“الامتحان”.. صراعات مجتمعية تشعل حرب التسريبات في السليمانية

خالد عبد العزيز

“أغلب أفلامي اجتماعية عن الواقع المعاش، بشكل عام أفلامي ليست سياسية، بل تتحدث عن الإنسانية والظروف التي تواجه الإنسان والمجتمع”.

بهذه المقولة التي تنتمي للمخرج الكردي شوكت أمين كوركي يُمكن الكشف عن أبرز سمات ورؤى عالمه السينمائي، وبالتالي يُمكننا إدراك سر انجذاب المهرجانات السينمائية الدولية لأفلامه التي تُشكل صوتا سرديا مميزا ومغايرا عن المألوف، وذلك بجرأة طرحه للأفكار وتماسيها مع الإنسان في المجمل، والأهم هو الطبيعة المكانية التي يصدح منها هذا الصوت السينمائي القادم من العمق العربي غير العربي.

مدينة السليمانية.. ظاهرة الغش الجماعي تفترس المجتمع

أنجز شوكت أمين كوركي أربعة أفلام روائية طويلة، البداية كانت مع فيلم “عبور التراب” (2006)، ثم “ضربة البداية” (2009)، وفي عام 2014 جاء فيلمه الثالث “ذكريات منقوشة على الحجر”، والمتابع لمسيرة هذا المخرج يُمكنه فهم الطبيعة الجغرافية لكردستان العراق، والهموم المطروقة على الساحة الداخلية.

 

أما فيلمه الرابع “الامتحان” (2021)، فهو من إنتاج قطري عراقي ألماني مشترك، وعُرض في المسابقة الدولية لمهرجان كارلوفي فاري في التشيك وفي عدد من المهرجانات الدولية، ويُمكن فهم الأجواء الداخلية للمجتمع الكردي وخريطة التشابكات المعقدة في الداخل التي تحمل إرثا إجتماعيا وثقافيا يصعب التعامل مع نتائجه دون فهم معطياته.

في مدينة السليمانية تدور أحداث الفيلم حول شيلان (الممثلة آفان جمال) التي تسعى للتواصل مع مروجي إجابات امتحانات المرحلة الثانوية حتى تُساعد شقيقتها روجين (الممثلة فانيا سالار)، خشية تزويجها إذا فشلت في عبور الامتحانات، فالفيلم قد يبدو أنه في ظاهره يتناول ظاهرة الغش الجماعي في الامتحانات بما يكشف عن فساد مؤكد في المجتمع، وهذه قراءة صحيحة بلا شك، لكن الفيلم يحوي بداخله طبقة أخرى عميقة وشائكة على نحو ما، ألا وهي القهر وما يفعله في الإنسان حينما يقع فريسة له.

شاطئ البحر.. مفتاح القصة الذي تبدأ منه الأحداث

يبدأ الفيلم بمشهد تأسيسي، لقطة مكبرة لشاطئ البحر، ثم تدخل حيز الإطار روجين طالبة الثانوية وهي تقف باكية أمام شاطئ البحر الثائر الأمواج، وبيدها حقيبتها المدرسية، ثم ننتقل إلى المشهد التالي، حيث تحمل شيلان ابنتها وتسير بين الأزقة مُسرعة نحو منزل والدها.

الممثلة فانيا سالار بدور “روجين” طالبة الثانوية العامة، حيث تقف أمام شاطئ البحر الذي يُعتبر مفتاح قصة الفيلم

 

لقد اختار السيناريو أن يبدأ أحداثه من البحر، حيث تقف روجين، ثم يعود للخلف في المشهد التالي كاشفا عن الظروف المحيطة بالمشهد السابق، أو التي دفعت الفتاة إلى الذهاب هناك، ومع مرور الأحداث سنعود إلى ذلك المشهد مُجددا، لكن بوعي وفهم مغاير عن ما جرى في المشاهد الأولى، فالبحر هنا هو المركز الذي تنطلق منه الأحداث وتعود، وكأنه منتصف الدائرة، منه يبدأ وإليه يعود الحكي، فالسرد دائري يبدأ من حيثما وصلت الأحداث، ومفتاح القصة هو البحر الذي يبدأ منه الفيلم ويتكرر ظهوره على امتداد السرد.

