“المُزوِّر”.. قصة شاب يهودي واجه عنصرية النازية من قلب برلين

كان شابا في مقتبل الشباب، يريد أن يستمتع بالحياة، يقتطف ثمار الحب، ويسعد بكل ما يتيحه العيش في مدينة برلين، لكن مشكلته أنه كان يهوديا في زمن مستحيل، فقد صعد “هتلر” وحزبه النازي إلى السلطة قبل سنوات، ثم اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية، فوجد الفتى نفسه بين خيارين؛ إما أن يبقى في الظل أو يموت، إلا أنه قرر أن يعيش في النور، أن يتحدى العالم ويخرج إلى العلن، ويستغل الموهبة الطبيعية التي اكتشفها في نفسه لخدمة قضية إنسانية كبرى، وهي قضية النجاة.

لم تكف السينما الأوروبية والأمريكية عن إنتاج الأفلام التي تروي قصصا من الواقع، عاشها أبطالها في زمن النازية التي أنتجت نظاما يضطهد كثيرا من الأقليات وفي مقدمتها اليهود، ويطارد كل من يشتبه في معارضته الحكم المطلق والسيطرة البوليسية الحديدية، كما أنشأ معسكرات الاعتقال الجماعي والعمل الإجباري التي قضى فيها مئات الآلاف نحبهم.

أحدث هذه الأفلام هو الفيلم الألماني “المزور” (The Forger) للمخرجة ” ماغي بيرين”، وهو فيلمها الروائي الطويل الرابع، وقد عرض في الدورة الـ72 من مهرجان برلين السينمائي.

تستخدم المخرجة في فيلمها أسلوب الإثارة البوليسية كشكل خارجي لرواية قصة إنسانية مليئة بالأسى، إلا أنها لا تخلو أيضا من الإثارة والمتعة والقدرة على شد المتفرج حتى النهاية.

“سيوما”.. يهودي استثنته عنصرية النازية من الترحيل

الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية دوّنها بطلها “سيوما سكونهاوس” بعد أن بلغ الثانية والثمانين من عمره، ونُشرت عام 2004، وفيها يروي الأحداث الغريبة التي أحاطت بحياته في تلك الفترة العصيبة في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، وذلك عندما كان في أوائل العشرينيات من حياته.

يقوم بدور “سيوما” في الفيلم الممثل الألماني “لويس هوفمان” الذي يضفي هدوءا ورونقا وسحرا على تلك الشخصية الغريبة التي كانت تواجه الموت بكل شجاعة، ورفضت الانصياع للخوف الذي يقتل الروح.

“سيوما” كما نراه في الفيلم هو شاب مقبل على الحياة، ينتمي إلى عائلة يهودية ثرية، وقد تبدت موهبته في الرسم والتصميم الفني مبكرا، وهو يلتحق قبل الحرب بمدرسة خاصة للفنون، ويتخصص في فنون الغرافيك، لكنه يضطر لقطع دراسته بعد تجنيده للعمل لحساب الجيش الألماني في مجال الإنشاءات وتصميم وتفصيل الملابس العسكرية.

بعد ذلك نراه وهو يعيش بمفرده داخل شقة الأسرة الفاخرة. ففي عام 1942 وفي خضم عمليات الترحيل القسري إلى معسكرات الاعتقال الجماعية، جرى ترحيل العائلة تطبيقا لسياسة “هتلر” العنصرية التي تعادي اليهود، لكنه استُثني من الترحيل بسبب الاحتياج إليه في العمل في مصانع الذخيرة.

صادرت السلطات النازية عمليا الشقة الفخمة التي تمتلكها عائلته، كما صادرت ممتلكات العائلة الموجودة داخل الشقة، لكن لم يوضع تقرير بالمصادرة ونقل المقتنيات، لذلك يستطيع “سيوما” العيش فيها دون أن يملك التصرف في التحف وقطع الأثاث النادرة الكثيرة الموجودة.

يزوره ذات يوم مفتش من الأمن مكلف برفع حالة المقتنيات والموجودات بالشقة، ويحذره من المساس بها أو بيعها، لكنه يضرب عرض الحائط بهذا التحذير رغم ما يمكن أن يجلبه له من متاعب لا حصر لها، ويأتي بعدد من البائعات من السوق القريب ويعطيهن المقتنيات الثمينة لبيعها له.

“مدام لانغ”.. أرملة ممزقة بين نازيتها ودينها الأصلي

هناك امرأة يهودية تُدعى “مدام لانغ” تخفي يهوديتها، تقيم في الطابق الأسفل، وهي في الحقيقة مسؤولة عن العمارة، وهي أرملة بحكم أنها كانت متزوجة من ضابط ألماني لقي حتفه في الحرب.

