“ميناماتا”.. سرّ القرية التي تطلق أرحام نسائها كائنات شوهاء

د. أحمد القاسمي

هل أضحى الإنسان اليوم عبئا على الأرض يُفسد فيها ويدمر مظاهر الحياة فوقها؟

لعل كارثة القرية الساحلية الصغيرة في الأرخبيل الياباني “ميناماتا” تؤكد ذلك، ولعل قصتها التي يستلهم منها المخرج الأمريكي “أندرو لفيتاس” قصة الفيلم “ميناماتا” (2020)؛ هي عينة من هذا العالم الصناعي الذي يظهر توفير الرفاهية للإنسان ومدّه بسبل السعادة، ويخفي تدميرا للطبيعة والإنسان معا، وذلك بفعل جشع أصحاب رؤوس الأموال وعطشهم المستمر للمزيد من المال.

نفايات الزئبق.. سموم البحر المحقونة في لحوم السمك

يستلهم فيلم “ميناماتا” قصته من وقائع تاريخية مؤلمة، ففي بداية منتصف القرن الماضي شهدت القرية حالات غريبة، فقد أخذت قطط قرية ميناماتا تأتي بحركات غريبة،كأن تضرب برؤوسها على الأرض والجدران، وأن يهتز جسدها اهتزازا عجيبا، ثم تُلقي بنفسها في البحر.

لقد ساد الظن أنها تُصاب بالجنون أو تنتحر لدوافع مجهولة، وسريعا ما انتقلت أعراض مشابهة إلى البشر، فكان المرء يشعر بخدر في أطرافه وشفتيه، ويُعاني من صعوبة في السمع أو الرؤية، ثم يُصاب باهتزازات في الذراعين والساقين، وتتعثّر مشيته، ويحدث أن يُصاب بتلف في الدماغ، وكما حدث للقطط، فقد بدا البعض وكأنهم في طريقهم إلى الجنون.

 

كان النظام الغذائي لسكان القرية الساحلية يقوم على تناول الأسماك أساسا، وكان مصنع كبير للبتروكيميائيات تديره شركة “تشيسو كوربوريشن” قد ألقى بنحو 27 طنا من مركبات الزئبق في خليج ميناماتا، لذا فقد اشتُبه في تسببها بالكارثة الصحية، لكن الشركة أنكرت تورطها، وادعت أن نفايات الزئبق التي تلقي بها في البحر لا تؤذي البشر، بل إنها لا تسبب أي مرض.

وفي يوليو/تموز 1959 تأكد لباحثين من جامعة “كوماموتو” أن المرض يعود إلى مستويات عالية من التسمم بالزئبق، وقد أطلقوا اسم قرية ميناماتا على هذا المرض الغريب.

لقد كانت الكارثة كبيرة، فقد أحصي أكثر من 1500 حالة وفاة، وظهرت إعاقات شديدة نتيجة لإصابات في الأجهزة العصبية وتشوهات خلقية خطيرة بين الآلاف من القرويين، وتذكر الوثائق أن المصور الصحفي “ويليام يوجين سميث” الموظف في مجلة “لايف مغازين” (Life Magazine) انتقل مع زوجته “إيلين ميوكو” إلى ميناماتا لمتابعة آثار التلوث الصناعي، وانخرط في الدفاع عن حق أهل القرية في الحياة، فنشر 11 صورة في المجلة، ثم نشر لاحقا كتابا مصوّرا، مما أكسب هذه المأساة الإنسانية والبيئية صدى عالميا.

قضية ميناماتا.. حبل نجاة إنساني لأب ممزق الشخصية

تظل سينما هوليود في بحث مستمر عن الموضوعات الجديدة، فآلة الإنتاج تعمل باستمرار، ولا بد لها من مادة خام مميزة ووقائع مثيرة، حتى تُعيد صياغتها وفق أنماطها الجاهزة.

وقصة القرية المنكوبة تتضمن أحداثا نموذجية ربما تأخرت هوليود كثيرا في الانتباه إليها، وحتى يكون الفيلم أكثر جاذبية فقد حوّل السيناريو كثيرا من شخصية “سميث”، وجعله شخصية ممزقة بين التصور المثالي للحياة والواقع المزري، فالصور التي يحمّضها في مخبره تكشف انتصاره للقضايا الإنسانية العادلة، مثل تبنيه لمعاناة الجياع في العالم، وإدانته للتجارب النووية ولعنف الشرطة في مواجهة الاحتجاجات السلمية، ويسخّر عدسته لخدمتها.