يبدأ السيناريو بالمشاهد التعريفية الأولى، حيث الأب الذي يرغب في تزويج ابنته طالبة الثانوية، والشقيقة الكبرى التي ترفض هذا الزواج، حكاية قد تبدو عادية، لكنها مع توالي الحكي في دفقاته المتتالية الأشبه بالمصفوفة، تتحول إلى حكاية أكبر ذات أبعاد متتالية الاتجاهات، فقد اتسم السرد باعتماده على الأسلوب الخطي، بداية ووسط ونهاية، وذلك باتخاذه المنحى التقليدي الذي يتصاعد تدريجيا، وصولا للذروة الدرامية المحتملة.

بالتالي يُمكن القول إن مشهد وقوف الفتاة بالبداية في مرمى أمواج البحر أشبه بالمقدمة، ثم تعقبها الفصول الثلاثة التقليدية في البنيان الدرامي، ومن ثم العودة مرة أخرى إلى النقطة الأولى.

حيرة الجغرافيا العراقية والهوى الإيراني.. تناقضات الأرض والمجتمع

تدور أحداث الفيلم الذي كتبه المخرج شوكت أمين كوركي بمشاركة الكاتب محمد رزا جوهاري في السليمانية شمال العراق بالقرب من إيران، وكأن كردستان العراق تقع في المنتصف حائرة بين السيطرة العراقية بحكم الطبيعة الجغرافية من ناحية، والهوى الإيراني بحكم الاقتراب من الحدود العراقية الإيرانية من ناحية أخرى.

المخرج الكردي شوكت أمين كوركي الذي تدور أحداث فيلمه في مدينة السليمانية

 

يكشف السيناريو عن المجتمع بطريقة غير مباشرة، ويدخل تدريجيا في العمق، بما يجعل الرؤية أكثر اتساعا، وذلك من خلال خلق بعض المشاهد التي تُبرز التناقض الاجتماعي، أو ما يشوب البيئة من شوائب على مستوى التعاملات والأخلاق، والأهم هو تقديم تلك الرؤية البانورامية الكاشفة عن ما يعتمل في المجتمع من فساد قد لا يُرى بالعين المجردة، هنا تقتحم كاميرا كوركي الحيز المجتمعي بهدوء ودون صخب، وتشق ما يدور في الداخل دون مواربة.

ففي أحد المشاهد نرى شيلان وروجين أثناء ركوبهما سيارة الأجرة وصوت تلاوة القرآن الكريم في الخلفية، ثم يطمع السائق في باقي الأجرة، فتحتد شيلان مُذكرة إياه بآيات القرآن الكريم، لكنه لا يلقي بالا لما تقول، وهنا نرى التناقض الجلي، حيث القول شيء والفعل شيء آخر.

هذا النموذج ينتشر بصورة أو بأخرى على طوال الأحداث، فالتناقض بين الجوهر والفعل هو المسيطر، مما يجعل الفيلم يُقدم صرخة، أو يدق جرس إنذار عن ما يدور في القاع، ولا يدري السطح شيئا عنه.

شيلان وروجين في سيارة الأجرة، حيث طمع السائق ببقية الأجرة منهما رغم أن صوت تلاوة القرآن الكريم في الخلفية

 

فقد رسم السيناريو الملامح الاجتماعية للبيئة الحاضنة للأحداث بشكل يجعلها لا تظهر بوضوح، وإنما على هيئة شذرات يُمكن من خلالها فهم الظروف المحيطة بالشخصيات، وتُمثل أساسا جوهريا في ردود أفعالها، فشيلان تقع في المنتصف مثلها مثل مدينتها السليمانية، بين رحى زوج صعب المراس وأب لا يُبالى، فالخلفية العقائدية والثقافية تبرز على الساحة، ومن ثم تجعل بطلتنا رهينة قانون لم يُسن بعد في الدستور العام، لكن آثاره جلية في أسلوب حياتها.

صراع التعليم والزواج.. رؤية مُتضادة بين آدم وحواء

منذ بداية الفيلم يضع السيناريو المتفرج في مأزق يتماس مع الشخصية الرئيسية شيلان التي تسعى لإبعاد شقيقتها عن زواجها المبكر الوشيك الحدوث، خشية الوقوع فيما وقعت هي فيه، وحتى لا يتشابه مصيرها معها، وتصبح هي الأخرى برفقة زوج غليظ المشاعر يُعاملها بجفاء وقسوة.

