“لبنان في قلب الفوضى”.. بلد على حافة الانهيار ينهشه الفقر والطائفية

قيس قاسم

لبنان بلد على حافة الانهيار، ومع ذلك هناك أمل وعزم عند قطاعات واسعة من شبابه على تجاوز الأزمة والتعافي منها.

هذا هو الاستنتاج الذي يخرج به الوثائقي الفرنسي “لبنان.. في قلب الفوضى” (Liban: au coeur du chaos)، والمتأتي من ملازمته لشباب يمثلون جيلا جديدا من السياسيين اللبنانيين يشخصون بدقة الأزمة التي يمر بها بلدهم، ويُشخّصون أسبابها الرئيسة وضرورة التخلص منها، ومن بين أبرزها الفساد والحرب والطائفية والبنى الهيكلية القديمة للدولة.

هل يمكن تحقيق كل هذا من دون إحداث ثورة؟ ذلك ما يحاول الوثائقي معرفته عبر بحث متشعب ورصد دؤوب لواقع لبنان في لحظته الحالية، ومن خلال مقابلته لشخصيات تمثل الطيف السياسي اللبناني المتنوع، فمواقفها المتباينة تعكس المأزق الحقيقي الذي يمر به البلد، ومن دون تجاوزه يصبح مهددا حقا بانهيار كامل.

ما قبل الانفجار.. تمرين يسبق الثورة الحتمية المُنتظرة

يؤسس الوثائقي مساره على ضوء تشخيص المشاركين فيه وبشكل خاص الشباب، وذلك لمعرفة أسباب الأزمة، ويتوقف عند كل سبب طويلا ليُشبعه بحثا ودراسة سينمائية ميدانية.

 

ينطلق الفيلم من النقطة الحرجة التي وصل إليها لبنان لحظة حدوث الانفجار الهائل في ميناء بيروت الذي هز كيانه في العمق، وطرح أسئلة مصيرية حول مستقبله إذا ما ظل المسؤولون عن حدوثه بعيدين عن المحاسبة.

يختار مخرج الفيلم الفرنسي “ألفريد دي مونتسكيو” مقاطع مصورة بكاميرات هواتف محمولة لتفجيرات ميناء بيروت كمفتتح لمساره الدرامي، وكمؤشر على الأوضاع التي وصل إليها لبنان، وشدة الانقسام الحاصل فيه، والمتطلب تغييرا جذريا، حيث يسأل عنه الشابة ليليان التي تصف كل ما سبق الانفجار من حراك بأنه لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي، بل كان تمرينا يسبق الثورة المُنتظرة التي تؤمن بحدوثها الحتمي.

محل البقالة.. ارتفاع الأسعار يحول دون إكمال الحاجيات

الوضع الاقتصادي المتردي في لبنان والمتزامن مع وباء كورونا ينعكس على حياة ليليان، إنه وضع يعيق إكمال دراستها الجامعية لعجزها وعائلتها عن تحمل تكاليفها، مما دفعها للبحث عن عمل تعيل به نفسها.

يصاحب الوثائقي الشابة التي تشير أثناء حديثها عرضا إلى انتمائها لعائلة شيعية؛ في نشاطها وتحركاتها اليومية، ويدخل معها إلى محل بقالة لشراء بعض الحاجيات اليومية، تبدو الأسعار غالية بحيث لا تتمكن من شراء كل ما تريده، بينما يشكو صاحب المحل هو الآخر من أسعار البضائع التي يشتريها من التجار، حتى المواد البسيطة منها، مثل الأجبان التي تتغير وترتفع كل يوم.

ينتقل المخرج مع ليليان إلى شوارع بيروت ليصور حالة الاختناق الحاصلة أمام محلات تعبئة وقود السيارات، فالانتظار يطول ساعات والتذمر واضح، والمطالبة بتوفير الخدمات مشروعة، لكن المتحقق منها ضئيل جدا.

طوابير طويلة أمام محلات تعبئة وقود السيارت في شوارع بيروت دون توفر خدمة الوقود

 

ينتقل الوثائقي لمقابلة محللين سياسيين يُشخّصون الفساد كسبب أساسي للأزمة، حيث فساد بنوك وسياسيين لا يهتمون إلا بمصالحهم، أما جوع الناس وفقرهم فهو آخر ما يشغل بالهم.

