“تيد باندي”.. ألغاز تلف شخصية أشهر القتلة المتسلسلين في السبعينيات

إسراء إمام

“أعترف أنني فكرتُ كثيرا في أنه لا بد من إعادة النظر في عقوبة الإعدام، لكن بالنسبة لك، فأنا أرى أنك لا بدّ أن تُعدَم، توضَع على كرسي كهربائي وتحترق حتى الموت، لأن الجرائم التي ارتكبتها كانت خبيثة وشريرة للغاية،ورغم ذلك أريدك أن تعرف أنني لا أكنّ لك أي عداء، وأتمنى أن يبارك الله قلبك، وأنني حزين على ما أهدرناه هنا من طاقة إنسانية تملكها. أنت شاب ذكي،كنت ستصبح محاميا ماهرا، فقد كنت مُستمتعا بحق وأنت تُمارس المحاماة أمامي، لكنك اخترت طريقا آخر، وأنا لم يعد بوسعي أن أفعل أي شيء لأساعدك”.

هذه الكلمات المُنَمَقَة التي تبدو وكأنها مقتطفة من حوار سينمائي أو روائي قد قيلت بالفعل، والأهم أنها قيلت بشكل عفوي ومُرتَجَل على شفتي القاضي “إدوارد كوارد” الذي كان يحكم في قضية “تيد باندي”.

 

“تيد باندي” هو أشهر وأخطر القتلة المتسلسلين في العالم بأكمله، ورغم تفشي موضة القتل المتسلسل في السبعينيات، وظهور عدد لا يُحصى من القتلة المتسلسلين الخطرين ومنزوعي الصفات الآدمية، فإنه لم ولن يتفوق أي منهم ليستحوذ على لقب الأكثر لفتا للانتباه سوى “تيد باندي” زميلهم الذي ظهر في ذات الحقبة المشؤومة.

بكاء المحقق.. وحشية القصة الدموية الشاعرية

لم يتفوق “باندي” على نظرائه لأنه يملك الأسلوب الأكثر دموية، أو لأنه يفوقهم عنفا وتدهورا على المستوى العقلي، بل لأن ملابسات حكايته كلها تبدو ككلمات القاضي الذي كان يحاكمه، متناغمة وشاعرية وكأنها مكتوبة بيد الفن وليست بيد القدر.

“باندي” كان شابا أقرب للوسامة، مظهره عادي، وكل من يعرفه يؤكد أنه لطيف حُلو المعاشرة، لكن هذا الشاب الخَجِل الجذاب قتل عددا من الفتيات بوحشية بعدما اعتدى عليهن وروّعهن، ونفى فعلته تلك بإصرار غريب لمدة سنوات طويلة، وهرب من السلطات مرتين، وفي المرة الثانية عاود القتل بغِلّ غير مسبوق، إذ اقتحم سَكَنا للطالبات الجامعيات، وقتل أربعة منهن دفعة واحدة.

 

هذا الشاب العادي الذي يألفه كل القريبين منه كان من بين ضحاياه طفلة عمرها 12 عاما، بكى عليها المحقق الذي يعمل بالشرطة منذ نعومة أظافره، حينما وجد جسدها ملقيا في غابة موحشة وقد انتُزعَت منه روحه بقسوة.

يوم المحاكمة.. قاتل يحامي عن نفسه على الهواء

كان “باندي” أول قاتل تُبَث محاكمته على الهواء مباشرة، وهو أيضا القاتل الفريد من نوعه الذي وقف في المحكمة كمحامٍ حقيقي يدافع عن نفسه بنفسه، يستجوب الشهود، يُبدي اعتراضاته على ما يقال للقاضي، ويقدم مرافعته كمتمرس قضى سنوات من عمره في ساحات المحاكم، بينما هو في الحقيقة سفاح دموي سبق وقد فشل في محاولة دراسته القانون.

“باندي” هو القاتل الذي رأى الملايين عرض تقدمه للزواج من صديقته التي كانت تشهد لصالحه في قاعة المحكمة، وعلى الهواء مباشرة.

