“قطعة من السماء”.. حين تقع فراشة في حُب ثور بجبال الألب

أمير العمري

يتآلف الإنسان والطبيعة معا في سياق شعري فيه من الغموض بقدر ما فيه من السحر والألفة الإنسانية، مع سرد غير معتاد، وشخصيات أثقلتها الطبيعة، بحيث جعلتها جزءا منها، صمتها هو صمت كتل الثلج في جبال الألب.

ليس هذا ملخصا للفيلم السويسري البديع “قطعة من السماء” (A Piece of Sky) الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي الذي اختُتم مؤخرا، بل هو مجرد محاولة لوصف الانطباع الذي يمكن أن يخرج به المرء بعد الاستمتاع بمشاهدة هذا العمل الذي يشعّ بآلاف الأضواء.

غوص في معنى الحياة ولغز الموت.. تشكيل الصورة السينمائية

إنه يجمع بين الرومانسية والتأمل الفلسفي والسرد الرصين الذي يعتمد على الصمت أكثر من الكلام، وعلى التشكيل في الصورة السينمائية أكثر من المواقف الدرامية المعقدة، وعلى الأداء الهادئ والشخصيات القلقة المعذبة المتجاورة التي تشعر بالوحدة، ولا تجد لنفسها مخرجا من تلك الوحدة إلا بالتضامن والتماسك معا رغم كل الظروف.

 

“قطعة من السماء” هو من كتابة وإخراج المخرج السويسري “مايكل كوخ”، وفيه يروي من خلال أسلوب بليغ في اللغة السينمائية، واستخدام تعاقب الزمن قصة بسيطة لكنها موحية، وهو لا يبالغ كثيرا في إبداء التعاطف مع الشخصيات، بل يراقبها عن قرب، ويحاول أن يفهمها، يتأمل معها فيما تراه وتفكر فيه، من دون أن يسعى بالضرورة لاختراق قلوبها والاطلاع على ما تخفيه عنه، فما تخفيه يظل حبيسا في داخلها وحدها، ولعل هذا يزيد الفيلم سحرا وغموضا. إنه فيلم عن معنى الحياة، ولغز الموت.

“ماركو” والثور.. شبَه الكائنات العملاقة في قرية سويسرية

نحن في قرية سويسرية في منطقة جبال الألب الألمانية، الزمن هو الحاضر، لكن ما نراه يبدو وكأنه يدور في الماضي، فالقرويون ما زالوا يعملون بأيديهم في حلب الأبقار وقطع القش وتعبئته في بكرات ضخمة ودفعه على الأرض.

العمل اليدوي في القرية شاق، ويقتضي طاقة جسدية عالية، لذلك يجد الشاب الغريب “ماركو” القادم من خارج هذه المنطقة الجبلية مكانا له في القرية، فهو ضخم الجثة كأنه مصارع، لا يتعب من العمل ولا يمل، يرعى قطعان الماشية، يدق أعمدة الأخشاب في الأرض، ويقوم بتثبيتها لصنع سياج لحظيرة الأبقار، ويزيل ما ينبغي أن يزال من أحجار، ويعيد ترتيبها وتنسيقها حول الحظيرة. إنه يمارس العمل الشاق بهدوء، ومن دون أن يشكو.

وهناك بوضوح مقاربة بصرية من خلال اللقطات التي تركز عليها الكاميرا بين “ماركو” العامل القوي البنية، والثور الكبير الذي يأتون به لتخصيب البقرة، فتعاقب اللقطات الذي يخلقه المونتاج واضح تماما في الجزء الأول من الفيلم.

 

“ماركو” رغم ضخامة جسده طيب القلب رقيق صامت، لا يتكلم إلا نادرا، وهو أيضا مطأطأ الرأس باستمرار.

ساقية الحانة.. رهان فراشة رقيقة تقع في حب ثور عملاق

في المساء يجتمع الرجال في الحانة التي تعمل فيها “آنا”، شابة القرية الجميلة، يحتسون الشراب ويثرثرون، ونعرف أن هذه الفراشة الرقيقة النحيلة الجميلة “آنا” تحب “ماركو”، رغم التناقض الكبير بينهما.

تلفت هذه العلاقة بالطبع أنظار أهالي القرية الذين يراهنون على أنها لا يمكن أن تستمر، والمشكلة أن “آنا” لديها أيضا ابنة ذات سبعة أعوام تقريبا من زواج سابق، لكن “ماركو” يريد أن يتزوجها، وهي توافق بل وترحب، طالما أنه على استعداد لقبول ابنتها الجميلة “جوليا”.