شيلان تقاتل بصمت، تدافع عن حق مؤكد في الحياة يُمكنها من تقرير المصير، هكذا يُخبرنا الفيلم عن شخصيتها العنيدة التي لا تُقر بالاستسلام بسهولة، فهي تُعافر مع شقيقتها روجين في ظل سيطرة زوجها الحديدية وتراخي الأب الذي لا يرغب إلا في تقاعد هادئ وحياة بسيطة في قريته.

عند هذه النقطة يظهر بجلاء الفرق الشاسع بين رؤية كل شخصية تجاه الأخرى من جانب، وتجاه العالم من جانب آخر، فشيلان ترى الحق في قبول شقيقتها الزواج من عدمه ركنا أصيلا لديها، ثم تُشجعها على مواصلة التعليم، وكأنه السبيل الوحيد للنجاة، في مقابل الأب والزوج الذين يريان التعليم ما هو إلا ضياع للوقت ولا طائل من ورائه.

“سردار” زوج “روجين” بائع السمك المعروف بشخصيته الصلدة كالصخر

 

كل منهما له رؤيته التي تحتمل الصواب والخطأ، ومن ثم يُشير السيناريو إلى الخلاف المجتمعي القائم في الداخل، ويبرز من خلاله وضعية المرأة ومكانتها في مقابل مكانة الرجل، وقد ساهم السرد في إضفاء الرمزية على تلك المكانة من خلال رسم شخصية سردار (زوج شيلان) بائع السمك، إذ يظهر في أكثر من مشهد معتمدا على أحجام اللقطات المتوسطة المثيرة للتأمل وهو يُمسك السمك المتجمد، ويبدأ في تقطيعه بغلظة، بما يكشف عن جانب صلد كالصخر في شخصيته، دعمته حالة الغضب التي تتلبس روحه بصفة دائمة بما يبعث على النفور، ويضع شيلان في مواجهة مستمرة معه، وإن كانت مواجهة غير متكافئة، لكنها مقصودة تمام القصد للدلالة عن حالة أو وضع عام.

لعبة القط والفأر.. غوص في عوالم التسريب الشائكة

تلتقي شيلان بالمهندس (هكذا اسمه) المسؤول عن تسريب الإجابات لمساعدة شقيقتها في عبور الامتحانات والوصول للمرحلة الجامعية، وهنا ينقلنا السرد لمستوى آخر، وعالم جديد مغاير عن ما سبق، ندخل عالم تسريب الإجابات، وكيف يقع ذلك باستخدام الهاتف المحمول وتقنية البلوتوث وغيرها من وسائل التواصل الحديثة، وكيف تُدار تلك المافيا المريبة؟

شيلان وروجين تتفقان على تسريب الإجابات مع المهندس المسؤول عن عمليات الغش

 

تُحارب شيلان على أكثر من جبهة في الوقت نفسه، فقد جعل السيناريو الصراع الدرامي يدور في طرفين كل منهما بعيد عن الآخر، لكنهما يتقاطعان معا مع مرور الأحداث، فالشق الأول هو صراع شيلان مع الزوج والأب حتى لا تزوج روجين، أما الشق الآخر من الصراع فهو يدور في أروقة المدرسة وبين ساحات الشوارع لاقتناص إجابات تلك الامتحانات، وذلك للوصول بها إلى مستحقيها من دافعي الرشاوي.

قاعة الامتحانات.. ساحة حرب بين الرقيب وولي الأمر

لقد نسج السيناريو هذا الخط الدرامي بأسلوب يعتمد على الإثارة والتشويق، ويكشف في الوقت نفسه عن طرق الغش المبتكرة، ولا نبالغ إن قُلنا إن هذه المشاهد تُعد الأبرز إخراجيا في الفيلم.

ففي أحد المشاهد نرى أولياء الأمور وهم بداخل إحدى شاحنات نقل اللحوم وبأيديهم أجهزة الهاتف المحمول، وكل منهم يُملي ذويه إجابات الامتحانات التي تصل إليهم داخل اللجان، وغيرها من تلك المشاهد التي تُعبر عن فساد منتشر في ربوع المجتمع من أسفل إلى أعلى، لا يُستثنى أحد من هذا، فالمقر الذي تدور بداخله عمليات التسريب يقع أسفل مبنى تحت الإنشاء، في إشارة رمزية لانتشار الفساد من قاع المجتمع، والمتعاملين مع هؤلاء المروجين من مختلف الأطياف والطبقات، وصولا لأقارب القاضي المسؤول عن التحقيق، وهكذا يكشف الفيلم عن مصفوفة الفساد التي تزداد رقعتها كلما ارتقينا صعودا في السلم الاجتماعي.

