“مارادونا”.. معشوق نابولي الذي انتشلها من تحت الأنقاض

“أنا مدين لك بالفضل، فحضورك كان دائما مهما في حياتي، كنتُ محظوظا لأنني أعربت لك عن محبتي، وأنك قد لمستها عن قرب، ومنذ مماتك زاد حضورك وصار أكثر قوة كل يوم، ليس فقط لي بل للمدينة بأكملها، أتمنى أن يصلك كل هذا الحب الجارف وسأبذل جهدي لإظهار ذلك”.

بهذه الكلمات بدأ “سيرجو سيانو” المصور والصحفي الذي وثّق سيرة مارادونا، حديثَه لهذا الفيلم الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها تحت عنوان: “مارادونا ونابولي.. المتمرد الذي نحب”، ويستعرض حياة النجم الأرجنتيني “دييغو أرماندو مارادونا” الذي لعب لنادي نابولي، وعشقته المدينة كلها.

“مارادونا”.. ذكريات الساحر الذي أضاء ليل نابولي

نابولي، المدينة الجميلة الهادئة جنوب إيطاليا تعلن انتماءها الكامل لمارادونا

عشتُ تلك الأحداث طفلا صغيرا، ولأنني من عائلة تمتهن التصوير الصحفي، فقد كنا نعيش في بيتنا كل ما يحدث في الخارج، حتى قبل أن يسمعه الناس من التلفاز، كانت أمي قلقة دائما علي وتحاول إبعادي عن تلك الأجواء؛ الخوف والترقب وانعدام الأمن، أجواء مَرضية، خلقت آثارا سيئة على مجريات حياتي.

عندما كبرتُ عملت في مجال التصوير الصحفي بمساعدة أبي وأخي، قمت بتغطيات صحفية وتصوير جرائم القتل والاغتيالات، في تلك الفترة كان الصحفيون هم أنفسهم عرضة لتصفيات كامورا الإرهابية، فصار الخوف والترقب جزءا من حياتي العملية.

في هذه الأجواء كان هنالك مكان آخر ينقلني إلى عالم جميل ومبهج، ملعب كرة قدم اسمه “كامبو براديسو” حيث وجدت السلام، هناك كان يتدرب الساحر”دييغو”.

سبع سنوات قضاها مارادونا في نابولي فكان بطلها وحبيبها

في عام 1982 ترك “مارادونا” ناديه الأشهر “برشلونة” لينتقل إلى نادٍ مغمور في جنوب إيطاليا، لم يكن “نابولي” يملك أي بطولة في رصيده، قضى معه 7 سنوات، وضع خلالها نابولي على عرش الكرة الإيطالية وارتقى بمستواه إلى العالمية، ثم غادر رسميا في 1991، لكن المدينة أبت أن يغادرها واحتفظت به بطريقتها الخاصة.

ملك الجداريات.. نابولي تضاهي مدن الأرجنتين

يتحدث “ماريو” رسّام جداريات الغرافيتي قائلا: كنتُ عرضة للاكتئاب وعلى وشك أن أكره مدينتي التي ينبغي أن أحبها، وبدون مبالغة لقد أنقذني “مارادونا” من كل ذلك، وانتشلني من الاكتئاب وتبعاته، أنا مدين له بحبي لهذا المكان، بمجرد انتهائي من رسم هذه الجدارية لـ”مارادونا” امتلأت شوارع نابولي بالجداريات المماثلة، تماما مثل مدن الأرجنتين.

رسمتُ 15 جدارية مماثلة حتى الآن، وفي كل منطقة أذهب إليها يقوم السكان بجمع التبرعات لشراء الألوان، رسمت على هذا الجدار، ولم أكن أعلم أن “مارادونا” كان يتدرب هنا، كنت مغمورا، ولكن بمجرد أن رسمت “مارادونا” وابنته “دالما” بدأت أتلقى العروض من مختلف أحياء نابولي لرسمات شبيهة، وكل حي يريد أن يرى “مارادونا” بالشكل الذي يستأنس به.

