“هروب الرقيب فولكونوغوف”.. حين تضرب يد الستالينية الحديدية نفسها

عبد الكريم قادري

تفنّن الاتحاد السوفياتي سابقا في خلق آليات قمع وأساليب تعذيب حوّلت حياة الآلاف الى جحيم لا يطاق، ولم تقتصر هذه الممارسة الديكتاتورية على المعارضين أو المتورطين في القضايا السياسية فقط، بل تعدتها إلى الآمنين الذين مارسوا مهنا ونشاطات معينة بعيدا عن المؤسسات الأمنية أو السياسية، أو تعود أصولهم إلى بلدان أخرى غير روسية، وما حدث سنة 1938 هو عبارة عن صورة مصغّرة من مدونة الاضطهاد العام الذي مورس بحق الأبرياء من الاتحاد السوفياتي.

لقد أعاد فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” (Captain Volkonogov Escaped) تجسيد بعض آلامهم وأحزانهم المتعددة، فما الذي حدث بالضبط في تلك الحقبة حتى أعاد هذا العمل إحياءه؟

اعترافات التعذيب.. فرقة أمنية خارج الوثائق الرسمية

يعمل الرقيب “فولكونوغوف” (الممثل يوري بوريسوف) في فرقة أمنية غير تقليدية وغير موجودة في الوثائق الرسمية، مهمتها تنفيذ القوانين واستخراج معلومات من طرف أشخاص يعذبون بطرق أقل ما يقال عنها إنها وحشية، وبعد أخذ تلك الاعترافات التي لم يعترفوا بها تجري تصفيتهم جسديا، لكن بعد فترة تحول أحد أعضاء تلك الفرقة وهو الرقيب “فولكونوغوف” من جلاد إلى ضحية وفريسة من قبل أفراد فرقته.

 

لهذا فإنه يستبق الأمر ويهرب من المركز، بعد أن سرق ملفات الضحايا الذين وقع تعذيبهم وتصفيتهم، ومن بينهم أعضاء شباب من الفرقة نفسها، وعلماء وأساتذة ومخترعون وكفاءات مختلفة، فقط عذبوا وقتلوا لأن أصولهم من بلدان أخرى لديها حرب مع الاتحاد السوفياتي، ليكون هذا الإجراء عملية استباقية لخيانة لم تقع، أو أن خوفا بأن يكونوا جواسيس مستقبليين لم يمارسوا أي فعل إجرامي في ذلك الوقت.

وبعد إرغامهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبونها وأمضوا عليها؛ تقوم الفرقة بتصفيتهم بتهم مختلفة، مع تسليم تلك الملفات أو المحاضر لذويهم الذين باتوا يرون بأنهم خونة فعلا.

“فولكونوغوف”.. رحلة مطاردة الجلاد الذي أصبح ضحية

لقد قرر الرقيب “فولكونوغوف” أخذ ملفات الفرقة والهرب بها، لهذا ثارت ثائرة زملائه السابقين وبدؤوا في عملية مطاردة شرسة في شوارع وأحياء موسكو، بعد أن أسسوا فرقة صغيرة وتوزعوا على أجزاء المناطق التي يحتمل وجوده فيها، بينما كان “فولكونوغوف” يوزع تلك التقارير على أفراد الضحايا، مع تقديم شروحات تفيد ببراءتهم.

كان هذا هو ما جعل الفرقة الأمنية تفقد صبرها بعد الضغط الكبير الذي مورس عليها من قبل السلطات العليا، فبعد أن عرفوا بطريقة عمله قاموا بجمع كل عائلات الضحايا في المركز وأرغموا الهارب على تسليم نفسه أو تصفية ما بقي منهم، وهذا ما أثر على الرقيب الذي كان يبحث عن الغفران من هؤلاء، لأنه أحس بأنه سيذهب إلى الجحيم إن لم يسامحوه.

الرقيب “فولكونوغوف” الذي تحول من جلاد إلى ضحية وفريسة من قبل أفراد فرقته

 

يتحرك الفيلم ضمن هذا الإطار من الإثارة والترقب والخوف، خاصة بعد أن استعاد هذا الرقيب ضميره الذي ذهب من خلال التدريبات الأمنية المختلفة والقاسية التي تلقاها، مع تلقيهم مفاهيم جديدة بالنسبة لهم، إذ يطلقون مثلا على عملية التعذيب “أساليب خاصة”، وتعليمهم بأن الحق الوحيد الذي يملكه المواطن هو “الحق في الموت”.

