“لماذا البلاستيك؟”.. كذبة التدوير التي تعتاش منها العصابات

قيس قاسم

هل حققت عملية تدوير النفايات -وبشكل خاص البلاستيك المُستخدم على نطاق واسع في تعليب المواد الغذائية وقناني المشروبات الغازية- المطلوب منها لتقليل التلوث البيئي، وذلك كما تُشيِع الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية، أم أنها تُروج فقط لأكاذيب تخدع بها المستهلك؟

للإجابة على تلك الأسئلة يقترح الوثائقي الألماني “لماذا البلاستيك؟.. أسطورة التدوير” (Why Plastics: The Recycling Mynt) تقصّي حقيقة ما حققته عمليات تدوير البلاستيك وبقية نفايات تعليب المواد الغذائية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي بدت دعائيا في عيون المستهلكين وكأنها مُنجز أسطوري وعنوان لنجاح تحقق في مجال تقليل الاحتباس الحراري والتلوث البيئي.

 

على الأرض تُوصل عملية البحث فريق عمل الفيلم إلى اكتشاف شبكات من عصابات الجريمة المنظمة في بلدان عدة من العالم، والتي تعمل على تخريب عملية التدوير وتحويلها إلى تجارة سوداء تُدرّ عليها مليارات الدولارات سنويا، وتؤدي في الوقت نفسه إلى تخريب مريع للبيئة بأساليب ملتوية يقترح صُناع الوثائقي الكشف عنها بأسلوب التحري السري، وذلك خوفا من تعرض المتعاونين معه لانتقام رجال العصابات منهم.

“قابل للتدوير 100%”.. عبارة دعائية تُريح المُستهلك

خلال سنة كاملة واظب مخرجا الوثائقي “توم كوستيلو” و”بنديكت فيرمر” على دراسة مسار حركة البلاستيك المستخدم في تعليب المواد الغذائية وقناني المشروبات الغازية، ومعرفة أين تستقر في نهاية المطاف، فقد لاحظا وجود علامات وعِبارات مكتوبة بحروف بارزة على تلك المنتجات، والتي تُفيد بأن أغلفتها وعبواتها على اختلاف أنواعها قابلة للتدوير، وأنها لطيفة على البيئة.

ولإضافة مزيد من الجدية على بحثهما قابلا عددا من الخبراء المختصين في دراسة سلوك المستهلك، ليعرفا منهم ماذا تعني تلك العِبارات بالنسبة للمستهلك، حيث اتضح أن عبارة “قابل للتدوير 100%” تطمئن المستهلك وتريح ضميره، وذلك بمنحه إحساسا بالرضا بأنه يشتري بضائع لا تضر البيئة ما دامت قابلة للتدوير، وأنها أمينة لا تستقر في أعماق التربة ولا في المياه ولا يُفسد التخلص منها الهواء.

بهذا الأسلوب الدعائي ضَمِن أصحاب الشركات المنتجة للمواد الغذائية العملاقة أرباحا هائلة، وقللوا بها من تأثير حملات التوعية التي يقوم بها علماء ونشطاء بيئيون يدعون فيها إلى مقاطعة تلك المنتجات، أو الكف عن شرائهم للمواد المُعلبة بأغلفة وقناني بلاستيكية تضر بصحة الإنسان والبيئة.

 

في خضمّ البحث لاحظ الوثائقي أن أغلب الأغلفة البلاستيكية مكتوب عليها تلك العِبارة التي تفيد بقابلية إعادة تدويرها، لكنه لم يجد في المقابل إلا القليل جدا من الأغلفة البلاستيكية التي تحمل عبارة “مُصنّعة من بلاستيك مُدوّر”. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: إلى أين تذهب الكميات الهائلة من البلاستيك المُعاد تدويره حسب ما تدّعي شركات إنتاج المواد الغذائية؟

وللبحث في السؤال يرجع الوثائقي إلى 30 سنة إلى الوراء، وذلك حين واجه العالم الصناعي مشكلة جدّية عنوانها النفايات، فقد وجدت دول صناعية نفسها في مواجهة جبال هائلة من النفايات عليها التخلص منها، ففي ألمانيا ظهرت علامة “النقطة الخضراء” التي جاءت للتعبير عن استجابة الشركات الصناعية العملاقة لضغوط الناس والحكومات، وبالتالي كان لا بد من استحداث نظام “تدوير” فعال يتخلصون به من مشكلة البلاستيك على وجه التحديد.