المصور الصحفي “يوجين سميث” انتقل إلى ميناماتا لمتابعة آثار التلوث الصناعي هناك

 

وتؤكد الأغنية المصاحبة للمشاهد الأولى من الفيلم هذا الأمر، فهي تدين غياب العدالة الاجتماعية في العالم، وتفضح جشع أصحاب رأس المال. ورغم كل ذلك فإن “سميث” يظل شخصية متدهورة فاقدة لتوازنها الاجتماعي النفسي، فيعيش حالة من الإحباط وعذاب الضمير، وذلك لاعتباره أبا غير مثالي شغلته ملاحقة مجده الشخصي عن مرافقة أبنائه ومقاسمتهم طفولتهم. ومما يعمّق وعيه ما يعيشه من بطالة وإدمان وإفلاس.

وتعمل اللقطات السريعة على تجسيد حالة الارتباك هذه، وستمثل قضية أهالي ميناماتا الذين يناضلون من أجل حق أبنائهم في الحياة حبل النجاة الذي سيمنحه توازنه المفقود، وقد أصبح صاحب قضية يناضل من أجلها.

تبني ألم الأطفال.. فرصة ذهبية للتكفير عن الذنب

يمنح الفيلم إذن شخصية سميث عمقها النفسي ببراعة مدهشة، فهو مُصوّر ملتزم يؤمن بأن وظيفة الصورة تتمثل في كشف المظالم ونشرها بين الناس لفضح المتسببين فيها، كما أن انخراطه في الدفاع عن الأطفال ضحايا التسمم بنفايات الزئبق يُسعفه بأن يكفّر عن ذنبه، وبأن يعيش عبرهم أبوّته من جديد، بعد أن فاته أن يكون أبا جيدا. ويظهر حنوّه هذا وهو يرافق الطفل المعاق الذي يجلس وحيدا ليشاهد أترابه وهم يستمتعون بلعبة كرة القدم، فيهوّن عليه ألمه، ويناوله آلة التصوير ليتسلى بالتقاط الصور.

تنتهي هذه الشخصية إلى التخلص من تدهورها، فتسهم في نشر معاناة ضحايا تلويث البيئة، وإرغام الشركة والدولة اليابانية على تقديم التعويضات العادلة للضحايا ولعائلاتهم.

المصور الصحفي “ويليام يوجين سميث” مع زوجته “إيلين ميوكو”، حيث تحوّل إلى نموذج يُحتذى به لعدد من المراسلين الصحفيين

 

ولئن صدر الفيلم عن قصة واقعية تعرض إصرار “يوجين سميث” على المسؤولية الاجتماعية للمصور الصحفي، وتحوّله إلى نموذج يُحتذى به لعدد من المراسلين الصحفيين، فإنه قد أدخل عدة مؤثرات درامية على شخصيته ليشد المتفرّج إليه، وينتزع منه تعاطفه معه ومع القضايا التي يدافع عنها.

يابان ما بعد الحرب.. وحش الصناعة يشوه الطبيعة والإنسان

يستدرج الفيلم المتفرّج إلى قضيته عبر خلق التشويق، ومن خلال لعبة الحوافز والعراقيل، فحماسة سميث لقضية أهالي ميناماتا تصطدم بيأس مدير المجلة “بوب” من استهتاره في مهمات سابقة، وعدم قدرته على تحمل المزيد من نزواته، وذلك بعد أن خيّب ظنه في أكثر من مرة.

وحالما يتجاوز هذه العقبة، ويضمن تمويل المجلة لرحلته، يصطدم بحقيقة إدمانه الذي يجعله يُضيع آلة تصويره، وما تضم من الكليشيهات، أو يصطدم بمكيدة أصحاب المصنع بعد أن رفض قبول عرضهم ثمنا باهظا لصمته، ثم يصطدم أخيرا بتواطؤ السلطات اليابانية مع أصحاب المصنع وترحيلها له، فاليابان مثخنة بجراح الحرب العالمية، ويفرض عليها تنافس اقتصادي مدمّر مع الصناعة الأوروبية، لذا تحاول أن تتدارك ما فاتها على حساب التزاماتها البيئية.