كما جرى تدريبهم على أساليب القتل من خلال أمثلة حية، ويقوم قائدهم بتقديم أمثلة على فنون التصفية والإعدامات، إذ يقدم لهم الجلاد نصائح ثمينة عن كيفية إطلاق النار أسفل جمجمة “الخائن” أثناء إعدامه، وهذا “توفيرا للوقت والذخيرة”.

“ستالين”.. أضواء على بطل قومي يده مُلطخة بالدماء

استطاع المخرجان “ألكسي تشوبوف” و”ناتاشا ميركولوفا” رفقة “مارت تانيل” -الذي شارك معهما في كتابة السيناريو- أن يسلطوا الضوء على فترة زمنية مهمة من تاريخ روسيا الحالية (الاتحاد السوفياتي سابقا)، مع الإشارة إلى الاضطهاد السياسي والقمع الذي مارسه هذا النظام تحت زعامة الرئيس “ستالين” (1878-1953)، فقد قاد البلاد في تلك الفترة بيد من حديد.

ورغم تحوله إلى رمز سياسي وبطل قومي في تلك الفترة وبعدها، فإن الفيلم أظهر يده الملطخة بالدماء من خلال التطرق لصفحة من صفحاته الكثيرة التي حاول التاريخ الحديث أن يتجاوزها أو يداريها، لكن العمل عرّج عليها بروح ناقدة ومسؤولة، وبهذا يكون قد أحيا جزءا من ضحايا مآسي البوليس السياسي.

من هنا يكون الفيلم قد أكرم أرواحهم البريئة وذكراهم التي لا تزال تؤثر إلى اليوم في الأجيال التي جاءت بعدهم، خاصة أن كثيرا من هؤلاء ما زالوا خونة بالنسبة لهم، بالأخص الأسماء البارزة، مثل أساتذة الجامعات والمخترعين وغيرهم من الأسماء الثقيلة.

تدريب المستجدين في الفرقة الأمنية على كيفية القتل دون إهدار الذخيرة أو الوقت

 

وكأن هذا الفيلم جاء ليحرض العالم أجمع لا روسيا فقط، ليقدموا قراءة مختلفة لوقائع الماضي وطريقة البحث في صفحات التاريخ، مع تدريب العقل على طرح الأسئلة بشكل دائم، وفتح مقارنات بين جميع الجهات للتوصل إلى جزء من الحقيقة وليس كلها.

تأطير الضباب والألوان والمعمار الروسي.. ألاعيب الصورة السينمائية

رغم تركيز الفيلم على المقاربة السياسية التاريخية، فإن المخرجين خلقا جماليات متعددة في الفيلم، أهمها تلك التي خلقها المصور “مارت تانيل” المساهم أيضا في كتابة السيناريو أيضا، وقد انعكس هذا العمل الاحترافي على الصور التي التقط كثيرا منها في الفضاءات الخارجية، مع توظيف الضباب الذي يخترق العمارات والطرق والبيوت والشوارع، وضبط الإضاءة المولّدة للغة من الدلالات مُشبعة بالتأويل، مع خلق ديكور يناسب تلك الفترة، إضافة إلى الدخان المتصاعد والبخار الصادر من الأفواه بسبب البرد الروسي.

هذه المعطيات جميعها شكّلت منعرجا حاسما في الفيلم، فقد أبرزت الجماليات البصرية المؤطرة وفقا لسياقها التاريخي وخدمة لموضوع الفيلم، مثل التركيز على اللون الأحمر الذي نجده في لباس الأفراد الأمنيين، وفي الدماء الصادرة من التعذيب، وفي بعض واجهات العمارات، وفي كثير من التفاصيل.

أعضاء الفرقة الأمنية وهم يؤدون إحدى الرقصات في انتظار تلقيهم أوامر القتل والتصفية والتعذيب

 

هذا يشير إلى العلم الروسي الذي أصبح رمزا للشيوعية في كل الدول التي احتضنت هذا النظام، إضافة إلى الحزن في عيون الشخصيات في الشارع وطريقة لباسهم والشقاء والفقر المنتشر، وهذا ما دلّ على صعوبة تلك الفترة بسبب توجيه كل مقدرات البلد في اتجاه الصناعة الحربية، وتقوية الجيوش على حساب متطلبات الشعب.