بيع الملابس القديمة.. صورة قاتمة تعكس مستوى البلاد الاقتصادي

يتضح مستوى الفقر الذي وصلت إليه البلاد في محاولة ليليان بيع جزء من ملابسها القديمة بسعر زهيد لا يكاد يكفي لسداد ثمن وجبة في مطعم. تُحيل ليليان سبب الأزمة الاقتصادية إلى الفساد الذي لم يكن وليد اليوم، بل ترافق مع ظهور الدولة اللبنانية الحديثة، وما البنوك سوى رمز من رموزه؟

يتيح الوثائقي فرصة لبعض أصحاب البنوك المتهمين بالفساد ليقدموا وجهة نظرهم ويدافعوا عن أنفسهم، لكن بالمقابل ينسف الواقع على الأرض كل تبريراتهم الهشة، واقع دفع الناس للخروج إلى الشارع والمطالبة بإسقاط النخب السياسية كلها.

شاركت ليليان في مظاهرات عام 2019، ولم تخبُ حماستها رغم انحسار الحراك بسبب انتشار وباء كورونا وعوامل أخرى، من بينها عفوية التحرك الذي يتطلب تنظيما أفضل وتعبئة أكثر حسب رأيها.

تبيع ليليان الشابة اللبنانية ملابسها القديمة في محل للملابس المستخدمة بسعر زهيد لا يكاد يكفي لسداد ثمن وجبة في مطعم

 

يستمع فريق الوثائقي مع ليليان لشباب خرجوا للشارع وسدّوا بعض طرقات العاصمة احتجاجا على الأوضاع التي تلت انفجار ميناء بيروت، فهم ينشدون بحراكهم ثورة تُزيل كل الطبقة السياسية الفاسدة، ومع كل ما تمر به الشابة ليليان، فإنها تُصر على البقاء في البلد ومواصلة النضال.

حزب الله.. جبهة حربية في الجنوب تعمق الأزمة اللبنانية

يزيد التوتر في الجنوب بين حزب الله وإسرائيل مخاوف اللبنانيين من نشوب حرب جديدة تذكرهم بحروب قبلها ما زالت آثارها باقية ومنعكسة على الأزمة الحالية التي يمرون بها.

ولرصد ما يجري هناك، يذهب الوثائقي إلى مناطق حدودية ويقابل أحد المؤيدين لحزب الله، وهو ناشط إعلامي ينفي انتمائه للحزب، لكنه لا ينكر إيمانه بمبادئه وأهدافه، حيث يوثق نشاطه في تأجيج حماسة طفل من عائلته للتضحية بحياته في سبيل الحزب. ويشخص بعض المشاركين في الوثائقي التوتر الموجود واحتمال نشوب حرب بسببه؛ على أنه واحد من أسباب الأزمة اللبنانية.

التوتر في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل يفاقم أزمة اللبنانين بالخوف من حرب مُحتملة

 

لتحري مدى دقة التوصيف، يذهب الوثائقي لمقابلة بعض من قادة الحزب الذين رحبوا بالقتال والشهادة في سبيل الدفاع عن الوطن، بينما يرى آخرون يعاكسونهم الرأي بأن الحزب يستغل ذلك لأغراض دعائية تهدف إلى تقوية نفوذه السياسي وسيطرة ميليشياته المسلحة على الأوضاع الأمنية في البلد، مما يفاقم من حدة الانقسام الحاصل فيه.

أزمة اللاجئين.. شرارة سورية تؤجج الصراع اللبناني

يقودنا الوثائقي إلى منطقة البقاع ليعرض مشكلة إضافية يواجهها البلد تتعلق بوجود المهاجرين السوريين فيها بأعداد كبيرة،ففي عموم لبنان بلغت أعداد المهاجرين السوريين أكثر من مليون ونصف مليون، وذلك في بلد يبلغ تعداد سكانه أقل من سبعة ملايين نسمة.

في البقاع يعيش اللاجئون السوريون من دون ضمانات معيشية ولا خدمات، حيث تنقل كاميرات الوثائقي ظروف عيشهم البائس في الخيام، ويقابل صانع الفيلم الطفل عبد الفتاح (12 سنة) الذي ترك الدراسة وبدأ يعمل حلاقا في المخيم، بينما والده عاطل عن العمل، لهذا يعتمد على ابنه في تأمين دخل بسيط للعائلة من دونه يصعب العيش هناك.

من خلال بحثه واستطلاعه آراء سياسيين لبنانيين حول موضوع الهجرة السورية يُشخص الوثائقي ميلا عند قادتهم للتكتم على وجودها. المشكلة الإضافية وأسلوب التعامل الرسمي معها يزيد من حدة الانقسام الحاصل بين الساسة،فبعضهم يطالب بإعادتهم، وآخرون لا يوافقونهم الرأي، ويطالبون بتحسين ظروف عيشهم الاضطراري.

