضبوطة إلى درجة تستفز الأعصاب، وهم يحسبون لكل شيء حسابه، فالسجناء لديهم ساعة واحدة فقط لتنظيف الأسنان وحلق الذقون وتناول وجبة الفطور، ثم ينظفون زنزانتهم بشكل دقيق، ويطوون أفرشتهم وأغطيتهم بشكل نظامي، ويضعون كل شيء في محله، ويتحقق الحرّاس من دقة ونظافة عملهم.

وإذا خالف أي سجين هذه القوانين فإنه يحصل على إنذار، وإذا استمر في مخالفاته يتعرض للمعاقبة، فيوضع في وسط زنزانة ويجبر على التفكير الذاتي والندم على الخطأ الذي اقترفه من خلال بقائه جالسا من دون أن يفعل أي شيء، مثل القراءة أو الكتابة أو مشاهدة التلفزيون، ولا تُعد هذه العقوبة تنمّرا من قِبل الحرّاس، وإنما هذا هو مفهوم النظام الياباني الذي يطبق كل شيء استنادا إلى الجماعة لا إلى الفرد. وإذا كان النظام القضائي صارما إلى هذه الدرجة، فإن السجناء الأجانب يَرونه غير إنساني، وقد شاهدنا السجين الفرنسي “مارك كاربيليس” مُحاطا بالشرطة ويمسك به اثنان من كل جهة، كما يضعون حبلا حول خصره أثناء أخذه إلى المحاكمة، أو تنقّله داخل سجن العاصمة.

كارلوس غصن بعد هروبة من اليابان ووصوله إلى بيروت حيث أقام مؤتمرا صحفيا

 

“لم يكن لدي خيار سوى أن أحمي نفسي وعائلتي”.. كارلوس غصن

تعتمد التحقيقات في اليابان على الاعترافات التي يمكن أن تفضي إلى أخطاء قضائية كثيرة، وهذا هو السبب في التخوّف من المحاكمات القضائية اليابانية. تقول السيدة “كايكو أوكي”: لقد سجنوني في غرفة صغيرة من دون نوافذ، وكان هناك شرطيان حولي يقولان لي باستمرار أنتِ مذنبة.

ثمة ثقافة معينة في هذا البلد تهيئ المواطنين جميعا للالتزام بالانضباط والقوانين والأعراف المرعية، فلا أحد يتكلم في القطار أو يرد على مكالمات الهاتف النقال، بل إن كثيرا من المواطنين يحتفون بنظام السجون، وقد رأينا فتيات شابات يرتدين أقراطا على هيئة أصفاد، والأطفال يلتقطون الصور بقبعات الشرطة، بل إن الدولة تنظم سنويا حفلا غنائيا راقصا أمام سجن “كوسوغي” في طوكيو على بعد أمتار من الزنزانات يحضره عشرة آلاف مواطن يستمعون فيه إلى أحد نجوم البوب الياباني.

لا بد من الإشارة إلى أن معدلات الإجرام في اليابان متدنية جدا، وأن عدد المعتقلين اليابانيين أقل بأربع مرات من الأعداد الموجودة في فرنسا. لقد غضب القضاء الياباني من كارلوس غصن لأنه لم يحترم القوانين اليابانية، وفي 8 يناير/كانون الثاني الفائت كانت كل الأنظار متجهة نحو العاصمة اللبنانية بيروت، فبعد 15 شهرا من السجن والإقامة الجبرية هرب كارلوس غصن بطريقة هوليودية مذهلة، ونظّم مؤتمرا صحفيا في بيروت دعا فيه كل وسائل الإعلام باستثناء اليابانية منها التي بقيت خارج القاعة، مبينا سبب هروبه، حيث قال: لم أهرب من وجه العدالة، بل هربت من الظلم والاضطهاد السياسي. لقد خضعت لـ400 يوم من المعاملة غير الإنسانية من قِبل نظام صُمم لجعلي أنهار، وهو عاجز عن تأمين الحدّ الأدنى من العدالة، لم يكن لدي خيار سوى أن أحمي نفسي وعائلتي.