هذا السؤال جاوب عليه الفيلم السينمائي “خبيث للغاية وصادم في شيطانيته وخسته” (Extremely Wicked, Shockingly Evil and Vile) الذي أنتج عام 2019، والمسلسل الوثائقي “حوار مع قاتل.. تسجيلات  تيد باندي” (Conversations with a Killer.. The Ted Bundy Tapes) الذي أنتج عام 2019 أيضا.

حب الجامعة.. انتعاشة تخلف صدمة كبرى

على الرغم من أن مخرج الفيلم والمسلسل مخرج واحد، وهو المخرج “جو برلينغر” الذي يمتلك بصمة خاصة في صناعة فن عالم الجريمة، فإن إجابة العملين حول حياة “باندي” جاءت مختلفة، ففي المسلسل نجد حكاية “باندي” كاملة مُفَصّلَة، خطوط عدة من المعلومات والتأويلات والتتبّعات التي تحاول أن تلقي نظرة على حياة “باندي” منذ الصغر حتى لحظة إعدامه، يحدث هذا بالتوازي مع الاستماع إليها من وجهة نظر “باندي” نفسه خلال التسجيلات التي تركها خلفه بصوته.

 

من المسلسل نعرف على لسان أقرباء “باندي” وأصدقائه أنه لم يكن يجيد الأشياء التي يجيدها الجميع بعادية، لم يكن يبرع في التخييم، أو في التحصيل الدراسي، أو في أن يكون رياضيا، لكن “باندي” يخالفهم الرأي، ويقول فيما يناقض روايتهم أنه كان متفوقا ورياضيا، ومع ذلك فإنه يتفق معهم في كونه كان خجولا منعزلا نوعا ما، لم يواعد أي فتاة حتى سن متأخرة، وكانت أول فتاة يواعدها في بداية سنوات حياته الجامعية التي شهدت انتعاشة ما، فقد انضم إلى مجموعة راقية من المجتمع تهوى العمل في المجال السياسي، وواعد من بينهم فتاة أرستقراطية جميلة راسما معها مستقبلا حافلا ينتظر كليهما بعد الانتهاء من دراسة الحقوق.

لكن خطة “باندي” تضررت حينما فشل في دراسته، وشعر بأنه لم يكن أهلا لمجاراة نجاحات من حوله، مما دفع علاقته بحبيبته الثرية للتدهور، وعندما ساءت الأمور معه إلى أن هجرته تماما؛ وصف “باندي” بنفسه ذلك بأن الحياة أكدت أنها لن تقبله في الجانب الجيد منها أبدا، ثم أكد أنه رغب حينها في أن ينتقم من تلك الفتاة الجميلة التي قتلت بداخله الأمل.

من بعدها، بدأت جرائم “باندي” بحق كثير من الفتيات الجميلات اللاتي كن يشبهن حبيبته الثرية.

“ليز”.. حُب حقيقي بعد فوات الأوان

يختار “برلينغر” في الفيلم الروائي أن يرى بتركيز تام علاقة “باندي” بـ”ليز”، وهي الفتاة الثانية التي ارتبط بها، وقد قابلها في فترة لاحقة ووقع في غرامها بشدة، فكان رجلا طيبا معها، لا يريها منه إلا جانبا ملائكيا، على الرغم من أنه استمر في القتل بالتوازي. فالمتفرج الذي لا يعلم أي شيء عن “باندي”، سيرى كل شيء وفقا لوجهة نظر “ليز” التي لم تعرف عن حبيبها الشاب سوى رقة قلبه وقدرته الفريدة على احتوائها هي وابنتها وكأنهم عائلته.

“باندي” يحتفل مع حبيبته الحقيقية “ليز” وابنتها، حيث يعترف لها بالنهاية بأنه مرتكب كافة الجرائم

 

سيتفاجأ ويعيش معاناة طويلة من الشك وقت محاكمة “باندي”، متمزقا بين إصراره الذي لا يكل على براءته، وبين تكالب الاتهامات والأدلة التي تدينه، ثم سيُصدم شر صدمة في مشهد النهاية البديع الذي سيعترف فيه “باندي” أخيرا لـ”ليز” بأنه قد ارتكب تلك الجرائم، وذلك بعد توسلها المُلِحّ له لكي يرحمها بالحقيقة.