دورة “الشر” البلاستيكية.. الحرق ضار مثل الطم

في زيارة لمستودع “غينس بلومه” في ألمانيا، والذي يُعدّ عالميا من بين أكبر المستودعات المختصة بتصنيف البلاستيك والتخلص من “وسخه”، أي غير القابل للتدوير منه، يظهر المستودع بأنه يُدوّر بتقنيات عالية الجودة نحو 50 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنويا، والتي يتحمل المستهلك أعباءها المالية عمليا من خلال الاستقطاع الضريبي، أو من القيمة المضافة على البضائع، فالمواطن عمليا هو من يدفع ثمن تدويرها، وليس الشركات المنتجة لها.

الانبعاث الحراري من المصنع الدانماركي لا يقل خطرا على البيئة من عمليات طمر البلاستيك في باطن الأرض

 

ومع ذلك لاحظ الوثائقي أن الظاهر الإيجابي من العملية يُقابله باطن سيئ يأتي من حقيقة أن الورق والمعادن هي أكثر ما يتم تدويره في المستودع من نفايات، أما نسبة البلاستيك وخاصة “الوسخ” منه فإنه غير قابل عمليا للتدوير، وذلك لارتفاع أثمان تنقيته وصعوبة التخلص من كل كمياته، ولهذا يكون مصيره التصدير إلى دول أخرى للتخلص منه.

وبالأرقام يتم عالميا تدوير فقط نحو 2% من كمية البلاستيك المستهلك، والمُدوّر منه يُستخدم في صناعة البضائع البلاستيكية القليلة الجودة، مثل الكراسي البلاستيكية الرخيصة وما شابهها. وفي النهاية يتوصل الوثائقي إلى حقيقة مفادها أن أغلب البلاستيك يذهب إلى المحارق العملاقة للتخلص منه، أو لصنع مواد كيميائية تُستخدم في البناء وفي تعبيد الطرق.

يذهب الوثائقي إلى الدانمارك ليتحقق مما ينجزه واحد من بين أكبر المصانع في العالم المختص بالتخلص من البلاستيك عبر إحراقه داخل أفران عملاقة. ومع كل ما يحققه المصنع من نتائج جيدة في مجال التخلص من البلاستيك واستخدامه فيما بعد لأغراض صناعية، فإن حجم الانبعاثات الحرارية الناتجة عن العملية لا تقلّ خطورة عن عمليات طمر البلاستيك في باطن الأرض، أي أن دورة “الشر” البلاستيكي لا تنتهي أبدا باحتراقه.

الصين.. وجهة النفايات الغربية

يثبت الوثائقي حقيقة أن التخلص من مزابل الأغلفة والقناني وبقية المصنوعات البلاستيكية يُشكل معضلة حقيقية تواجهها الدول الصناعية. وفي السنوات الـ20 الأخيرة وجدت لها حلّا مؤقتا تَمثل بتصديرها إلى الصين، فقد صارت الصين الوجهة الرئيسية للنفايات البلاستيكية، فهي تحصل على أموال كثيرة مقابل استقبال ملايين الأطنان منها سنويا، وتتعهد بتدويرها داخل أراضيها.