وبعد بضعة أيام سافر الفريق السينمائي من بيروت إلى اليابان ليحضر المؤتمر الصحفي الذي أعربت فيه وزيرة العدل “ماسوكو موري” عن غضبها من أشهر هارب في العالم، واتهمتهُ بالكذب والتشهير فيما يتعلق بالنظام القضائي الياباني الذي يحترم حقوق الإنسان، ويتبع إجراءات قضائية مُنصفة من وجهة نظرها كيابانية، وأكدت على صرامة الجهاز القضائي الذي يهدف إلى إلغاء الجرائم وفرض النظام والانضباط.

سجين ياباني يعمل في معمل لصناعة الأحذية، حيث الكلام ممنوع خلال ساعات العمل إلا بعد أخذ الإذن

 

“إن السجناء أشبه بالجنود في فوج عسكري”.. سجن “ناغانو”

يذهب السجناء في “ناغانو” كل يوم عند الساعة 7:50 دقيقة صباحا إلى العمل حليقي الرؤوس، يرتدون بزاتهم، ويسيرون بخطىً عسكرية، العمل إلزامي ومن دون مقابل مادي، وهو يمثل جزءا أساسيا من عقوبة السجناء، قبل البدء بالعمل يقومون بحركات رياضية لمدة قصيرة، ثم يتوجهون إلى المعامل بواقع 50 سجينا للمعمل الواحد، حيث يصنعون الوسائد والأحذية ويشعرون بمتعة العمل والاختلاط مع الآخرين، وإن كان الكلام ممنوعا خلال ساعات العمل إلا بعد أخذ الإذن.

بعد الغداء مباشرة يحق للسجناء أن يتمتعوا بفترة استراحة تمكنهم من قراءة الصحيفة أو قصّ الأظافر، أو تبادل الأحاديث فيما بينهم خلال هذه المدة الوجيزة، وثمة وقت مخصص للنشاطات الترفيهية التي يتمتعون فيها بلعب كرة الطاولة أو الدومينو أو التلفاز المُعدّ لأجل الكاريوكي، وما إن تنتهي هذه المدة حتى يعود الجميع إلى العمل الذي يستمر لمدة ثماني ساعات يوميا، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع.

حظي الفريق بمقابلة سجين عمره 27 سنة في مكتب بحضور مراقبين، وقد حُكم عليه لمدة ثلاث سنوات بسبب سرقة، وبقي لديه سنة ونصف لإنهاء محكوميته، ورغم وجود الحارسَين، فقد انتقد بعض الإجراءات المتبعة وقال: “إن السجناء أشبه بالجنود في فوج عسكري، ومن الضروري أن نطيع الأوامر”. يستطيع السجناء أن يتمتعوا بمشاهدة التلفزيون مساء ولمدة ساعتين فقط، ثم تُطفأ الأنوار.

الليتواني “توماس سافيكاس” الذي سجن لمدة 6 أشهر لمحاولته خطف ابنته من زوجته المطلقة

 

صرامة السجون.. غبطة اليابانيين ومعاناة الأجانب

إذا كان اليابانيون قد اعتادوا على الانضباط الصارم، فإن الأجانب يجدون صعوبة بالغة في تحمّل هذه الصرامة، وربما يكون المواطن الفرنسي “مارك كابيليس” هو خير نموذج في هذا المضمار، فهو في ربيعه الخامس والثلاثين، ومُصاب بحالة خفيفة من متلازمة “أسبرجر”، لكنه نابغة في مجال المعلوماتية، وقد سجن لمدة 11 شهرا، غير أنه قرّر البقاء في اليابان بعد إخلاء سبيله.

يتحدث “مارك” عن الصعوبات التي كان يواجهها في السجن، مثل الجلوس لساعات طويلة في زنزانة مساحتها ستة أمتار مربعة، والانتظار إلى ما لا نهاية. كانت التهمة الموجهة إليه هو جمعه ثروة كبيرة من العملة الرقمية “البيتكوين”، لكن شركته أفلست، فاضطر إلى الاعتذار علانية أمام حشد من الصحفيين بعد اختفاء ملايين اليوروهات من الصناديق، فاتُّهم بسرقتها، فأودعوه السجن الذي أمضى فيه أربعة أشهر قيد الاحتجاز، ثم نقلوه إلى “كوسوغي”، حيث ينتظر السجناء محاكمتهم التي لا تلوح في الأفق القريب، وبعد قرابة السنة جرت محاكمة “مارك”، وأُعلنت براءته من تهمة الاختلاس.