في كل زاوية من نابولي ستجد لمارادونا صورة، وفي كل محل ومطعم له عشق وذكر

لستُ مهتما بكرة القدم، ولكن شخصية “مارادونا” ملهمة لي، وهو جزء أصيل من طفولتي، إنه شخصية أسطورية، ويوم موته أحسست أن سوبرمان أو الرجل الوطواط قد مات، عندما أتمعن في نظراته أرى أنها حقيقية وليست مراوِغة.

كان “مارادونا” المثل الأعلى لأبناء الطبقة الفقيرة، ولكن الأغنياء كانوا يحبونه أيضا، في الواقع أحبته نابولي كلها، كان متمردا على أوضاعها القاسية ومخَلِّصا لها من قيودها، في الثمانينيات كانت نابولي تعاني العنصرية من مدن الشمال، وفقر الناس وتهميشهم يميت هممهم، وعندما اقتنص لها “مارادونا” درع الدوري من أرباب الشمال، كان هذا قمة الانتصار للفقراء.

إن له مكانة خاصة في قلوب أهل نابولي، ومنذ جاء إلى المدينة الجريحة ورضي اللعب لناديها المغمور أصبح قائدا، ليس للفريق فقط بل للمدينة بأكملها، كان بانتصاره لنابولي يريد أن ينتصر لنفسه “أريد أن أسير في قافلة أبناء نابولي الفقراء”، وقد تلقى عروضا سخية من أندية الشمال، من اليوفي وميلان، ولكنه رفضها قائلا: “لن أخون بلدتي”.

معرض “مارادونا”.. سفر عبر الزمن من خلال الصورة

ينشغل “سيرجو” هذه الأيام بتنظيم معرض لصور “مارادونا”، ويقول عنه: اتصلت بي “إيفون”، وهي مصورة ومنظمة معارض، ولديها أفكار عن إقامة معرض للصور التي التقطتُها لـ”مارادونا”، وقد رحبتُ بالفكرة وكنت سعيدا بها، لقد قالت لي: أريد أن أختار الصور التي تمثل الخط الزمني لحياة هذا البطل الأسطوري في مدينتنا.

قالت إنها ستختار 149، تريد أن تخلق حالة لدى المشاهد تشبه الغوص في دهاليز هذه الأسطورة والفترة التي عاشها في نابولي، وتريد أن يعيش الناس نفس المشاعر التي عشتُها أنا بينما كنت ألتقط هذه الصور.

معرض صور مارادونا للمصورة الفوتوغرافية إيفون دي روزا

بعد “إيفون” تابعت طريقي في بعض شوارع نابولي الضيقة، استوقفتني صورة لمارادونا على باب مقهى، ولم أفهم ما هو مكتوب عليها، فسألت صاحب المقهى عمر سليمان، وهو من أصل فلسطيني، فأجابني: مكتوب عليها “قلبي فلسطيني”. نعم أتذكر هذه العبارة الشهيرة التي قالها “مارادونا” عندما التقى أحد الفلسطينيين، يومها أهداه قميصه وقال له هذه العبارة التي أحدثت صخبا كبيرا.

“لن يجدوا دما في عروقه، بل وقود صواريخ”

يتحدث صاحب المقهى عمر سليمان قائلا: “مارادونا” له حضور كبير وشهرة مميزة في جميع البلاد التي تعاني القهر وقمع الحريات، لقد أصبح رمزا في فلسطين كذلك بعدما قال هذه العبارة، الناس هناك يحبونه كثيرا، لقد تغنى به الشاعر الفلسطيني المشهور محمود درويش، وكتب عنه أبياتا جميلة بعد نهائيات كأس العالم 1986:

لمن سترفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم

بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود

وأجّج فينا عطش الحاجة إلى بطل

بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، ونعلق له تميمة

ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار

“مارادونا”

لن يجدوا دما في عروقه، بل وقود صواريخ.