تبدو هذه السيدة ممزقة بين هويتها الحقيقية التي تقمعها حتى لا تتعرض للترحيل إلى معسكرات الاعتقال، وبين تعاطفها على نحو خفي مع “سيوما”، لكنها تخشى أيضا سوء العاقبة، فتتشدد كثيرا في تعاملها معه.

عندما تعلم “مدام لانغ” بما فعله (أي الاتيان بالبائعات إلى الشقة وتبادل الأنخاب معهن وتشغيل جهاز بث الموسيقى واللهو والمرح علانية) يجن جنونها، فهذا التصرف الأحمق يمكن أن يلفت أنظار الشرطة النازية (الغستابو)، ويُعرّض الجميع للخطر. لذلك فإنها توبخه ثم تستعيد كل المقتنيات، وتعده بأنها ستجد طريقة لبيعها بنفسها، لكن يتعين عليه البقاء داخل الشقة في الظلام.

مهارة الرسم.. تزوير البطاقات والأزياء في الظل

يريد “سيوما” أن يستغل مهارته في الرسم للحصول على عمل إضافي، فيتقدم بالعمل لحساب محام بروتستانتي يُدعى “فرانز كوفمان”، الاسم بالتأكيد ألماني قُحّ، لكن المظاهر تخفي تحتها كثيرا من الأمور التي لا يمكن تصديقها، فهذا الرجل يُعجب بمهارة “سيوما” في تقليد الرسوم والأختام ويعرف أنه يهودي مسيحي بالمولد، إلا أنه صُنّف من قبل النازيين بأنه يهودي، لكنهم أعفوه من الترحيل إلى معسكرات الموت لكونه متزوجا من امرأة مسيحية ولديهما ابن معا.

تزوير الختم النازي شعار الدولة

وهو يؤسس شبكة سرية لحماية اليهود، بل ومساعدتهم أيضا على الفرار خارج المانيا بوثائق مزورة، ويكلف “سيوما” بالتزوير مقابل منحه “كوبونات” (بطاقات) يحصل بموجبها على كمية من المواد الغذائية التي أصبحت توزع في ألمانيا بموجب هذه البطاقات بسبب ظروف الحرب وتحويل الإنتاج لخدمة الحرب.

يقبل “سيوما” هذا العمل، ويمارسه بالسر داخل متجر مهجور يستأجره المحامي مع شخص آخر يدعى “لودفيغ” كان متزوجا من مسيحية، غير أنها هجرته فأصبح مطاردا من النازيين، لذلك فهو يعمل وينتقل في الخفاء.

“سيوما” لا يقنع بالبقاء في الظل، بل يأتي بصديق له يقيم معه داخل شقته، ويستغل مهارته في الرسم والتصميم في تزوير بطاقات هوية له ولصديقه، ثم ينجح في تفصيل زي ضابط في البحرية الألمانية له ولزميله، ويخرج الاثنان يغشيان المنتديات والمطاعم والملاهي الليلية التي تستقبل الضباط دون خشية من افتضاح أمرهما.

مصائب الأصدقاء.. مناخ خانق من الترقب والقلق

في تلك الجولات الليلية يتعرف “سيوما” على فتاة تُدعى “غيردا”، تقول له إنها مخطوبة لجندي ألماني في الجبهة، لكنها فقيرة معدمة تتضور جوعا، تريد أن تبادله الحب مقابل أن يمنحها بعض البطاقات للحصول على الطعام والشراب، لكن العلاقة بينهما تتطور إلى علاقة حب عميقة.

تحاول “غيردا” التخفي بل وقطع علاقتها بشكل مفاجئ وحاد بـ”سيوما”، إلا أنها ستعتقل وترحل بعد اكتشاف يهوديتها، لكن “سيوما” سيظل وفيا محبا لها إلى ما بعد نهاية الحرب، إذ سيجتمع الاثنان معا في سويسرا، لكن هذه المعلومات خارج الفيلم، وتوجد في القصة الأصلية فقط.

الآن، ما الذي يمكن أن تفضي إليه كل هذه العلاقات الشائكة الصعبة في زمن الحرب، مع المراقبة الشديدة من جانب “الغستابو”، خصوصا بعد أن يشتبه ضباط الجهاز الأمني الشرس في صديق “سيوما” ويعتقلوه أمام عينيه دون أن يملك أن يفعل له شيئا، ثم ينجو هو نفسه من الاعتقال بأعجوبة بعد أن ينسى حقيبته وفيها البطاقات المُزوّرة في مكان عام، فهو مصاب بعادة نسيان الأشياء خلفه وإضاعتها، إلا أنه يتمكن من استعادتها بصعوبة بالغة بعد أن يثير الشكوك.

