“نووي”.. هروب من لهيب المحروقات الخانقة إلى أمان الطاقة النووية

كعادته وكما عرفناه من خلال أفلامه الوثائقية التي بدأ في إخراجها عام 2000، عاد المخرج الأمريكي الكبير “أوليفر ستون” لكي يثير الجدل مجددا بفيلمه الوثائقي الطويل الجديد “نووي” (Nuclear) الذي أخرجه عام 2022 وشهد مهرجان البندقية السينمائي الأخير عرضه العالمي الأول.

نحن نعيش في عصر التغير المناخي والتلوث البيئي وارتفاع درجة حرارة الأرض بدرجة تنذر بالخطر، وهو ما يرى “ستون” أنه أخطر من أي كارثة كونية أو جائحة كبرى، وأن العالم لو لم يتوصل بحلول العام 2050 إلى بدائل لمصادر الطاقة التقليدية الحالية التي تسببت في كل هذه الأخطار، فسيكون الوقت قد تأخر كثيرا، وستصبح الكارثة مؤكدة، ومن الممكن أن نشهد نهاية صورة عالمنا التي نعرفها الآن. لكن ما العمل؟

 

مصادر الطاقة التقليدية الموجودة تتركز أساسا في المحروقات (أي النفط والغاز)، وهو ما يؤدي إلى التلوث المستمر للبيئة، وما ينتج عن ذلك بالطبع، إذن ما هو البديل؟

تغير المناخ.. رؤية سينمائية مستندة على مصادر علمية

يستند “أوليفر ستون” إلى مصدرين أساسيين هما اللذان دفعاه إلى صناعة هذا الفيلم، الأول هو فيلم “الحقيقة المزعجة” (An Inconvenient Truth) الذي أخرجه “ديفيس غوغنهايم” عام 2006، ويتبنى حملة نائب الرئيس الأمريكي الأسبق “آل غور”، وكانت تهدف إلى لفت أنظار الملايين في العالم إلى خطورة ظاهرة الاحتباس الحراري على مستقبل الحياة على كوكب الأرض.

أما المصدر الثاني فهو كتاب “مستقبل مزدهر: كيف حلت بعض البلدان مشكلة التغير المناخي ويمكن لباقي الدول أن تحذو حذوها؟” (A Bright Future: How Some Countries Have Solved Climate Change and the Rest Can Follow)، وهو الكتاب الذي صدر عام 2019 من تأليف البروفيسور “جوشوا غولدشتاين”.

 

اشترك “غولدشتاين” مع “أوليفر ستون” في كتابة سيناريو فيلم “نووي” الذي يمكن القول إنه عمل وثائقي علمي وتعليمي في الوقت نفسه، أي أن المقصود من ورائه ليس استعراض الآراء والآراء المضادة على غرار التقرير التلفزيوني، بل هو يتبنى من البداية رؤية مخرجه الواضحة المحددة التي توصّل إليها نتيجة أبحاثه وقراءاته، وتفقده عن قُرب للمصادر التي تدعم موضوع الفيلم كما سنرى.

الطاقة النووية.. نمطية مرعبة لمصدر طاقة أصيلة على الكوكب

يتكون الفيلم من مئات اللقطات والصور الفوتوغرافية والرسوم البيانية والخرائط وتصاميم الغرافيكس والمقابلات، وكل ما يمكن أن يدعم رؤية مخرجه، وهي ترمي أولا إلى إزالة ما ترسخ في عقول ملايين البشر منذ عشرات السنين عن خطر الطاقة النووية، بحيث أصبحت كلمة “نووي” -التي يختارها “ستون” عنوانا لفيلمه- كلمة مخيفة تسبب الرعب والقشعريرة، وذلك لأنها ببساطة ترتد بالذاكرة إلى حوادث “هيروشيما” و”ناغازاكي”، وإلى “تشرنوبيل” و”فوكوشيما”.

والهدف الثاني إثبات أن الطاقة النووية هي الأفضل من جميع النواحي، وأن هذا ما يقوله كثير من العلماء والخبراء، وعلى رأسهم البروفيسور “جوشوا غولدشتاين” نفسه الذي يظهر في كثير من مشاهد الفيلم محللا ومعلقا.

“ستون” اليوم يريد أن يعكس الصورة المستقرة منذ عقود في أذهاننا تماما، ويريد من خلال فيلمه هذا أن يعيد الاعتبار مجددا إلى الطاقة النووية، وينقي سمعتها مما لحقها من تشويه.

مجموعة من العلماء الفرنسيين الذين يعملون في مشروع محطة نووية جديدة

 

يبدأ “ستون” من البداية، أي من عام 1898، منذ أن اكتشفت “ماري كوري” مادة اليورانيوم الطبيعية، ويحلل ويوضح لنا كيف أن اليورانيوم مادة أصيلة موجودة في تربة الأرض، أي أنها كانت جزءا طبيعيا من تكوين الأرض منذ 6 بلايين سنة، وأن اليورانيوم موجود بنسبة ما في الأرض، فهو يتفاعل ويتخصب بنسبة ضعيفة بالطبع، ومنه تستمد الأرض حرارتها، كما أن الإنسان -حسب ما يقوله “ستون” في الفيلم- يتعرض للإشعاع النووي بنسبة ما غير ضارة، وهو الذي يمنح أشعة الشمس قدرتها على الإضاءة عندما تتسلل إلى اليورانيوم المدفون في التربة. فهو يطالب إذن بالعودة إلى أقدم عنصر طبيعي للطاقة مغروس في تربة الأرض.