باختياره لهذا الخط الدرامي المُهَمّش من حياة “باندي” أعاد الفيلم في الواقع قراءة مأساة “باندي” بأكملها، حيث وضح أن “باندي” لم يحب صديقته الثرية يوما، وإنما أحب فيها فرصته الوحيدة الباقية للنجاة من الظلام الذي تراكم بداخله، والذي كان ينتظر منه خطوة انتكاسة واحدة، بعدها سيطبق على روحه ويعميها تماما، ثم يقودها للقاع. بينما “ليز” في الحقيقة هي من أحبها “باندي” بحق، وهي الفتاة التي ظهرت في توقيت متأخرا جدالم يعد فيه قادرا على التراجع عن ما أصبح عليه.

“من منكم يرغب في تناول المثلجات؟”

في المسلسل الوثائقي، يحكي أحد الصحفيين المسؤولين عن تسجيل “باندي” لكل ما يرغب في قوله عن قضيته أنهم توجهوا بالشرائط بعد انتهائه منها إلى والدته، وكانوا حريصين على أن يطلعوها على اعترافاته بشأن ارتكابه تلك الجرائم التي طالما نفاها سنوات طويلة، قبل أن يبادروا بنشرها في كتاب، فيصف الصحفي بدقه أن والدة “باندي” كانت تئِن بشكل غريب وهي تستمع إلى صوت “باندي” وهو يؤكد كونه مجرما، وعندما توقف التسجيل قامت وقالت بشكل عادي: من منكم يرغب في تناول المثلجات؟

بالطبع لا يعد هذا التصرف في حد ذاته مقياسا لبيئة كاملة تربى فيها “باندي”، لكننا لا يمكن أن ننكر أنه تصرف غير سوي بالمرة للتعامل مع موقف مماثل، وإن كان “باندي” الطفل قد نما على ردات الفعل المماثلة، والمتثملة في إنكار الأزمة والتنصل منها بدلا من مواجهتها، فهذا يعني أنه يعاني من مشكلات كبيرة تدور حول الإنكار، ومحاولات الإفلات من الحقائق الواقعة وتجاهلها.

 

هذا ما ستعايشه بشكل مؤكد مع المسلسل الوثائقي الذي ستكون فيه قريبا من ردود فعل “باندي” أثناء المحاكمات أو اللقاءات أو حتى أدائه الصوتي في التسجيلات. هذه العيون الحادة الثاقبة، الابتسامة الهازئة التي لا تتلاشى تقريبا حتى في أصعب اللحظات والمواجهات، وذلك الإنكار الهوسي المتعجرف لكونه مذنبا، مع محاولاته الدائمة لخلق سيناريوهات بديلة لتشتيت ذهنك وإبعاده عن كل ما يدينه.

فخر الجريمة.. مشهد استجواب المجرم المتباهي للشاهد

كان “باندي” مُختلا نفسيا بشكل ما، ويعاني من مشاكل سادية ونرجسية لم تشخص بشكل فعلي، لكن أعراضها كانت واضحة، ولعل أهم هذه الأعراض اتضحت حينما قرر أن يترافع عن نفسه بنفسه، وأخذ يتباهى بهذه المرافعات ويُحَوّلها لعرض هو أبرز ما فيه.

وفي واحد من مشاهد تلك المحاكمات سأل “باندي” أحد الشهود مرارا وتكرارا عن موقع الجريمة، والتفاصيل الكاملة لشكل جثة الفتاة التي وجدها مقتولة في فراشها بوحشية، أخذ يطلب من الشاهد أن يُعيد توصيف كل مظاهر الدموية التي كانت موجودة في المكان.

” من هو تيد باندي؟” هو عنوان واحدة من الصحف الأمريكية التي تتحدث عن القاتل المجرم خلال فتة السبعينيات

 

وقد أكد المحامون المساعدون له أن مثل هذا التصرف لا يكون في صالح المتهم أبدا، بل يزيد من حرج موقفه، وأن أسئلة “باندي” يومها خرجت من كونه محاميا يدافع عن نفسه، ومثلت المجرم المريض والفخور بكونه مسؤولا عن إحداث مثل هذه الفوضى السادية العنيفة في جسد فتاة لا حول لها ولا قوة، وكأنه يطلب من الشاهد أن يحكي للجميع عن عمله العظيم المتجرد من الإنسانية.