يسلّط المخرجُ الضوءَ على المواطن الليتواني “توماس سافيكاس” الذي سُجن لمدة ستة أشهر في “كوسوغي” لأنه حاول خطف ابنته، وفي حالة الطلاق في اليابان يحرم الأب والأم الأجنبيان من أولادهما، وبما أن “سافيكاس” يعرف ما يجري داخل السجن الكبير، فإنه بالضرورة ينتقد مظاهر الاحتفال المزيفة خارج السجن، ويعتبر ما يجري غسيلا للأدمغة وخداعا للأطفال الذين يقضون نهارهم بجوار السجن، وكأنهم في متنزه عام.

حتى الطعام اللذيذ الذي يبيعون وجبته الواحدة بثلاث يوروهات خارج السجن يختلف تماما عن الطعام الذي يُقدّم للسجناء، ولهذا يصطف المئات في الطابور الواحد للحصول على الوجبة الدسمة التي تُشبه تماما ما يُقدّم في المطاعم الفاخرة، لكنه يثني على الأحذية المصنوعة يدويا، وهو مستعد لاقتناء زوج من الأحذية ودفع ثمنها فورا.

كايكو أوكي المتهمة بقتل ابنتها حرقًا وسجنت بسبب التهمة لمدة 21 عامًا

 

“نعلم أنك لا تريدين أن تعترفي بالجريمة”.. عدالة الرهينة

ينتقد محامون ومنظمات غير حكومية كثيرة سياسة الاعترافات التي تُسمّى في اليابان عدالة الرهينة، وكلما أنكر المُعتقَل التُهمة الموجهة إليه، يطيلون فترة اعتقاله ويكثفون استجوابه حتى يعترف بالذنب.

هذا ما حصل مع السيدة “كايكو أوكي” التي أمضت في السجن 21 عاما بتهمة قتل ابنتها في الحريق الذي اندلع في المنزل، وخرجت من السجن بعد أن بلغت 51 سنة، إذ اتهمت هي وشريكها بالتسبب في الحريق وقتل البنت من أجل الحصول على المال من شركة التأمين، وأصرّت الشرطة على أن الحادث هو فعل إجرامي متعمد، وبدؤوا يضغطون عليها بهدف الاعتراف، وقالوا لها “عليكِ التفكير بابنتكِ، وعليكِ أن تطلبي منها الصفح، ونحن نعلم أنكِ لا تريدين أن تعترفي بالجريمة”.

وبينما كانت منهكة جدا وتعاني من الإرهاق الشديد جراء الضغط المتواصل أومأت برأسها إلى الشرطييَّن اللذين انتدبا لهذه المهمة، فاعتبرا هذه الإيماءة اعترافا، لكنها ما إن أفاقت من هذه المحنة حتى قررت أن تقاتل بمساعدة بعض المحامين ومنظمات حقوق الإنسان، فقُبل استئناف قضيتها، الأمر الذي عدّه الكثيرون معجزة، ففي اليابان يندر أن يعترف بالأخطاء القضائية.

وبفضل إعادة تمثيل الحريق أمام الخبراء والمختصين جرى التحقق من براءتها، ولو أضرم الحريق من قِبلها عمدا لكان من المحتّم أن تُصاب الفاعلة بحروق في مختلف أنحاء جسدها، لكنها في واقع الحال لم تُصب بأي أذى. وفي 10 آب/آغسطس 2016 برّئت بالكامل وعوّضت بمبلغ 750 ألف يورو مقابل حياتها التي دُمرت نتيجة للنظام القضائي القائم على الاعترافات.

لا يجد بعض القضاة اليابانيين حرجا في انتقاد هذا الأسلوب وشجبه، فـ”هيروتشي إيتشيكاوا” وهو نائب عام سابق يقول إنه شخصيا جرى تعليمه طريقة استحصال الاعترافات بالقوة، وإذا رفض المتهم التكلّم فيعاقبه بعقوبات شتى، مثل الشتم والصراخ والوقوف لساعات طويلة حتى ينهار، كما حصل في قضية “كايكو”، علما بأنّ نسبة 90% من المُدانين تعتمد إداناتهم على اعترافاتهم الشخصية، والاعتراف -كما يُقال- سيد الأدلة، ورغم أنّ اليابان بلد ديمقراطي فإنه لا يزال يطبّق عقوبة الإعدام.