يشرح “ستون” كيف تعرضت فكرة الاستعانة بالطاقة النووية لضربة قاصمة بعد تفجير قنبلتي “هيروشيما” و”ناغازاكي” في أواخر الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من البشر، إلا أن الرئيس الأمريكي الأسبق “دوايت أيزنهاور” جاء بعد ذلك في عام 1953، فأعلن ضرورة تسخير الطاقة الذرية من أجل السلام.

“جزيرة الأميال الثلاثة”.. حادث يشعل حملة فزع ضد المفاعلات النووية

نشاهد كل هذه الأحداث من خلال وثائق مصورة ومقاطع بصرية مختارة بعناية، والحقيقة أن “ستون” يستخدم كثيرا من لقطات الأرشيف التي تقتضي بحثا مكثفا عن أدق صورة يمكن أن تدعم موضوع الفيلم، ومنها أيضا لقطات كثيرة من أفلام سينمائية تركت تأثيرها على المشاهدين في العالم، أي ساهمت في تشويه فكرة الطاقة الذرية والنووية، ورسخت الرعب منها.

يرى “ستون” أن العالم كان قد بدأ بعد خطاب “أيزنهاور” الشهير في الأمم المتحدة يتطلع إلى إنشاء المفاعلات النووية واستخدام تلك الطاقة في توليد الكهرباء، لكن “اللوبي” الذي يدعم مصالح احتكارات النفط العملاقة شن حملة منظمة بهدف تخويف العالم من الطاقة النووية، وبعد الحادثة الشهيرة التي وقعت عام 1979 في مفاعل “جزيرة الأميال الثلاثة” بولاية بنسلفانيا، وإصابة أجزاء من المفاعل بخلل أدى إلى تسرب بعض الأشعة النووية؛ ظهرت المطالبة بوقف أو تقليص الاعتماد على الطاقة النووية.

مخرج الفيلم مع آشلي فينان العالمة المسؤولة عن تطوير وابتكار مفاعلات نووية تعمل بطريقة جديدة في الولايات المتحدة

 

ورغم أنه أكبر حادث من نوعه يتعلق بالمفاعلات النووية في الولايات المتحدة، فإنه لم يتسبب -حسب الفيلم- في موت شخص واحد، كما أن الأبحاث التي أجريت فيما بعد لتقدير مدى انتشار الإصابة بالسرطان عند سكان المنطقة، اختلفت التقارير حولها كثيرا، إلا أن الحادث كان كافيا لإثارة الفزع، وظهور الجماعات التي تطالب بوقف العمل بالطاقة النووية.

ويصور “ستون” أن الحملة شملت صناع الخيال السينمائي، وكانت بدايتها ظهور فيلم “أعراض صينية” (China Syndrome) في العام ذاته (أي 1979)، وهو من بطولة “جين فوندا” التي قادت بعد ذلك حملة لإغلاق المفاعلات النووية بشكل نهائي.

حوادث المفاعلات.. أخطاء بشرية تفسد سمعة الطاقة الآمنة

يرى فيلم “نووي” أن القوى المحافظة والقوى التقدمية اتفقتا على لعنة الطاقة النووية وشيطنتها، وهو يتوقف ويحلل كيفية التعامل مع النفايات النووية بحرص شديد، ودفنها في أماكن خاصة مهيئة -طبقا لمقاييس علمية- تحت الأرض، بحيث لم يثبت قط أنها أدت إلى تلويث البيئة المحيطة عن طريق تسرب الإشعاعات، مقارنة مع نواتج الطاقة التقليدية والأبخرة الناتجة عن المحروقات التي تتسرب إلى البيئة وتتسبب في تلوث الماء.

يثبت الفيلم أن الطاقة النووية أكثر أمانا، وأرخص كثيرا وأقل ضررا، وأكثر كفاءة وفعالية في توليد الكهرباء، وأن وقف أو تقليص العمل بها في بلدان عدة -خصوصا بعد حادث “تشرنوبيل”- قد أضر بمشاريع توليد الكهرباء خصوصا في البلدان الفقيرة.

يذهب “ستون” إلى روسيا ويتحدث إلى كبير العلماء الذي كان مسؤولا عن المفاعل، ويستمع إلى سرد ما وقع بالتفصيل، ويثبت أن الحادث كان نتيجة خطأ بشري، وليس خطأ في تصميم المفاعل نفسه، وكيف وقعت التغطية على الحقائق والمبالغة والتهويل في الأمر لأغراض تخدم احتكارات البترول.