وتعمل الصورة على تجسيد هذه المفارقة بين الأمل الذي يمنحه التقدم الصناعي للشعوب، والحقيقة المخادعة للمُعاصرة التي تتجرد من القيم الإنسانية، فتعرض المصنع العظيم، وتحاول عبر زوايا التصوير ترسيخ امتداده في ذهن المتفرج، لكن ما هذا العملاق غير وحش يشوّه سحر الوجود، وينشر الأسى في رباه.

سميث المحبط يطلب من مدير مجلة “لايف” إرساله لتوثيق مأساة ميناماتا فوتوغرافيا

 

وجمال الطبيعة ساحر بشكل مذهل لكنه جمال خادع أيضا، فوراء خُضرة الجبال وزُرقة البحر ينام السُمّ القاتل. ويمثل الإيمان بعدالة القضية وبفاعلية الصورة حافزا يدفع “سميث” إلى تخطي كل هذه العراقيل ليحقق المهمة المستحيلة التي جاء من أجلها.

ترحيل المصور.. تعتيم على المشهد بعد فوت الأوان

لقد جاء الأثر نمطيا وفيا للقوالب التي تصنع وفقها هوليود أفلامها، لكن هل هذه السينما استهلاكية دائما؟ هل تسلب من المتفرّج لبّه وتزجّ به في فرجة سلبية ساذجة آليا؟

لا شك أن الصور الأرشيفية الحقيقية المرعبة التي ضمها الفيلم لقطط تحطمت رؤوسها في الأقفاص، ولأطفال مشوهين تلتوى أياديهم كأشجار متشابكة، أو الصور التي حاكى من خلالها مأساة أطفال ميناماتا؛ تدفعنا إلى مراجعة مثل هذه البديهيات.

ينتهي الفيلم على حدث ترحيل السلطات اليابانية للمصور “سميث” بعد أن انتبهت إلى حقيقة دوره، لكن لم يجد ذلك نفعا، فقد التقط صوره التي جاء يبحث عنها، والتي مثّلت شهادة على أهمية التصوير الفوتوغرافي في توثيق التجاوزات وفي الإسهام في انتزاع الظلم.

وللصورة التي تحمل عنوان “حمام توموكو” مكانة خاصة في التعريف بمأساة القرية المنكوبة، فقد انتشرت انتشارا واسعا لدي الرأي العام الدولي، وتحوّلت إلى شهادة مؤثرة عن معاناتهم، ولا نجاح بلا سبب.

“حمام توموكو”.. عبقرية فوتوغرافية تختزل ألم القرية

تجسّد صورة “حمّام توموكو” حمّاما تتلقاه “توموكو إيمورا” الشابة التي أصيبت بتسمم الزئبق وهي ما تزال جنينا في رحم أمها، وتستمد دلالاتها العميقة من قدرتها على اختزال ألم القرية بأسرها وهي تواجه قوة نائمة تحت مياهها، حيث تحولت أجنة نسائها إلى مسوخ، وعلى انحراف المعاصرة الصناعية التي يتسابق إليها العالم، وتحوّلها إلى خطر يُهدد الحياة على كوكب الأرض من أكثر من عنصر.

 

أولها: من حيث خصائص تشكيلها، فالأم والبنت تبدوان ثابتتين، والصورة خالية من الحركة ومن البُعد السردي، والمحيط يغرق في السواد ويدفع العين دفعا إلى ما يجري في الأذهان والمشاعر، وتحدّق الشابة في الأعلى وتنظر إلى السماء، ولعلها تنتظر رحمتها بها، أو تطلب انتقاما من ماسخيها، فتنفطر الأفئدة لهول المنظر، أما الأم فتتأمل الشابة بحنان وتُرسل نظرات يملأها الأمل، فترفض الواقع وتخلق عالما بديلا. يقول الفلاسفة أليس وهم يُحيي أفضل من حقيقة تُميت؟

ثانيها: من حيث رسالتها، فالعلم ينحرف في عالمنا المعاصر، واليابان تعمل على علاج هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وإبادة شعبها بالسلاح النووي، لكنها تسهم أيضا في تدمير المحيط وسلامة البيئة، وفي إبادة شعبها بسموم النفايات للبتروكيميائيات.