هاماكادا الذي سجن 51 عامًا بسبب جرائم لم يقترفها وقد دعي هو وشقيقته لحضور لقاء البابا

 

“أنا بريء وأنتظر محاكمتي بهدوء”.. 48 عاما من العزلة بانتظار الإعدام

ربما يجسّد “إيواوو هاماكادا” الذي بلغ عامه الرابع والثمانين كل ظلم النظام القضائي وقسوته الخارجة عن الحدّ، فلقد أمضى “هاماكادا” نصف حياته في أروقة الإعدام بسبب جرائم قتل لم يرتكبها، ومنذ إطلاق سراحه في عام 2014 وهو يمشي ثلاث أو أربع ساعات يوميا، حتى بات شخصية معروفة على الصعيدين الاجتماعي والإعلامي.

ترافقه السيدة “ماتشيكو” التي أصبحت صديقته، وتعتني به يوميا لتعيد إليه بعض الدفء الإنساني الذي افتقدهُ خلال سنوات السجن الانفرادي التي امتدت إلى 48 سنة كانت كفيلة بعزله عن العالم، حتى أنه لم يعد ينبس بحرف واحد، وأصبح كتلة صمّاء.

يعيش “هاماكادا” مع أخته منذ أن أُخلي سبيله، وهي تحتفظ الآن ببعض صوره التي التقطها في مانيلا حين كان ملاكما مُحترفا، وبعض الرسائل التي تفطر القلب كان قد أرسلها في سنوات سجنه المريرة. يقول في واحدة منها: بسبب ما يحصل لي تسبّبتُ بمشاكل كثيرة لوالديّ وأصدقائي أعتذر عنها، لأنني لا علاقة لي بجرائم القتل التي اتهموني بها، أنا بريء وأنتظر محاكمتي بهدوء.

لكن المحاكمة تنحو منحى آخر، فقد أجبروه على الاعتراف وأثقلوا كاهله بدلائل فبركتها الشرطة حتى أدين بالإعدام، ومع ذلك فقد ظل متماسكا إلى حين إعدام سجين في الزنزانة المجاورة له، الأمر الذي جعله ينهار، وبعد أن قضى 48 سنة في زنزانات السجون، أثبتت فحوصات حمضه النووي أنه بريء تماما، وليست له أي علاقة بالتُهم الموجهة إليه.

سجن “كوسوغي” الشهير في العاصمة اليابانية طوكيو على هيأة صليب

 

مفاجأة اليوم المنتظر.. إعدام برعاية الشعب الياباني

“توشيو ساكاموتو” هو حارس سجن سابق شهد تنفيذ عمليات إعدام متعددة، ويشرح لنا عن طبيعة غرفة الإعدام، والفتحة التي يقف عليها المحكوم بالإعدام، والبكرة المثبتة في السقف التي يمرّ فيها الحبل، وفي الصالة المجاورة توجد ثلاثة أزرار تسمح بفتح الفجوة التي يقف عليها المحكوم، ولا يعرف الحراس الثلاثة أيهم قد قام بفتح الفجوة التي يسقط منها جسد الضحية.

لا يعرف السجين الياباني متى يُعدم بالضبط، ففي الصباح يقترب حارس من السجين، ويطلب منه الخروج من دون أن يخبره بالحقيقة، ويقول له إنهما سيذهبان إلى مكتب في نهاية الرواق، وهناك ينتظره حرّاس آخرون يقتادونه إلى غرفة الإعدام، الأمر الذي يحرمه من توديع الأهل والأصدقاء.

تتعرّض اليابان لانتقادات شديدة لكونها تطبّق عقوبة الإعدام التي يؤيدها 80% من الشعب الياباني، فقد أعدموا في السنة المنصرمة 15 مواطنا، وينتظر أكثر من 100 شخص الإعدام في أروقة الموت في بلد ديمقراطي لن يكفّ الغرب عن تقريعه وانتقاده كلما سنحت الفرصة.