صناعة الارتباط الاجتماعي بين المَشاهد.. مونتاج الفيلم

جاء مونتاج “فرانسوا جيديجير” -الذي يملك مرجعية سينمائية محترمة- ذكيا ومراوغا يستند في المجمل على الفكرة والذهن لا على التقنية، لهذا ينطلق من مشاعر القصة والشخصيات وخلق مقارنات بين المَشاهد، وكأنه يستند على نظريات ابن بلده المخرج والمنظر “سرجي إزنشتاين” (1898-1948) الذي دعا إلى ربط اللقطات لخلق تأثير اجتماعي، وهذا ما حدث في كثير من لقطات الفيلم.

ولقد ساهم في التأسيس لهذه الجماليات والتأكيد عليها من خلال توظيف المعمار الروسي، فقام بتوظيف العمارات والبيوت الفسيحة والمراكز والسلالم والأعمدة الرخامية والزليج المميز الذي يمكن أن تسمع وقع الأحذية العسكرية عليه (قام بهندسة الصوت ماتيس ري)، إضافة الى الأدوات الأخرى مثل الهاتف والأسلحة والديكور العام الذي جسّدته القطارات والشوارع والسيارات.

توزيع المآسي وتشتيت الإجابات.. حبكة ذكية

جرى حبك قصة فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” (126 دقيقة) بطريقة ذكية، إذ لم يقم بتقديم المعلومات والمعطيات حول الشخصيات ومآسيهم دفعة واحدة، بل جاءت بشكل جزئي مُقسّم على فصول، وهي الخطوة الذكية التي تضمن عادة تتبع كل تفاصيل الفيلم والبقاء لنهايته.

من أكثر أساليب التعذيب لدى الفرقة هو وضع قناع على وجه الضحية ووصله بغاز خاص

 

حتى إن المخرجين كانا صارمين في تقديم تلك المعلومات أو الاجابة عن الأسئلة في القصة التي كان ينتظرها المشاهد، مثل مصير البطل وأسباب تمرده، وكيفية التعامل مع أهل الضحايا، والجزاء الذي يستحقه الجلّاد، وغيرها من المعطيات الأخرى التي تربط الجمهور بالفيلم.

كما أنهما زرعا في العمل كثيرا من المفاهيم حول فلسفة التعذيب وأبعاده النفسية والحضارية، انطلاقا من عملية تفسير هذا السلوك غير الإنساني والوحشي، إذ يقومون بتسميته “أساليب خاصة”، أي أن التعذيب وإرغام الضحية على الاعتراف بأشياء لم يرتكبها هي أساليب خاصة، وكل هذا لإقناع الجلاد بجدوى ما يقوم به، وزرع إحساس الرضا فيه.

كما فتح الفيلم مقارنات بين الدين واللادين، وجدوى أن يؤمن المرء بمعتقد ما، وهي الأسئلة المهمة التي كان يطرحها النظام السوفياتي الذي اعتمد على نظرية لادينية الدولة، وشجع عليها وقمع كل من ينغمس فيها.

آفاق المهرجانات.. جوائز عالمية لفيلم مثالي

فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” للمخرجين “ألكسي تشوبوف” و”ناتاشا ميركولوفا” مصنوع بطريقة ذكية، فقد تطرق إلى عدد من التفاصيل البصرية والسمعية والفكرية، ووظفها بطريقة منسجمة وسلسة صنعت مثالية الفيلم وتوفقه، وقد أثث هذه الأشياء التمثيل الجيد والمحترف والمقنع الذي قام به أبطال العمل، وهم “تيموفي تريبونتسيف” و”ألكسندر ياتسينكو” و”نيكيتا كوكوشكين” و”فلاديمير إبيفانتسيف”، خاصة الممثل الرئيسي “يوري بوريسوف” الذي بات مطلب كثير من المخرجين في روسيا حاليا، نظرا لتقمصه أي شخصية يؤديها بشكل متقدم من المهنية.

 

فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” (باللغة الروسية: Капитан Волконогов бежал) هو من إنتاج سنة 2021 للمخرجين الزوجين الروسيين “ألكسي تشوبوف” و”ناتاشا ميركولوفا”، وقد شارك في عدد من المهرجانات السينمائية العالمية، وحصل على كثير من الجوائز، من بينها دخوله المنافسة في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي 2021، وتتويجه بجائزة الجونة البرونزية في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وذلك خلال مشاركته في الدورة الخامسة (14-22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) من مهرجان الجونة السينمائي، وقد ساهمت في إنتاج هذا الفيلم إستونيا وفرنسا، إضافة إلى روسيا التي ينتمي لها الفيلم ويحمل لغتها وموضوعها.