طفل سوري يعمل حلاقا في لبنان لإعالة عائلته

 

لقد أضحت أزمة اللاجئين السوريين جزءا من مشاكل لبنان التي تتطلب حلا معقولا لا يقل إلحاحا عن مطلب حلّ عقدة الطائفية المتجذرة.

لعنة الطائفية.. مشهد يُعيد الحرب الأهلية إلى الذاكرة

يتعزز وجود الفساد السياسي بوجود الطائفية، فهذا ما تُبيّنه الممارسات على الأرض، ويدوّنها الوثائقي لمزيد من التأكيد، فكل طائفة تريد الاستحواذ على المكاسب والمناصب لأفرادها، مما يضعف مفهوم المواطنة، ويجعل الانتماء الطائفي هو المعيار والبديل عنها، بينما يُصعب الانقسام الطائفي والمذهبي التعايش السلمي بين المواطنين.

يغتنم الوثائقي وجوده في مكان يشهد زواجا لشخصين من طائفتين مختلفتين، فالزوجة مسيحية مارونية والزوج مسلم سني، حيث يواجهان رغم إعلان زواجهما رسميا بحضور الأهل والأصدقاء لحفل الزواج مشاكل مع مؤسسات حكومية ترفض الاعتراف به رسميا.

حفل زفاف امرأة مسيحية مارونية وزوج سني قوبل بالرفض من قبل المؤسسات الحكومية في الدولة رغم قبول الأهل وحضورهم

 

وجود الطائفية وانقساماتها الحادة يُعيد ذكريات الحرب الأهلية التي اتخذت الأطراف المتحاربة فيها الطائفية لها عنوانا. ستوصل ظاهرة الانقسامات الطائفية والمذهبية اللبنانية المتجذرة الوثائقي إلى طرابلس في الشمال، حيث تشهد المدينة أوضاعا معيشية صعبة.

“حاضنات التطرف”.. قنبلة موقوتة في الشمال المهمش

وسط شارع رئيس في منطقة باب التبانة يقابل صانع الفيلم شابا كان يملك قبل مدة مخبزا صغيرا، لكنه تركه اضطرارا بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة. ومن خلاله يرصد الوثائقي ظاهرتي البطالة والفقر المنتشرة في المنطقة، ويشرع البحث في أسبابها وتداعياتها.

الاحتقان السائد يسهل التقاطه، والغضب من إهمال الدولة يُعبَر عنه بمظاهرات احتجاجية سلمية غالبا ما يتدخل الجيش لفضها. المواجهة المسلحة بينهما مؤجلة، لكن الفقر لا يرحم، وربما تفاقمه سيسرع بها، وفي خضم كل ذلك تتطوع في الأحياء جمعيات مدنية لتقديم وجبات طعام مجانية للمحتاجين، فأعدادهم وفق الناشطين فيها في تزايد.

تكتفي الدولة بلعب دور المتفرج، فهي لا تقدم حلولا لهم، لهذا فمنسوب الغضب منها في تصاعد، والإحساس بالظلم تزيد من حدته التهم الموجهة ضدهم، فهي تصف مناطقهم بـ”حاضنات التطرف”.

 

يدخل الوثائقي مع الشاب العاطل عن العمل في منزله، فيبدأ في شرح صعوبة تأمين قوت أطفاله رغم بحثه الدائم عن عمل. في الخارج مع أصدقائه يستمع صانع الوثائقي إلى شكواهم، ومن التمييز في التعامل مع طائفتهم، وخوفهم من أن تفلت الأمور وتتصاعد المواجهات بين المتظاهرين وبين وحدات الجيش إلى مستويات أخطر. في جلساتهم وسط الأزقة المهملة يطالبون بإجراء إحصاء سكاني جديد بدلا من القديم الذي لا يمثل نسبتهم السكانية الحقيقية -حسب قول من التقى بهم الوثائقي-، وهذا يلحق بهم حيفا يفاقم من انقسامات لبنان.

حصيلة البحث المتنوع في أسباب أزمات لبنان يقربها الوثائقي بأبسط وأوضح صورة سينمائية ممكنة، ومن خلالها يفهم المتلقي أسباب ظهور الحراك الشعبي، ولماذا يرفع المحتجون والشباب منهم بشكل خاص شعارات تطالب بإزاحة النخب السياسية التقليدية المستفيدة من التركيبة السياسية القديمة كلها دون استثناء، لأنها بالنسبة إليهم منبع الأزمات، ورغم تعقيداتها يأملون في التخلص منها ليغدو وطنهم مكانا جامعا خاليا من كل أشكال الفرقة والانقسام.