الصين توثق عمليات استيراد نفايات البلاستيك من الغرب بعد أن كانت الوجهة الأساسية لنفاياتهم

 

لم تنته المشكلة، بل برزت معضلة أخرى أمام الغرب الصناعي عندما قررت الصين عام 2018 إيقاف عمليات استيراد نفايات البلاستيك كليا من الخارج، ووجد الغرب نفسه في ورطة استغلتها العصابات والمهربون، وعملوا على إيجاد “سوق سوداء” بديلة عن الصين عبر الادعاء بامتلاكهم مصانع لفرز وتدوير النفايات في بلدانهم.

يذهب الوثائقي لتقصي وجود هذه السوق وهذه المصانع وكشف أساليب عملها. ويستعين الوثائقي بوسيط تجاري يعمل مع مهربين للنفايات لتوثيق عمليات التهريب، حيث يطلب منه التنكر بشخصية وهمية تُدعى “كومار” خشية أن تنكشف هويته الحقيقة.

وجهات مشبوهة.. تجارة غير مشروعة للنفايات

على الإنترنت يُجري “الوسيط” اتصالات مع عدد من أصحاب مصانع التدوير “الوهمية”، وبعد أيام يرتب لقاء مع تاجر تركي الجنسية، سأله ما إذا كان بمقدوره تدوير كميات كبيرة من النفايات البلاستيكية الوسخة مقابل حصوله على أموال كبيرة.

طلب منه “سليمان” صاحب المصنع التركي أن يرسل البضاعة داخل سيارات شحن يضع النوع “النظيف” المسموح بنقله رسميا عند فتحة الباب، فيما يضع “الوسخ” منها في نهاية الشاحنة، فيصعب على مراقبي الحدود الوصول إليها. تمت العملية بنجاح وحصل المهرب التركي على 35 يورو مقابل كل طن من النفايات.

مقابلة سرية مع صاحب معمل تدوير وهمي في العاصمة البلغارية صوفيا

 

يذكر الوثائقي أرقاما تدل على اتساع حجم الاتجار غير المشروع بالنفايات في تركيا، والتي أصبحت بعد توقف الصين عن استيرادها والتحقت بها دول أخرى مثل فيتنام وماليزيا والفلبين وغيرها واحدة من الوجهات الرئيسية للتهريب.

ولتوثيق مصير النفايات يرافق الوثائقي ناشط بيئي تركي، ويأخذهم إلى أمكنة يجري فيها إحراق البلاستيك المُهرّب، ثم يتم طمرها تحت التراب. يُصوّر الوثائقي الدخان المتصاعد من تلك البقع الملوثة بيئيا، والتي يتعذر على سكان المنطقة بسبب الدخان المتصاعد منها فتح نوافذ بيوتهم.

ونتيجة لمراقبتها وإدراكها للخطر القادم من نشاط السوق السوداء على البيئة وصحة مواطنيها، قررت الحكومة التركية الانضمام إلى الدول التي أوقفت استيراد النفايات من الدول الغربية. ونتيجة الحصار المفروض على المهربين وتجريم المُتاجرة بها بطرق غير شرعية، يجد سليمان نفسه عاجزا عن تلبية طلبات “الوسيط كومار”، حيث يقترح عليه بدلا من تركيا الذهاب إلى بلغاريا للحصول على ما يريد.

في صوفيا.. كل شيء قابل للمساومة

في صوفيا يُقابل صُنّاع الوثائقي صاحب مصنع للتدوير يقبل باستلام كميات كبيرة من البلاستيك غير المرخصة، ويشرح لكومار الأساليب التي يتبعها للحصول على موافقات رسمية تجيز له المُتاجرة بالبلاستيك، فشعاره كل شيء قابل للمساومة مع وجود المرتشين والفاسدين في أجهزة الدولة.

يصور الوثائقي ما يسميه مصنع تدوير، يضم بضع مكائن صغيرة مستوردة من الصين متوقفة عن العمل، هذا كل ما لديه. أما النفايات التي يستلمها فلا تمر بالمصنع المزعوم ولا تُدوّر أصلا، بل تذهب مباشرة إلى مصنع إسمنت عملاق يستخدم البلاستيك وقودا، وتتسبب تسريباته الكيميائية الهائلة بكوارث بيئية تتجاوز بلغاريا إلى مساحات كبيرة خارجها.

