“قودي سيارتي”.. لقاء بالصدفة يحطم جدار الحزن ويفتح أبواب الحياة

خالد عبد العزيز

“ليس الحزن إلا صدأ يغشى النفس، والعمل بنشاط هو الذي يُنقي الروح ويُصقلها ويُخلصها من أحزانها”. بهذا التعبير يصف الكاتب الإنجليزي “صامويل جونسون” الحزن، ذلك الإحساس المُبهم العصي على التفسير الذي يُمسك بتلابيب النفس، ويُحولها إلى شرنقة ذاتية قوامها العزلة والاكتفاء بالوحدة.

الفيلم الياباني “قودي سيارتي” (Drive my Car) يشق ذلك الإحساس دون تردد، فهو يُعبر عن تلك المفردة “الحزن” المكونة من ثلاثة أحرف، والتي يملك كل حرف منها نصل سكين حاد يلامس الروح ببرود قاتل متمكن قادر على الولوج للأعماق، والخروج بأحشاء ممزقة موسومة بغيمة قاتمة. وهو من إنتاج عام 2021، وسيناريو وإخراج “ريوسوكي هاماجوتشي”، وقد حصد جائزة السيناريو في مهرجان كان السينمائي، وجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي.

يحكي الفيلم قصة “يوسكي كافوكو” (الممثل هيدتوشي نيشيجيما)، وهو مخرج مسرحي مرموق يعيش حياة هادئة برفقة زوجته “أوتو” (الممثلة ريكا كيريشيما)، إلا أن حياته تتحول من النقيض للنقيض بعد وفاة زوجته المفاجئة بنزيف في المخ، ولا يُنقذه من تلك الحياة الرتيبة سوى حضوره لإحدى المهرجانات المسرحية، هناك يلتقي بقائدة سيارته “ميساكي” (الممثلة توكو ميورا)، وحينها تتبدل حياته إلى مسار مغاير.

 

قصة قد تبدو عادية ولا تلفت النظر، لكن عندما نرى توقيع الكاتب “هاروكي موراكامي” عليها نُدرك مدى خصوصية النص، ومن ثم الفيلم الذي استلهم عوالم “موراكامي” الغرائبية وقدرته على النفاذ للعمق عبر أبسط الحبكات، فالفيلم المقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الياباني “هاوروكي موراكامي” ضمن مجموعة قصصية بعنوان “رجال بلا نساء”؛ يبحث في ماهية الحزن، ويوجه قذائف أفكاره الفلسفية نحو المتلقي، أبرزها قوة الذكرى التي تستحيل إلى حزن عميق يجعل الحياة كتلة مستعرة من الجحيم مُحملة بطوفان من التساؤلات، أهمها مدى قوة النسيان في مواجهة رواسب الماضي؟

ألم الخيانة والثكل.. نار هادئة تحرق قصة هيام مثالية

يبدأ الفيلم بمشهد تُظلله الإضاءة الخافتة والموسيقى التصويرية في الخلفية التي تُضيف بُعدا أكثر غموضا، و”أوتو” تسرد على “كافوكو” قصة جديدة تعمل على كتابتها حاليا لتنفيذها في عمل فني، وكلما تطورت القصة للأمام تزداد جرعة التشويق، ثم ننطلق للمشهد التالي، حيث يقود “كافوكو” سيارته الحمراء نحو عمل زوجته في التلفزيون، والكاميرا تلتقط السيارة الصغيرة من زوايا عدة تُبرز أهميتها، وكأنها ثالثة الشخصيات في المشهد.

لا يبدأ الفيلم بالطريقة المعتادة عبر كتابة التترات التي لا نلمح أثرا لها سوى بعد مرور ما يقرب من الأربعين دقيقة، وكأن تلك الدقائق ليست إلا مقدمة وبيانا لما سوف يأتي من أحداث، فقد جعل السيناريو الأحداث أشبه بالمقطوعة الموسيقية المكونة من أربع حركات، كل حركة تُسلّم للأخرى، وهكذا في متوالية متدفقة الأحداث نحو ذروة محتملة، فالسرد يسير وفق إيقاع بطيء متمهل يتسرب شيئا فشيئا إلى المتفرج، فلا يحدث التفاعل مع الشخصيات بغتة، بل يُغزل على مهل معتمدا على المشاهد الطويلة والحوارات، ليبدو الفيلم أقرب في بنائه الدرامي إلى المسرحية.

 

الحركة الأولى هي التمهيد الدرامي الذي يستمر على الشاشة دقائق طويلة، نرى فيها حياة “كافوكو” الهادئة مع زوجته، كل منهما يبدو وكأنه في حالة هيام بالآخر، هذا ما يبدو على السطح، لكن للعمق قول آخر، فتلك الحياة المثالية تخفي بين طياتها حزنا كثيفا يمتد لأعوام طويلة بعد وفاة ابنتهما وهي في عامها الرابع، ومنذ ذلك الحين لم تعد حياتهما كما كانت، لقد فقدت بوصلة التوجيه، ونصل للذروة في هذا الفصل حينما يكتشف الزوج خيانة زوجته، وتندلع في روحه نار مستعرة لعدم قدرته على المواجهة خشية أن تقوض أركان حياته التي ألفها وتعود عليها، ثم نصل لخاتمة تلك الحركة بوفاة الزوجة المفاجئة بنزيف في المخ.