لأول مرة منذ 38 سنة يزور البابا شبه الجزيرة اليابانية التي تضم قرابة مليون ونصف مليون مسيحي، وقامت الفاتيكان بتوجيه الدعوة إلى “هاماكادا” الذي جرى تصويره هو وشقيقته في الصفوف الأمامية للمدعوين، ولعل وجوده فقط هو إشارة قوية ضد عقوبة الإعدام التي يجب أن تنتهي أسوة بالكثير من البلدان الديمقراطية. وفي أثناء خطبته مرّر البابا جملة مليئة بالتلميحات يقول فيها: كمجتمع مسيحي نحن مدعوون لحماية حياة كل الأشخاص. هل الشخص الذي ارتكب غلطة، أو الشخص المريض، أو الشخص في السجن لا يستحق أن نحبه؟

الصحفي الأمريكي “جيك أديلشتاين” الذي سكن في اليابان لمدة 30 عاما وتعرّف جيدا إلى طبيعة الشعب الياباني

 

انضباط الشعب.. مبادئ تأسيس الدولة اليابانية

تركز المخرجة على “جيك أديلشتاين”، وهو صحفي أمريكي استقر في اليابان منذ ثلاثين سنة، وتعرّف جيدا إلى طبيعة الشعب الياباني وخصاله وثقافته، يتحدث عن فضائل اليابانيين، ومن بينها النظام والتناغم والمصالحة مع النفس، فهم لا يتدافعون عندما تصبح الإشارة حمراء، بل ينتظرون الإشارة التالية، ويحترمون القوانين برمتها، فلا يجوز السير والأكل أو السير والشرب في الوقت نفسه.

تحذر الإشارات اليابانيين في كل مكان، فلا يجوز القيام بالأمور التالية على السلالم الكهربائية، مثل تحريك السيقان أو التلويح بالأيدي، أو استعمال عربات الأطفال وما إلى ذلك، إذ بني البلد على حُب النظام والالتزام الصارم بقوانينه، وهناك أناس كبار في السن يتطوعون بشكل مستمر لحفظ النظام، وهم يحملون فقط القضبان المضيئة ويرتدون السترات الفلورية، وهدفهم حماية الناس وبعض الأحياء التجارية.

إن نسبة الجريمة تنخفض في اليابان عاما إثرَ عام، لكنها تتزايد لدى بعض المسنّين اليابانيين الذين يفضلون السجن على الوحدة.

سجينات في أواسط الثمانينات من العمر في سجن “إيواكوني”، حيث يعملن كل يوم لمدة ثماني ساعات دون مراعاة لشيخوختهن

 

سجن النساء.. مهرب العجائز من وحدة الخارج القاتلة

السجن الثالث والأخير هو سجن “إيواكوني” الذي يقع في القسم الجنوبي الغربي من اليابان، وهو سجن مُخصص للنساء فقط، وتشتهر هذه المدينة بجسرها الخشبي التاريخي، وبسجن النساء أيضا، حيث توجد سجينة واحدة من أصل ثلاث يفوق عمرها الـ65 عاما، وقد وصل أعمار البعض منهن إلى 85 عاما، ويعملن مثل البقية لمدة ثماني ساعات في اليوم من دون مراعاة لشيخوختهن، وقد رأينا البعض منهن محنيات الظهور، لكنهن يشعرنَ بالارتياح لكونهن خلف القضبان.

ثمة امرأة عمرها 70 عاما مسجونة للمرة الرابعة بسبب السرقة، وهي تجد راحتها في السجن أكثر مما لو كانت حرة طليقة، فهي تأكل ثلاث وجبات، وتنام بشكل عميق لأنها تعمل طول النهار.

وفي محاولة جادة من الحكومة اليابانية للسيطرة على ظاهرة سرقة الأشياء البسيطة مثل الطعام والأحذية وحقائب اليد؛ أقدمت إدارة السجن على إنشاء صف مدرسي لإعادة تأهيل السجينات المسنّات، وتعليمهن العناية بالأطفال للاهتمام بأحفادهن بعد خروجهنّ من هذا السجن القاسي الذي لا يعرف الرحمة في بعض جوانبه، خاصة حينما يتعمد أفراد الشرطة حرمانهن من التدفئة، أو إجبارهن على العمل وهنّ في ذروة شيخوختهنّ.