الشاعر الفلسطيني محمود درويش يشيد بمارادونا المناضل

يقول الصحفي “سيرجو”: قال لي عمر كذلك إنه يقدم عروضا فنية ومسرحية، ويمكنه تقديم فقرة في معرض الصور، يقرأ فيها بعض الأشعار عن “ماروادونا”. فأجبته أن هذا من دواعي سروري وافتخاري. وسأترك عمر يتحدث عن تجربته في نابولي.

بائع الفلافل.. ثروة كبيرة في ليلة النصر الأكبر

يتحدث صاحب المقهى عمر سليمان عن نفسه قائلا: جئتُ إلى هنا في 1977، بعدما أنهيت الدراسة في مدرسة سبسطية، أنا من قرية نصف جبيل قرب نابلس، وهي صغيرة يبلغ عدد سكانها 200 شخص، جاءني قبول للدراسة في نابولي، لم أكن قد سمعت بها من قبل، ولكنني دهشت عندما وصلت إليها، إنها تشبه كثيرا مدننا العربية، فيها مثل صخب نابلس وعمّان ودمشق.

مطعم فلسطيني بنابولي علق صاحبه على جداره صورة مارادونا مكتوب عليها “قلبي فلسطيني”

سكان نابولي لطيفون ويحبون الأجانب، في البداية كانت ظروف العيش صعبة وكنت مضطرا للعمل مع الدراسة، لتأمين حاجات زوجتي وطفلَيْ، فكنت أعمل مترجما. كان لي صديق إيطالي لديه مكان يلتقي فيه بأصدقائه، ويعدّ فيه بعض أنواع الطعام العربي والمشروبات.

ذهبت إليه ذات ليلة فأخبرني بأنه ذاهب إلى الملعب لحضور مباراة لفريقه، وطلب مني أن أجلس مكانه في ذلك الملتقى، كنت ليلتها قد أحضرت معي شيئا من عجينة الفلافل، أعددتها يدويا في بيتي، وبدأت بقلي الفلافل في الفترة التي خرجت فيها الجماهير من الملعب منتشية بانتصار فريقها، وجاؤوا إلى المكان وأكلوا الأخضر واليابس.

بقيادة مارادونا، فاز نابولي بدرع الدوري الإيطالي لموسم 86- 87 فكان احتفالا عظيما

ليلتها بعت من الفلافل بمبلغ مليون ليرة إيطالية تقريبا، مما يعني أنني حصلت على ما يكفيني مصروف سنة كاملة، أظن أن نابولي حصلت ليلتها على أول درع للدوري في موسم 1986-1987، وهي أول مرة يحصل فيها فريق من الجنوب على بطولة الدوري، لقد كان لـ”مارادونا” فأل حسن عليّ. كانت الجماهير تهدر منتشية:

أمي.. يا أمي

تعرفين لماذا يدق قلبي؟

لقد رأيت “مارادونا”.. رأيت “مارادونا”

أمي.. قلبي يعشقه.

“كثير من أبنائنا أسميناهم دييغو”.. صانعة البيتزا

حتى جدران المقابر لم تسلم من صخب جماهير نابولي وحبها لمارادونا، كانت هناك عبارة مشهورة تقول: “كنت أظن أني سألحق بكم قبل مجيء هذا اليوم”. وهنالك عبارة أشد سخرية تقول: “أيها الأموات، إنكم لا تدرون ما فاتكم وأنتم ههنا قابعون”.

