“غرفة بلا منظر”.. عبودية “الخادمات” في جحيم المنازل اللبنانية

قيس قاسم

تذهب المخرجة الإسبانية “روسر كوريّا” إلى لبنان لتتقصى أوضاع العاملات الأجنبيات في المنازل (الخادمات)، وذلك بعد اتساع دائرة الشكوى من إساءة معاملتهن وسلب حقوقهن، لتثمر نتيجة بحثها فيلما وثائقيا مهما سمته “غرفة بلا منظر” (Room Without a View) (2021)، وذلك للدلالة على الانغلاق وحجْر العاملات في غرف ضيقة لا تطل على فضاء خارجي.

ولعرض أوضاع عيشهن اختارت الإسبانية أسلوبا سَرديا خاصا يعتمد على إخفاء وجوه المشاركين فيه، باستثناء وجوه العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية، وبعض المَشاهد القصيرة التي تظهر فيها سيدات لبنانيات يتبادلن أطراف الحديث عن العاملات في بيوتهن وأشكال التعامل معهن.

 

وعلى المستوى البحثي أرادت صانعته أن يكون شاملا وقادرا على استيعاب الظاهرة وبحثها من جوانب مختلفة. وأرادت له أن يكون مبحثا سينمائيا يتسع لتحليل طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شجعت اللبنانيين على تشغيل عاملات أجنبيات في منازلهم، ومعاملتهن في الغالب الأعم بطريقة مُهينة وغير إنسانية.

الإساءة “للخادمات”.. تحليل الظاهرة وعد الاكتفاء برصدها

هذا الفيلم الألماني النمساوي الإنتاج ليس أول الأفلام التي تتناول الظاهرة، فقد تنبه لها من قبل عدد من المخرجين اللبنانيين، من بينهم “ماهر أبي سمرا” الذي أنجز فيلما جيدا عنها عام 2016 عنوانه “خادمة لكل شخص” (A Maid for Each). كما قدمت المخرجة “كارول منصور” فيلما وثائقيا بجزأين قصيرين صدرا بين الأعوام 2005 و2008 وحمل عنوانا دالا هو “خادمة في لبنان” (Maid in Lebanon).

يكمن اختلاف “غرفة بلا منظر” عن بقية الأفلام في ميله للتحليل ودراسة الظاهرة وعدم الاكتفاء برصدها، إلى جانب توسيع مساحته الجغرافية ليصل إلى بعض المناطق التي تأتي منها أكثر الخادمات، في محاولة من صانعته لفهم الظروف التي تدفعهن للبحث عن عمل خارجها.

 

وتشير المكالمات الهاتفية المسجلة بين أصحاب شركات تشغيل العاملات وبعض الراغبين في الحصول على “خادمات”؛ إلى كينيا والفلبين وإثيوبيا كأكثر الدول التي تصل منها عاملات منازل إلى لبنان.

سلع للبيع.. الانحياز كليا للمشتري

الأسئلة والأجوبة المتبادلة عبر الهاتف بين “البائع” و”المشتري” تُصَور عاملات المنازل وكأنهن “بضاعة” قابلة للتبادل. فالمشتري يسأل عن ثمنها ومواصفاتها، والبائع يقدم أجوبة عنها مع توضيحات تشي بانحيازه المطلق للزبون على حساب “السلعة” المعروضة، حيث يرشده إلى أساليب التعامل مع “الخادمة” من أجل الحد من حريتها واستغلالها إلى أقصى حد، وينبهه إلى حقوق التصرف بها وفق ما توفره له صفته القانونية كـ”كفيل” لها يحق له معاملتها كما يريد، وتمكنه أيضا من وضع شروط عمل قاسية غير قابلة للمناقشة أو الرفض من قبل العاملة الأجنبية. وفوق كل ذلك يمنحه “نظام الكفالة” الحق في احتجازها وسحب جواز سفرها ومنعها من الحركة خارج المنزل أو المكان الذي تعمل فيه.