هذا التناقض الواضح بين الاثنين في الشكل وفي تكوين الشخصية يلفت أنظار الجميع، فهم عاجزون عن فهم كيفية حدوث الانجذاب بين البشر، فكيف يمكن أن تقع فراشة في حب ثور؟

“آنا” شابة القرية الرقيقة النحيلة الجميلة التي تقع في حب “ماركو”

 

هذه هي الحياة الطبيعية البسيطة البعيدة عن حكايات السينما المنمقة المرسومة في افتعال ومبالغة وتزويق، والفيلم كله في الحقيقة -رغم الدراما الخافتة التي تنبع منه- يسير ضد منهج السينما التقليدية، بما في ذلك إيقاعه البطيء المُنساب الذي يعكس كثيرا إيقاع الحياة في تلك المنطقة البعيدة عن صخب المدينة الحديثة، رغم وجود السيارات والهواتف المحمولة وغيرها.

مشاهد غنائية هندية في جبال الألب.. بهجة بين طيات الفيلم

يقطع سياق السرد في الفيلم بين آونة وأخرى ظهور فريق من المنشدين يقفون فوق ربوة جبلية أو على ضفاف النهر، حيث ينشدون الأغاني التقليدية الشعبية القديمة التي تعلق بشكل ما على الأحداث، وقد تتنبأ أيضا بما يمكن أن يحدث، وكأننا نشهد قصة من الدراما اليونانية القديمة.

وفي وقت ما يأتي أيضا مجموعة من الهنود الذين يرغبون في تصوير بعض المشاهد الغنائية التي اشتهرت بها الأفلام الهندية في تلك المنطقة من جبال الألب، ويطلبون الإقامة في الفندق الصغير الوحيد في القرية الذي تديره “آنا” أيضا لحساب صاحبته.

يستخدم المخرج مشهدا أو أكثر من مشاهد الغناء الهندي وسط جبال الألب بكل غرابته لإشاعة جو من البهجة بين طيات الفيلم، لكن من دون أن يتسبب في إرباك سياق السرد الأصلي للقصة.

“آنا”.. وجه بجمال الطبيعة في مواجهة المشاق

تعمل “آنا” في الحانة والفندق في المساء، كما تدير مكتب البريد الصغير، وتنقل الرسائل في الصباح، أي أنها تمارس العمل الشاق أيضا، لكن دون أن تفقد قط جمالها ورونقها وهدوء نفسها.

“آنا” في لقطة مع الطبيعة، وكأنها تجعلنا نشعر بأنها جزء منها وقد امتزجت بها، وعندما تتعقد الأمور تتبدل الطبيعة المزدهرة الرائقة، وتصبح أكثر كآبة وغضبا وتوحشا

 

ويخصها المخرج “كوخ” باستمرار باللقطات القريبة لوجهها، كما أننا كثيرا ما نرى الطبيعة من وراء ظهرها وهي تسير في لقطات طويلة تتابعها خلالها الكاميرا، وكأنها تجمع بينها وبين الطبيعة، وتجعلنا نشعر بأنها جزء منها وقد امتزجت بها، وعندما تتعقد الأمور تتبدل الطبيعة المزدهرة الرائقة، وتصبح أكثر كآبة وغضبا وتوحشا.

ورم المخ.. تحول غامض في حياة الثور القوي بعد الزواج

ما يحدث هو أن “ماركو” يتزوج “آنا” في كنيسة القرية، وسط حفل يحضره أهل القرية مع فرقة موسيقية صاخبة تزف العروسين، ورغم أننا لا نرى بعد ذلك مشاهد حميمية بين الاثنين، فإن الفيلم يكشف مبكرا عن نزوع “ماركو” للتعبير عن شهوته العارمة حتى أثناء وجود “آنا” في العمل، وفي أماكن لا يمكن اعتبارها رومانسية على أي مستوى.

لكن بعد فترة قصيرة تنقلب الأمور، إذ يبدأ “ماركو” في الشعور بنوبات من الصداع تهاجمه لا يدري لها سببا، وتفشل الأدوية التقليدية في علاجه، ويطول الصبر والانتظار، ويتغير المزاج. وبعد الفحوص الطبية والاختبارات الضرورية تأتي الأنباء السيئة، فهو مُصاب بورم في المخ، ويحتاج لعملية جراحية ضرورية لإزالته. ولا تتخلى “آنا” عنه قط بل تزداد حبا به والتصاقا به، كما تتوثق علاقته بابنتها “جولي” الصغيرة الذكية.