تسجيلات فيلمية تصدم الناشطة البريطانية بوصول نفايات منطقتها إلى معمل الأسمنت البلغاري

 

يستفسر الوثائقي عن موقف الدول الغربية من كل ما يجري. وفي بروكسل يجد جوابا من خبير في الوحدة الأوروبية يؤكد له أن المشكلة عصية على الحل، لأنها أصبحت سوقا واعدة لرجال العصابات تُقدّر أرباحها سنويا بـ12 مليار يورو، وأن لدى تلك العصابات أساليبها الخاصة للتهرب من رقابة الدول، وتتمتع بعلاقات جيدة مع موظفين فاسدين في حكومات بلدانهم، إلى جانب عجز دول الوحدة عن السيطرة على حركة النقل ومراقبة كل الشاحنات الواصلة إليها بدقة.

وأثناء وجودهم مع التاجر البلغاري يجلب انتباه فريق العمل وجود أكياس مليئة بنفايات بلاستيكية واصلت من بريطانيا، فكيف وصلت هذه الأكياس إلى هنا مع أنها مسجلة رسميا في بريطانيا وعليها عناوين الأشخاص الذي تولوا تصنيفها وترتيبها إلى جانب اسم شركة “تيراسايكل” التي يُفترض أن تقوم بتدويرها داخل بريطانيا؟

ذهب فريق الوثائقي إلى العنوان المُثبت على الأكياس، حيث قادهم لمقابلة سيدة تنشط تطوعا في تصنيف نفايات المنازل في منطقتها، فهي ترتبها بنفسها وتقوم بإرسالها إلى شركة “تيراسايكل” المكلفة بتدويرها. تُظهر التسجيلات الفيلمية المعروضة أمامها من المصنع البلغاري إصابتها بالصدمة، فهي لم تصدق أن الشركة خذلتها وكذّبت عليها طمعا في المال الذي تحصل عليه من شركات ومصانع إنتاج المواد الغذائية.

رئيس شركة تدوير أمريكية.. محتال في لبوس مخلّص للبشرية

يوصل البحث صُنّاع الوثائقي إلى مؤسس الشركة الشاب “توم ساكي” الذي قدّم نفسه للعالم من الولايات المتحدة الأمريكية كمخلّص للبشرية من سمّ اسمه البلاستيك، فقد أسس مشروعه وروّج له بين أصحاب الشركات -التي وجدت المشاركة في هذا المشروع تنزيها لعلاماتها التجارية- وقدمهم كمتعاونين مع جهة تقوم بتدوير أغلفة منتجاتهم، وبالتالي فهم يساهمون أيضا في تنقية البيئة والحفاظ عليها.

شركة “تيراسايكل” المكلفة بتدوير البلاستيك والتي من المفترض أن تقوم بتدويرها داخل بريطانيا

 

وعلى المستوى الشعبي قدّم الشاب الأمريكي شركته كوسيط خير لا يحصل من جهده على ربح مادي، لكن التحري يكشف كذبته لأنه يحصل بالفعل على المال من 100 شركة كبيرة، ويرفض الشاب الإجابة على سؤال فريق العمل عن كيفية وصول النفايات البلاستيكية من شركته إلى معمل الإسمنت البلغاري.

خلاصة الاستقصاء البارع والشجاع تفضح كذبة التدوير التي لم تعد تنطلي على أحد بعد كشف أن أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى لن يتوقفوا عن نشاطهم، وهذا ما تأكد منه الوثائقي خلال رحلته إلى إندونيسيا ومقابلته لنشطاء بيئيين فيها، حيث أكدوا أن العمل على توسع المشاريع الخاصة بإنتاج البلاستيك جارٍ في بلدهم، ولا يهم أصحابها ما تسببه نفاياتها لاحقا من أضرار تلحق بالبيئة المحلية وبصحة المواطن.