المكالمات التي تجري بين الطرفين تصل للمُشاهد عن طريق الصوت فقط، وخلالها لا يظهر على الشاشة إلا اللون الأسود، وكأن صانعة الفيلم تدعو المُتفرج ليتخيل بنفسه وجهي السائل والمجيب، وتقدير الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الزبون.

عقود استغلال بشعة.. تحت وطأة التهديد والحرمان من الأجر

تقابل المخرجة عاملة إثيوبية أصيبت بالصدمة لحظة اكتشافها الصلاحيات الممنوحة لصاحب العمل الذي تعمل في منزله، حيث تصف ظروف عملها بغير الإنسانية، فهي تعمل ليل نهار، تعتني بشؤون المنزل، وترعى الأطفال بنفسها وتوصلهم إلى مدارسهم، وفي الليل تسهر على راحتهم، ولا تسمح لها سيدة المنزل بالخروج، ولا حتى الاتصال بأهلها عبر الهاتف، وما أن تنتهي من عمل تطلب منها إنجاز آخر غيره.

على العاملة الأجنبية تنفيذ كل ما يُطلب منها من رب البيت وأسرته دون اعتراض

 

عمليا فالعاملة الإثيوبية هي من يربي الأطفال، والغريب أن والدتهم تغضب حين ينادونها “ماما”، حيث تشعر الأم بالانزعاج من ذلك، ومع ذلك تواصل تكليفها برعايتهم حتى في حالة مرضهم. أما إذا بدر منها رفض أو احتجاج بسيطا على كثرة الأعمال التي تقوم بها حد الإنهاك، فسرعان ما يتدخل صاحب البيت لوضع حد لها، وذلك بتهديدها بالطرد والحرمان من الراتب. يُذكرها الكفيل دوما بأن لا حق لها بالاعتراض، وعليها حسب العقد المُبرم بينه وبينها تنفيذ كل ما يطلبه هو وبقية أفراد عائلته دون نقاش.

تصف العاملة الصدمة التي شعرت بها حين قرأت بنود العقد لاحقا بتروٍ، فقد اكتشفت أن كل ما يقوله “الكفيل” مثبت في العقد الذي جعلت بنوده منها “سلعة” للبيع، وله حق التصرف بها كما يريد.

“الخادمات”.. الطبقة المتوسطة تنافس الغنية

يراجع الوثائقي عبر أصوات مشاركين يعملون في حقول مختلفة (أكاديمية ونقابية واجتماعية..) تاريخ الظاهرة، ويشخص من خلالهم اختلافا حاصلا في طبيعة الطبقات التي تستعين بالعاملات الأجنبيات في المنازل.

المكالمات الهاتفية مع الأهل تقوم بها الخادمة في السر خوفا من اكتشاف الكفيل أمرها

 

فقبل الحرب الأهلية كانت الاستعانة بالعاملات الأجنبيات في المنازل محصورة فقط على طبقة الأثرياء، أما الآن فالطبقة المتوسطة وحتى الأقل قادرة على استخدام العاملات. ويعود ذلك -حسب مشاركين- إلى رخص الأيدي العاملة، ودخول المرأة اللبنانية إلى سوق العمل بشكل أكبر، هذا إلى جانب تأثير أصحاب وكالات تشغيل العاملات في الترويج للفكرة وتشجيعها، منطلقين من الفكرة التي تقول إن الحصول على “خادمة” يمنح الشخص وجاهة وتميُّزا اجتماعيا.