يقول الصحفي “سيرجو”: دخلتُ محل البيتزا، كل شيء هنا يذكرك بـ”مارادونا”، الصور والمجسمات والقمصان والتحف التذكارية، كأن روحه حاضرة هنا تحتضن المكان، جاءتني “ماريا كاتشالي” صاحبة المحل، وجرى بيني وبينها هذا الحوار:

هذه بيتزا “مارادونا” التي وعدتك بها، مقاديرها بسيطة كما كان هو تماما، جبنة الموزاريلا باللبن البقري، قشر الليمون المبشور، قطع من المخبوزات المفتتة، كان يحبها، ومزيد من أوراق الريحان. كأنكِ تستحضرين روحه طوال اليوم، وفي كل اتجاه. حبي لـ”دييغو” بدأ من أول يوم وصل فيه إلى نابولي، عشقت الساحر الذي بداخله، وعشقت ذلك الإنسان الرائع الذي تأثر به العالم أجمع. كل الذين يأتون إلى نابولي يأتون من أجل مارادونا وليس من أجل المتاحف والآثار، لقد حرّك مشاعر العالم أجمع، فكيف لا يحرك وجداني وأنا ابنة هذه المدينة؟

“بيتزا مارادونا” يقدمها مطعم صاحبته مهووسة بمارادونا

إنه بالنسبة لي بمثابة الأخ والأب والابن، فكيف لا أتعلق به؟ وقد كان الكتف الذي نستند عليه في الأيام الصعبة، حبنا لـ”دييغو” ليس له حدود، بل يزداد بمرور الأيام، إنه مثل القديس، ترى أثره في كل مكان، يحبه الأثرياء والفقراء، كثير من أبنائنا أسميناهم “دييغو”.

“ما زال عشاق مارادونا يأتون للتبرك بها”.. خصلة من شعر القديس

يقول الصحفي “سيرجو”: دعتني “إيفون” إلى معرض الصور، كم انتظرت هذه اللحظة، وقالت لي: “الآن أغلق عينيك وادخل إلى آلة الزمن”، إنها نفس الصور التي صوّرتُها أنا، لكن طريقة عرضها، واختيار الزاوية والموسيقى المصاحبة، وبعض العبارات التي تحدث بها “مارادونا” نفسه إلى وسائل الإعلام، كل هذا جعل المعرض مبهرا، إنني أبكي من شدة الفرح.

ثم تحدثت إلى صاحب مقهى من الذين عاشوا الثمانينيات، فقال: أذكر أنني في 1987 كنت في ميلانو لحضور مباراة بين نابولي والميلان، وفي رحلة العودة حالفني الحظ بالسفر مع الفريق، وجلست في المقعد الذي خلف “مارادونا” تماما، وعندما قام من مقعده لاحظت خصلة من شعره التصقت بالمقعد، فالتقطتها على الفور واحتفظت بها في علبة السجائر، وعدت بها إلى نابولي.

خصلة من شعر مارادونا تجذب السائحين لمحل بيع تحف وهدايا في نابولي

ثم وضعتُ الخصلة في صندوق زجاجي شفاف، ووضعت الصندوق في هذا المحراب الصغير الذي يستخدم للإنارة وتوضع به عادةً الصلبان وتماثيل القديسين، وضعتها على سبيل الدعابة، فأصبح المحل محَجّا للزوار. كأن الخصلة بقية من رفات القديسين، وما زال عشاق مارادونا يأتون للتبرك بها. إنه قديس حقيقي، رأينا بأعيننا معجزاته، أما الآخرون فهم قديسون بالاسم فقط، لم نر منهم معجزات.

يقول الصحفي “سيرجو”: كان “مارادونا” دوما في صف الشعوب المستضعفة والمضطهدة، متحدثا عنهم ومناصرا لهم، ونحن أهل نابولي إخوة لهذه الشعوب ويجمعنا بهم حب “مارادونا”، أعلم أنه من الصعب وصف ذلك للجيل الذي لم يره، ولذلك فكل همي أن أحافظ على تراثه وأخلِّده، أريد أن أبعث رسالة إلى الأجيال القادمة لأعرّفها بـ”مارادونا”، أريد أن لا تطاله يد النسيان، هل يمكن أن يُنسى؟

أرجو أن لا يكون ذلك.