أوليفر ستون في موسكو يتناقش حول ما وقع في تشرنوبيل

 

وقد حدث الشيء نفسه مع حادث انفجار محطة “فوكوشيما” الذي يقول “ستون” في فيلمه إنه لم يؤد إلى موت شخص واحد، وأنه جرى التعامل معه بكل حرفية ومهنية على أرقى مستوى من جانب اليابانيين. ومن دون أي تسرب إشعاعي خطير يهدد الصحة العامة، في حين تقف الحكومات عاجزة عن وقف تلويث البيئة الناتج عن الاعتماد على المحروقات.

محاربة المحروقات.. عودة الدول الكبرى إلى المجتمع النووي

من أكثر أجزاء الفيلم إثارة للاهتمام والمتعة الأجزاء التي نرى “ستون” خلالها يذهب إلى بلدان مختلفة، مقتبسا أسلوب “مايكل مور”، لكي يتجادل مع المسؤولين والخبراء والمتخصصين حول الطاقة النووية.

يذهب “ستون” إلى ألمانيا وفرنسا وكندا والسويد وروسيا والصين، ويصور كيف أهملت ألمانيا كثيرا محطات الطاقة النووي تحت ضغوط “اللوبي” التقدمي وجماعات الخضر، وفضلت الاتجاه إلى مصادر الطاقة البديلة مثل الرياح والطاقة الشمسية، وهي في رأيه مصادر غير مستقرة، بل نادرة، والاعتماد عليها غير عملي.

أما فرنسا فقد أصبحت -كما يقول- الدولة الأكثر اتجاها في العالم للاعتماد على الطاقة النووية، وكيف أنها بدأت في تشييد الكثير من المحطات النووية، وأصبحت تعتمد في توليد الكهرباء على الطاقة النووية بنسبة 70%.

ستون يتناقش مع العالمة الأمريكية كارولين كوشران داخل مفاعل نووي جديد في أمريكا

 

ويدلل الفيلم بالأرقام على الاتجاه المتزايد في روسيا والهند على إعادة الاهتمام بإنشاء محطات الطاقة النووية، بعد أن أصبح واضحا أن هذه الطاقة أكثر أمانا وأقل تكلفة، وأن الناتج منها أسرع من غيرها، كما أن الصين توسعت في إنشاء أنواع جديدة من المحطات الصغيرة الأقل تكلفة، خصوصا أنها أعلنت نيتها الوصول إلى الدرجة صفر في استخدام المحروقات بحلول عام 2050.

مصداقية الفيلم.. بيانات وأرقام تواجه حملات التحريض

لا بد لنا أن نتساءل: هل ما يقوله “ستون” ويشهد معه فيما يقوله عدد كبير من العلماء والخبراء من بلدان عدة يمكن الوثوق به؟

يستخدم “ستون” في فيلمه منذ البداية منهج التعليق الصوتي بصوته، إذ يشرح ويحلل ويتوقف أمام الخرائط والبيانات والأرقام، ويحاول أن يقدم تفسيرات يسهل تلقيها وفهمها. لكن من الواضح أن الفيلم تعرض حتى من قبل عرضه (أي في مرحلة الإنتاج) إلى حملة موجهة من قبل جماعات الضغط التي يدعمها أصحاب المصالح في الإبقاء على الاستخدام المستمر لوسائل الطاقة التقليدية.

كما واجه الفيلم هجوما من جانب مَنْ يرفضون منهج “أوليفر ستون” في أفلامه الوثائقية، ويتهمونه بأنه صنع أفلاما تعلي من شأن شخصيات مستبدة يعاديها الغرب، مثل “هوغو تشافيز” و”فيدل كاسترو” و”فلاديمير بوتين”.

إنقاذ المدن المهددة.. دعوات للتعاون على مصالح الكوكب

في الجزء الأخير من فيلمه يعود “ستون” إلى أمريكا، حيث يلتقي عددا من العلماء الشبان الذين يعملون على إقامة عدد من المحطات النووية الصغيرة، من أجل توفير الكهرباء بأسعار رخيصة لعدد من السكان في بعض المدن الصغيرة الداخلية، وهي خطوة تعكس عودة الاهتمام الأمريكي بالطاقة النووية، وذلك بعد أن قضت عليها الدعاية السوداء.

 

يسلط الفيلم الأضواء على موضوع يهم مستقبل العالم كله، ويطرح الكثير من التساؤلات والفرضيات حول مستقبل الأرض ومستقبل الإنسان، وهل يمكن الاستمرار على ما نحن عليه اليوم من إهدار للطاقة وتسريب للانبعاثات الضارة، والتسبب في كوارث قادمة قد تتسبب -كما يقول العلماء في الفيلم وخارجه- في محو مدن رئيسية كبرى في العالم؟

كانت زيارة “ستون” إلى موسكو قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا التي أدانها “ستون” بالطبع، لكنه دعا -خلال مؤتمر صحفي عقده على هامش مهرجان البندقية بعد عرض فيلمه هناك- إلى التقارب والتصالح والتوصل إلى حلول، ضاربا المثل بإنهاء الحرب الباردة في السابق، وبالتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا في مجال الفضاء وغيره، وداعيا إلى استعادة روح التعاون من أجل خير البشرية.