 “غرفة الخادمة”.. حيز صغير من دون نوافذ

من خلال تجربة مرت بها مهندسة معمارية أثناء الدراسة نبهتها إلى وجود ظاهرة عاملات المنازل، جعلتها تفكر لاحقا بمفهوم “غرفة الخادمة”، حيث تحكي بالصوت عن جولتها الميدانية مع أستاذ محاضر عن العمارة الحديثة في بيروت، والذي طلب من طلابه الدخول معه إلى عمارة سكنية قديمة مهجورة، أخذ يشرح للطلبة جماليات معمارها بإعجاب، لكن الطالبة انتبهت إلى حيز صغير فيها مظلم، فيه غرف صغيرة من دون نوافذ، وحين سألت الأستاذ عنها أخبرها أنها “غرف الخدم”.

لم تنزعج الطالبة من الجواب بذاته، بل من استمرار الأستاذ في شرحه عن العمارة من دون التوقف عند خصوصية المساحة التي تشي بضيق وعزل لا يمكن تجاهله أخلاقيا. غضبُ الطالبة دفعها لطرح أسئلة لاحقة عن وجود الخدم في لبنان، وانتبهت إلى الإعلانات الموجودة اليوم على واجهات البنايات المعروضة شققها للبيع، والتي تتضمن عبارة: في الشقة غرفة مخصصة للخدم.

قانون العمل.. يُخرج “الخادمات” من حقوق العمل

يتيح الوثائقي مجالا للأطراف المعنية بالظاهرة ليقدم كل منها رؤيته بشأنها. فأصحاب العمل يرون مبالغة في الكلام المثار حولها، وأن تصوير “الخدم” والتعامل معهم كـ”عبيد” مبالغ فيه.

العاملات الأجنبيات في المنازل اللبنانية لا يشملهن قانون العمل باعتبارهن جزءا من المنزل اللبناني

 

أما ممثلو الجهات النقابية فيُحيلون الخلل إلى قانون العمل الذي لا يُدرج العاملين في المنازل ضمن فئة العمال المشمولين بالحماية، ويُقرون بأن وضعهم القانوني غير سوي، فهم لا يحصلون على إجازات سنوية ولا حقوق مهنية مثل بقية العمال المشتغلين في حقول عمل أخرى، بحجة أنهم يشتغلون عند “صاحب عمل” يقدم لهم خدمات لا يقدمها عادة أصحاب العمل التقليديين مثل تأمين السكن وتقديم المأكل والمشرب، وهذا يمنح “الكفيل” صلاحيات خارجة عن السياقات التقليدية، ويرفعه إلى درجة “مالك” للعامل في منزله، وليس مجرد صاحب عمل. فوق كل ذلك فإن “نظام الكفالة” يمنح الكفيل حماية قانونية تمنع أي محاولة للتخلص من جوره وظلمه بحقهن.

ويعرض الوثائقي الفقرة “6” من قانون العمل التي تقر بأن العاملين في المنازل لا يشملهم قانون العمل، وذلك لأنهم يُعتبرون تاريخيا جزءا من المنزل.

يأس واكتئاب.. حين يصبح الانتحار وسيلة خلاص

الحصار المفروض على العاملات الأجنبيات في المنازل اللبنانية يدفع بعضهن للانتحار، ويوثق الفيلم حالات كثيرة أقدمت فيها عاملات على قتل أنفسهن يأسا.

ويحلل الوثائقي العلاقة المختلّة الناشئة عن استغلال صاحب العمل لـ”الخادمة” والتي تجيز له تعنيفها جسديا ونفسيا، وأحيانا يصل الأمر إلى الاعتداء عليها جنسيا.

واحدة من العاملات الأجنبيات في المنازل اللبنانية تشعر باليأس من المعاملة السيئة التي تتلاقها

 

وبالصوت تقدم شابة شهادتها عن علاقة جنسية غير سوية يقوم بها والدها مع “خادمة”، وبعد اكتشافها قررت مفاتحة والدها الذي لم ينكر الأمر، حيث أصيبت بصدمة حين عرفت الأساليب القذرة التي يستخدمها والدها ضد العاملة الأجنبية وتهديده لها بالطرد إذا حاولت فضح أمره. كما يعرض حوادث قتل تسترت عليها أجهزة الشرطة وذهبت دماء “الخادمات” هدرا.