“الرحمة”.. دلالات ضاربة في عمق التاريخ والثقافة الغربية

كان هذا العمل يحمل نوعا من إحياء الذاكرة الفنية ذات الدلالات العميقة، فالصورة محاكاة فوتوغرافية لمنحوتة “الرحمة” للرسام والنحات والمهندس المعماري والشاعر “مايكل أنجلو”، وقد أنجزها ما بين العامين 1498-1499م في عصر النهضة، وتُصنّف اليوم باعتبارها أهم منحوتة من الرخام في روما، وتجسّد مريم العذراء وهي تحمل المسيح المصلوب بين يديها، وهذا ما شحن الصورة بدلالات مصاحبة، فتصبح الأم بمثابة مريم العذراء، وتكتسب قداستها من أمومتها، وتتحوّل الفتاة إلى المسيح وقد صلبته الصناعة، وضحت به السلطات اليابانية كما فعل أعداء المسيح زمانا (حسب الاعتقاد المسيحي).

منحوتة “الرحمة” للرسام والنحات والمهندس المعماري والشاعر “مايكل أنجلو” في روما

 

كان الفيلم وهو يعيد سرد هذه الوقائع يحاكي مضمون الصورة ويجسّده بلغة سينمائية بديعة، ومن رمزيتها يستمد قدرته على إدانة التوحش الرأسمالي، وعلى الدعوة إلى الخلاص، وإلى حياة مفعمة بالإيمان والروحانية.

“ميناماتا”.. أبعاد الفيلم الروائي ووظائف الفيلم الوثائقي

فيلم “ميناماتا” هو فيلم روائي بلا شك، إذ يحاول أن يشدنا إلى مغامرة بطله “سميث” وهو يحاول التخلّص من حالة الاكتئاب التي استسلم إليها، ويبحث عن دور إيجابي وعن معنى لحياته، وقد غدت قاحلة لا حب فيها.

وتُظهر الأحداث المتعاقبة أن “سميث” لم يكن يدافع عن حق أطفال ميناماتا في الحياة فحسب، فحصوله على الصورة التي يريد الفيلم منحه إياها هو حياة جديدة، إذ حوّله من شخصية متدهورة إلى بطل إيجابي يواجه منظومة بأسرها دفاعا عن الإنسانية بعد أن جعله إدمانه مسخا بشريا، كما رمى عبر قصته هذه وما أضاف إليها من مؤثرات درامية وعاطفية إلى إبراز قيمة الصحافة باعتبارها سلطة رابعة، وإلى سلطة الصورة ودورها في مواجهة انحرافات الحياة المعاصرة.

مصنع البتروكيميائيات الذي تديره شركة “تشيسو كوربوريشن”، والتي ألقت بنحو 27 طنا من مركبات الزئبق في خليج ميناماتا

 

ورغم بُعده الروائي هذا فقد اضطلع بوظائف الفيلم الوثائقي، فأحيى ذكرى كارثة ميناماتا التي سببها مصنع البيتروكيميائيات جنوب اليابان منذ نصف قرن تقريبا، وعرّف المتفرج بأخطار التلوث، معتمدا قدرا مهما من الصور الأرشيفية، ومبرزا قتال المصور الأمريكي لإظهار فظاعة الحياة المعاصرة بطريقة واقعية ومكثفة، دون أن يحوّل السرد إلى وظيفة تعليمية مدرسية فجة، فجمع بين وظيفتي التخييل الذي يمنحنا الحلم، والتسجيل الذي يدفعنا إلى مواجهة الحقيقة في الوقت نفسه.

“ميناماتا”.. رسالة تحذيرية من فخ لا فكاك منه

قد ننخدع في حياتنا بأشخاص يدخلونها من أبواب عرضية، وقد تفعل بنا بعض مؤسسات المال ذلك، فتبيعنا الأوهام وتتركنا نطارد خيط دخان، لكنه ليس مخادعا كالمعاصرة التي نمتدحها، فهي تغشي أبصارنا بأنوارها الكاذبة، وتقدم لنا نفسها باعتبارها خادمة للإنسان، مذللة له الصعاب، منقذة للبشرية من ظلام القرون الوسطى.

وليست أنوارها في الحقيقة غير طُعم يُسيل لعابنا، ويستدرجنا لنقع في فخّها الذي لا فكاك منه، فكلما حاولنا أن نتحرر من قبضتها توغلنا في متاهتها، وقد باتت حياتنا رهينة تسميم الوسط الذي نقيم فيه، وتدمير صحتنا.

وفي فيلم “ميناماتا” رسالة تحذرنا من هذه الخدعة، وتفتح أبصارنا على عيشنا في عصور التوحّش دون أن ننتبه إلى ذلك، أو لعلّنا نرفض الاعتراف بحقيقته.