إدارة المدرسة تسعى للإمساك بالمتعاونيين مع مروجي الاجابات

 

في ظل هذه الأجواء تسعى إدارة المدرسة إلى منع عمليات الغش، حيث يقطعون شارة الإنترنت تارة ويوصلونها طمعا للإيقاع بالطلاب الممارسيين للغش تارة أخرى، وهكذا كل طرف يهرب من الآخر، ويسعى للإمساك به في الوقت ذاته، لتبدو قاعات الامتحانات وكأنها ساحة حرب تُدار معاركها من الخارج بأيادي تلك المافيا ومن يعاونها من الداخل.

ظلام دامس خلف بقعة الضوء.. مشهد يعكس واقع البطلتين

كعادة الأفلام الفنية ذات الطابع السينمائي المُميز، تتكامل الصورة مع الدراما في الوصول إلى المعنى، ومنذ بداية الفيلم والواقع الذي تدور في أجوائه الأحداث يبدو ضبابيا، وقد جاءت الصورة مُعبرة عن تلك الضبابية التي تتماس وتُلامس الشخصيات بطريقة أو بأخرى، وبالتالي بدت الإطارات من حيث التكوين والإضاءة مُعبرة لأقصى درجة عن الوضع العام الذي تُعانيه هذه الشخصيات.

تميل الإضاءة العامة للفيلم إلى الخفوت والاتجاه نحو الإضاءة الطبيعية، لتظهر الصورة قاتمة تعبيرا عن الواقع المعاش، ليس للشقيقتين فحسب، بل للشخصيات بصفة عامة، مما يعطي انطباعا بسوداوية المحيط العام، وقد ساهمت نشرات الأخبار والتعليق الصوتي على هذه الأخبار في إضفاء هذا الطابع المأساوي.

أولياء الأمور يُملون الإجابات على الطلبة من داخل شاحنة نقل اللحوم

 

ففي أحد المشاهد نرى شيلان بجوار روجين ويحفهما الظلام الدامس، في مقابل بقعة الضوء القابعة أمامهما، تعبيرا عن حالة البطلتين ومعاناتهما في ظل وضع ظلامي، كما بدت الإضاءة في منزل شيلان على وجه التحديد شديدة الخفوت في أغلب المشاهد، بما يضفي بُعدا مُقبضا على حياتها مع زوجها الذي تفتقد للسعادة معه، وفي مشاهد أخرى نرى شيلان محصورة في زوايا ضيقة تعبيرا عن الحصار الذي تُعاني منه في حياتها التي لا تملك من سبيلها شيئا.

اكتمال الدائرة.. عودة إلى البحر لكسر الحصار

تقف شيلان أمام شاطئ البحر، وهنا نصل لاكتمال الدائرة، مثل البداية أمام البحر مركز الأحداث، وكأنه المطهر مثل شخصيات “الكوميديا الإلهية” للشاعر الإيطالي “دانتي”، حينما يذهبون إليه بحثا عن الغفران.

هكذا هو البحر بالنسبة إلى شيلان وروجين الموسومين بالحصار، مثل باقي الشخصيات المكبلة بأوضاع اقتصادية واجتماعية ليست بالهينة، ففي أحد المشاهد نرى أحد مراقبي الامتحانات يُخبر زميله أنه يُعاني من ضعف الموارد الاقتصادية والأوضاع العامة التي لا تُقدم سوى حياة وعرة، وبالتالي يطفو على سطح الأحداث سؤال جوهري، ألا وهو تُرى ماذا يحدث لو وُضع الفرد في ظروف صعبة، هل سيلجأ إلى الاحتيال لعبور تلك المرحلة، أم سيرضى بما هو عليه دون السعي لتغييره؟

بقي أن نذكر أن فيلم “الامتحان” هو أنضج تجارب المخرج شوكت أمين كوركي، ليس على مستوى الأفكار المطروحة فحسب، بل على مستوى الطموح الفني والقدرة على التعبير عن القضايا الشائكة بأسلوبية سلسة جذابة قريبة من المتلقي، وهكذا يكون الفن.