“آنا” وزوجها “ماركو” تغيرت أحوالهما بعد إصابته بورم في المخ

 

يمر الزمن ونعرف أن العملية قد أجريت، وبعد العملية يعود “ماركو” الذي رأيناه من قبل كالثور في قوته وعنفوانه، وقد تغير تماما ولم يعد قط إلى ما كان عليه، لقد أصبحت تصرفاته غريبة وغامضة، ومن الممكن أن تؤدي إلى أسوأ العواقب أيضا، وهو ما يؤدي إلى تدخل الآخرين.

تأملات المصير الإنساني.. تراجيديا مليئة بالغموض النبيل

لا يمكنني هنا أن أكشف عن ما لا يجب كشفه من حبكة الفيلم لأترك للمشاهد الاستمتاع كما يشاء، لكن يكفي أن نقول إن “آنا” ظلت تتمسك به وتشفق عليه، وتحاول استعادته، رغم كل تلك المواقف الصعبة المحرجة التي تنشأ، والضغوط التي تمارس عليها من قبل من يعرفونها، إلى أن يأتي الوقت للفراق بعد استحالة التواصل بينهما.لكن ما الذي سيحدث لـ”ماركو”؟

المصير الإنساني محدد سلفا.

إننا أمام تراجيديا حديثة لا تجنح للمغالاة أو الصراخ، وتبتعد ببراعة عن الميلودراما التي تولد الدموع كما في الأفلام الهندية مثلا، بل إن كل شيء في هذا الفيلم يبدو منسوجا برقة بالغة، لا لكي يصدمنا بسلوك الشخصيات، فهذا السلوك يظلله غموض نبيل غامض طوال الوقت، بل لكي يسوق لنا قصة نتأمل فيها، وفيما تحمله لنا من شعور بالأقدار بغلبة الواقع على المشاعر، بالتغير الذي يمكن أن يصيبنا فجأة، فيبدل المعادلات الذهنية والعاطفية ويطيح بها.

لا ينطلق المخرج (وهو نفسه كاتب السيناريو) هنا من منطلقات أخلاقية، بل يترك لنا المجال للتأمل في تلك القصة التي تحمل-على نحو ما- بذور نهايتها من البداية.

المنسوب الأكاديمي.. رغبة في إضفاء طابع قديم على الفيلم

يستخدم المخرج منسوبا قديما للصورة يُعرف بالمنسوب الأكاديمي أي مساحة الصورة كما تظهر على الشاشة 1.37: 1 ، أي 1.37 للعرض، مقابل 1 للارتفاع، وهو منسوب كانت الأكاديمية الأمريكية قد أقرته عام 1932، لكنه تغير الآن وأصبح الغالب هو منسوب الشاشة العريضة، وتظهر العودة إليه هنا رغبة المخرج في إضفاء الطابع القديم على الفيلم، والاحتفاء بالصورة القديمة التي اشتهرت بها كلاسيكيات هوليود في عصرها الذهبي.

مخرج فيلم “قطعة من السماء” السويسري مايكل كوخ

 

ورغم هذا المنسوب الضيق فإن “كوخ” يبدي اهتماما كبيرا بتصوير اللقطات البعيدة العامة، وخصوصا تلك التي تُصوّر شخصيات الفيلم من بعيد وهي تسير ببطء وتتهادى داخل إطار الصورة، كما يهتم بالطبيعة، لكن ليس من خلال شكل البطاقات السياحية، بل يوظف لقطات الطبيعة لتكثيف موضوع الفيلم، وتصوير العلاقة بين البشر والطبيعة، في استرخائها ثم في انقلابها.

من العناصر المهمة في الفيلم أيضا عنصر التمثيل، وجدير بالذكر أن المخرج استعان بممثلين معظمهم من غير المحترفين، وأولهم “سيمون ويسلر” الذي قام بدور “ماركو”، وهو في الحقيقة مزارع قروي، ثم “ميشال براند” التي اكتشفها “كوخ” ودربها على القيام بدور “آنا”، وقد أدى كل منهما دوره ببراعة وثقة، ثم ظهرا معا في مهرجان برلين، وقوبلا بترحاب كبير من جانب الجمهور.