“جو برلينغر”.. جرأة الطرح الوثائقي والروائي

كان المخرج “جو برلينغر” متميزا في صنع النسختين الروائية والوثائقية من حياة “تيد باندي”، ففي كليهما أضاف لمسته ورؤيته الخاصة الحساسة جدا تجاه واقع الجريمة، واللماحة أيضا لصلته الوثيقة بالوجود الإنساني ودراميته.

في المسلسل الوثائقي نرى “برلينغر” متمهلا ومُرَتبا في سرده، مستفيدا من كل معلومة تحت يده، وجريئا في التعامل معها، وهذه السمات لن تراها كثيرا إن كنت من هواة وثائقيات الجرائم، إذ يتشتت الطرح في أحيان كثيرة، ويترنح ما بين أكثر من مضمون، في محاولة غير موقفة لصُنع حالة من التنوع والتشويق تُفضي إلى نوع خفي من الفوضى.

أما جُرأته فهي الأكثر إثارة للإعجاب، حيث يُحسَب لصالحه التفهم التام لواجبه كمخرج يعمل على تقريب الصورة بواقعها أمام عين المتفرج، خاصة أن هذا المتفرج لجأ بإرادته للمادة الوثائقية عن الحدث، فما من داعٍ لحجب بعض الصور عن عينيه طالما أنها ما زالت تخفي هويات الضحايا.

المخرج “جو برلينغر” الذي قام بإنتاج النسختين الروائية والوثائقية للمجرم “تيد باندي”

 

في الفيلم السينمائي أيضا كان “برلينغر” بارعا في السرد، وقادرا على التنقل ما بين الأحداث الحالية وأحداث الماضي، مستخدما أسلوبا مستحدثا في الدمج والتقطيع، ومُوَظِفا الموسيقى والحوار لخلق مزيج متناغم مشدود الإيقاع، ومُلِم بتناقض واقع تلك العلاقة التي ربطت “باندي” بـ”ليز”، والتي كانت مشرقة وناجحة من جهة، ومن جهة أخرى مجرد ساتر لجحيم يحدث بالتوازي.

استعراض آخر رمق من الإنسانية.. رجاحة عقل القاضي

قدّر “برلينغر” قيمة ما فعله القاضي “إدوارد كاورد” الذي قام بمحاكمة “باندي”، هذا القاضي المتفرد الذي أعطى مجالا لـ”باندي” كي يلعب دور المحامي أمامه في سابقة غير مألوفة، وبغرض كان خفيا على الجميع، حيث غلب الظن بأن هذا القاضي ربما يكون ساذجا لكي يجد كل هذا الوقت ويسمع من “باندي”، لكنه في الحقيقة كان قاضيا ذكيا لديه مُتسع في صدره لكي يجمع بين مشاعر التعاطف والحسم في آن واحد، فحقق لـ”باندي” غرضا ربما يخدم آخر رمق من آدميته، وجعله محاميا كما تمنى دوما، لكنه في النهاية لم يعفه من الإعدام.

القاضي “إدوارد كاورد” الذي قام بمحاكمة “باندي”، حيث يظهر “باندي” وهو يدافع عن نفسه

 

لهذا لعب الممثل “جون مالكوفيتش” دور هذا القاضي، رغم أن مشاهده معدودة، لكنها كانت تستحق أن يؤديها ممثل مثله، كما أن “برلينغر” اقتطع من كلمات هذا الرجل اسم الفيلم، لأنها كانت في الحقيقة كلمات استثنائية تدل على موهبته في قراءة الواقع، والتعامل معه وفقا لكافة جوانبه، سواء التي تقتضي القسوة، أو نقيضتها التي تحمل طابعا إنسانيا غير معهود.

لهذا أيضا جاء تنفيذ هذا المشهد بالفيلم مميزا مُعتمِدا على اللقطات القريبة بين وجه القاضي من جهة، ووجه “باندي” من جهة أخرى، مما زاد من وقع كلمات القاضي “إدوارد” لـ”باندي”، فتتضح في لحظات تلك الصلة الغريبة التي نشأت بينهما خلال فترة المحاكمة، حيث تظهر حكمة القاضي ورجاحة عقله وقلبه، وتتبدى أيضا صدمة المجرم الذي قد ظن أنه يُسمَع لأن كذباته مقنعة.