هذا المناخ الخانق من الترقب والقلق والاضطراب يعالجه الفيلم بمهارة من خلال التركيز على الشخصية الرئيسية، ويجعلنا نرى الأمور كما يستقبلها شاب يهودي نزق أقرب إلى الاستهتار، لا يحسب حسابا كبيرا للمخاوف، يريد أن يتحدى القيود التي فرضت عليه، وهو يترك شقة أسرته التي أصبحت خالية الآن والعيون مسلطة عليها، ويذهب للإقامة مع صديقته تارة، أو يهيم على وجهه تارة أخرى.

قلب برلين.. أجواء الموسيقى والديكور في الحقبة النازية

كل العناصر السينمائية التي يمكن أن تُبرز طابع الفترة متوفرة في هذا الفيلم البديع الآسر الذي ينقلنا إلى قلب برلين خلال الحقبة النازية، حيث تصميم الديكورات الكلاسيكية الجذابة التي كانت سمة في تلك الفترة، أي قبل أن تتعرض المدينة لدمار شبه كامل بسبب القصف المتواصل لطيران الحلفاء في العامين الأخيرين من الحرب، قبل استسلام ألمانيا وانتحار “هتلر”.

كما أن الإضاءة الطبيعية أضفت ملامح واقعية على الصورة، مثل ضوء الشموع والضوء الخافت في الأماكن العامة ليلا بسبب الغارات الجوية، وتصميم الملابس وتصفيفات الشعر، ومعالم الشوارع التي أعيد تصميمها بحيث تطابق واقع المدينة في الماضي قبل الدمار. وتضيف الموسيقى أجواء إضافية من التوتر والترقب على أحداث الفيلم.

وقبل كل هذه العناصر يعتمد الفيلم على سيناريو دقيق يعيد سرد القصة التي كتبها صاحبها “سيوما سكونهاوس”، إذ يتخلص من التفاصيل الزائدة والاستطرادات، ويضمن للشخصية الرئيسية حضورا بارزا، بحيث نتعرف إليها ونقترب منها، ليس فقط من خلال ما تخوضه من مغامرات مثيرة، بل من خلال علاقتها بالشخصيات الفرعية والثانوية الأخرى المرسومة جيدا، والتي تلعب دورا في تجسيد الصورة العامة، صورة الأجواء القاتمة.

ولعل من أهم هذه الشخصيات السيدة “بيترز” التي تقيم في نفس العمارة السكنية، وهي زوجة ضابط ألماني موجود في الجبهة، وقد أقامت علاقة مع صديق “سيوما”، لكنها رغم ذلك شديدة الإخلاص للنازية، وتتدخل باستمرار فيما لا يعنيها، وتتلصص على تحركات بطلنا الصغير “سيوما”.

“العنصرية لا تنشأ من العدم”.. فيلم إنساني خال من مشاهد الحرب

هذا ليس فيلما من أفلام النحيب والمبالغات التي تجنح إلى تصوير أجواء العنصرية النازية و”الهولوكوست” من خلال مشاهد الاعتقال الجماعي وقطارات الترحيل وأكوام الجثث، وكميات الشعر المحلوق المكوّمة، والحقائب التي تتجمع داخل معسكرات الاعتقال، كما هي العادة في غالبية الأفلام عن تلك الفترة، بل إنه يكتفي بإشارة أو تعليق عابر، أو أن نلمح الخوف في عيون شخصيات مثل “غيردا” أو “لودفيغ” و”مدام لانغ” وغيرها لكي نشعر بثقل أجواء الفترة.

لا توجد هنا مشاهد للقتال، إلا أننا نشاهد تداعيات الغارات التي تضرب المدينة، ونسمع صوت صفارات الإنذار، وأضواء المدافع المضادة للطائرات، لكن هذا بالطبع ليس فيلما حربيا، بل إنه أساسا عمل إنساني يُصوّر كيف يمكن للإنسان الفرد عندما يتحلى بروح المقاومة والرغبة في الحياة أن يقاوم خوفه ويهزمه ويتغلب على أعدائه.

تقول “ماغي بيرين” مخرجة الفيلم عن قصة “سيوما سكونهاوس”: إنها قصة شخص يتمرد على العوامل التي تدفعه للشعور بالعار، إن نظام الإرهاب موجود في الفيلم، لكننا لا نقدم للنازيين منصة، بل نراهم من خلال عيون “سيوما”. كان أصعب شيء بالنسبة لي كمخرجة هو أن أتعامل بصدق مع ما تصوره الرواية، وفي الوقت نفسه أن أصور كيف كان الناس يكرهون اليهود، لكن من خلال التظاهر بالود والتلطف معهم. كان من المهم بالنسبة لي زيادة الوعي بأن العنصرية لا تنشأ من العدم، فالموضوع عميق الجذور في مجتمعنا، وقصة “سيوما” رغم خفتها الكبيرة لديها مع ذلك أو نتيجة لذلك القدرة على تتبع عمق الجذور.