الحُلم اللبناني.. وسطاء يصورون الجحيم بأنه جنة

المشهد المؤلم المعروض يدفع الوثائقي للذهاب إلى بعض المناطق التي أتين منها. ففي دول آسيوية لا يحددها الفيلم بالاسم يوثق دور الوسطاء وشركات توظيف العاملات في تشجيع الهجرة والكذب على الراغبين بالسفر. وتقدم شابة تجربتها أمام الكاميرا، وتشرح أنه وبسبب فقر عائلتها وعجزهم عن مساعدتها لإكمال دراستها؛ قررت الذهاب إلى لبنان للعمل والحصول على المال المطلوب لتحقيق حلمها.

يُجمّل الوسطاء لبنان في عيون النساء الفقيرات، حيث يصفونه بالبلد المريح الذي يمكن فيه وخلال فترة قصيرة جمع مبلغ جيد من المال مقابل عمل سهل، لكن الحاصل عكس ذلك كما يأتي في شهادة الشابة التي تصف لبنان بـ”الجحيم”، فقد تبخرت أحلامها وعادت إلى قريتها خالية الوفاض.

إعلانات الشركات لتشغيل العاملات التي تشجع على الاستغلال

 

في قرى متعددة تدخل كاميرات الوثائقي صفوفا مخصصة لتعليم الفتيات الراغبات في العمل في لبنان اللغة الإنجليزية، وبعض المفردات العربية التي يشرف عليها وكلاء التوظيف. ويتضح من الاستماع إليهن جهلهن التام بما سيواجهنه من صعوبات عند وصولهن البلد الغريب، لهذا ظهرت حركات مدنية في لبنان تدعو للحد من استغلال العاملات الأجنبيات والتخلص من “نظام الكفالة” الجائر.

حراك حقوقي.. مطالبات بإلغاء “نظام العبودية”

توثق صانعة الوثائقي نشاطا إعلاميا ومهنيا يجري في لبنان ينشد توعية العاملات الأجنبيات بحقوقهن، فمجموعة منهن تقوم بعمل إعلامي تطوعي يتمثل ببث برامج إذاعية باللغة العربية البسيطة، تنصح بطرد فكرة الانتحار من أذهانهن، والتحلي بالوعي والمطالبة المستمرة بإلغاء “نظام الكفالة”. ويقف معهن لبنانيون، ويظهر هذا من خلال لقطات لمظاهرات تنظمها جمعيات مدنية لبنانية تطالب السلطات بالكف عن معاملة العاملات الأجنبيات كـ”عبيد”، وإلغاء “نظام العبودية”.

لا تقلل الناشطات من سلبية التحولات الاجتماعية التي جعلت من النساء العاملات شبه عاجزات عن تلبية شروط أمومتهن، فالكثير من الأمهات العاملات لا يتصورن إمكانية العيش وتربية الأطفال من دون وجود “خادمة”. هذا الوضع أسهم في نشر ثقافة مختلة تُجيز التخلي عن دور الأم لغيرها.

ويقدم الوثائقي شهادات صوتية لأمهات شابات يعترفن بالتقصير في تربية أولادهن، ويجدن صعوبة في فهم كيف كانت المرأة العاملة اللبنانية من قبل تُوَفِّق بين عملها ومنزلها.

لا يقدم “غرفة بلا منظر” أجوبة قاطعة على تلك الأسئلة المحيرة، لكنه يضع المشهد الخاص بالظاهرة بكل تفاصيله أمام المُشاهد، مشفوعا بتحليل متنوع المستويات، في محاولة منه للتحفيز على التفكير بحال العاملات اللواتي دفعهن الفقر في بلدانهن للبحث عن فرص أخرى تحسن حياتهن، لكنهن يصطدمن في لبنان بواقع تكرر وصفه كثيرا على لسانهن؛ “إنه حقا جحيم”.