قائدة السيارة.. حالة من الصمت تمثل جدار الأمان

تبدأ الحركة الثانية من السرد بعد وفاة الزوجة بعامين، فعند هذا الفصل يبدو الفيلم وكأنه على وشك البداية، فالتترات تظهر أثناء سفر “كافوكو” لإحدى المهرجانات المسرحية في ولاية هيروشيما، والأحداث تبدأ في التصاعد عند تلك النقطة الدرامية، حيث يسافر كعادته بسيارته رغم طول المسافة ومشقة السفر، إلا أنه يفضل البقاء منفردا حتى يستمع لصوت زوجته في مسجل السيارة وهي تقرأ له حوار المسرحية التي يعمل على إخراجها.

تتجلى ذروة هذه الحركة عند اللقاء بين “كافوكو” و”ميساكي” قائدة السيارة التي يُرشحها المهرجان للقيادة بدلا منه، فمن الناحية السردية يُعد ظهور “ميساكي” نقطة حبكة تدفع الأحداث للأمام، حينها يدخل “كافوكو” في شرنقة ذاتية الانغلاق، رافضا بصرامة كل محاولات الاقتراب مع تلك المرأة رغم إعجابه بقيادتها السلسة، وهي أيضا تبدو في حالة صمت دائم، وكأنها تخفي شيئا ما، لكن حالة الصمت بينهما خرج من رحمها فضول يدفع جدار الصمت للذوبان، ففي أحد المشاهد نرى ملامح حوار على وشك البدء بينهما حول المسرحية التي يعمل على إخراجها، فيرد بثبات قائلا إنها مسرحية “الخال فانيا” للكاتب الروسي “تشيكوف”، وصوت الحوارات المنسابة لزوجته الراحلة.

صورة تجمع الممثلة توكو ميورا بدور ميساكي مع الممثل هيدتوشي نيشيجيما بدور كافوكو

 

في هذا الشق السردي يتمسك كل منهما بأمنه النفسي ويخشى الاقتراب من الآخر، فـ”كافوكو” يفضل أداء عمله بهدوء والبقاء منعزلا، لا يرغب في مد جسور الود مع أحد، بل يكتفي بذاته، وكذلك “ميساكي” تُفضل البقاء داخل مساحتها الخاصة لا تحيد عنها، وإن اتجهت للأمام في خطوة غير محسوبة العواقب، فإنها سرعان ما تعاود براحها المعتاد.

سيجارة على الطريق السريع.. ذوبان الجليد

يقف “كافوكو” و”ميساكي” في وضع دفاعي تجاه بعضهما، فأحزان الماضي تُسيطر عليهما وتُعيق عبورهما نحو رحابة العالم، فقد خلق السيناريو عددا من محاور الحبكة التي تدفع السرد في تدفق، وذلك من خلال وضع المزيد من نقاط التشابك في العلاقة بين البطلين، فإذا اقترب “كافوكو” ابتعدت “ميساكي” والعكس صحيح، فكل منهما يرغب في البدء من جديد، لكن علو جبال الحزن في حاجة لطاقة سيزيف (شخصية أسطورية يونانية).

عند تلك النقطة المحورية تأتي الحركة الثالثة، وهي بدء سقوط الحصون والدفاعات النفسية لكل منهما تجاه الآخر، فقد جعل السيناريو المنسوج أحداثه ببطء شديد ماضي البطلين نقطة التقاء، عندها يحدث التقارب ويبرز مضمون الفيلم بسهولة ويسر، ألا وهي هل يُمكن البدء من جديد وفتح نوافذ الحياة مرة أخرى؟

هناك مشاهد عدة تضمنها السيناريو تدعيما لحالة التقارب بين البطلين، وكأنهما قط وفأر كل منهما يرغب في مناوشة الآخر، وتدعيما لهذه الحالة نرى في مشهد من أعذب مشاهد الفيلم “كافوكو” وهو يجلس بحوار “ميساكي” أثناء قيادتها للسيارة، ثم يطلب منها فتح النافذة لتدخين سيجارة بعدما كان يرفض التدخين في السيارة، ثم تلتقط الكاميرا عبر لقطة مقربة أيديهما وهي مُمسكة بالسجائر عبر فتحة السقف، ثم تتسع الزاوية لنرى السيارة الحمراء وهي تقطع الطريق السريع وكأنها سفينة تحمل البطلين نحو حياة جديدة تنتفي الأحزان فيها.

 

تتميز هذه الحركة بمدتها القصيرة نسبيا مقارنة مع بقية الفصول، وكأنها تمهيد لما هو قادم من أحداث، أو ما يسمى بلحظة التنوير، فالبناء الدرامي للفيلم راسخ قوي، والسبب في ذلك ليس التعداد الكثيف للمشاهد بقدر احتواء تلك المشاهد واللقطات -على طول الخط السردي- على كم مُحدد من المعلومات موزع حسب مقداره وتزامنه المرتقب، بما يزيد من جاذبية السرد، ويوقع المتفرج في شِراكه.

تشابه المصائر.. مرآة الآخر تعكس خبايا نفوسنا

تشابه المصائر وتشابكها فكرة أصيلة من أفكار “موراكامي”، وبالتالي بدت المعالجة الدرامية للفيلم مُخلصة لها، ولم تبتعد عن الحيز والطرح الفكري لأفكار صانعها، فحسب رؤيته يحتوي الكون على عوالم أخرى موازية، هذا التوازي يتقابل بصورة أو بأخرى مع الإنسان، وبالتالي يُمكن قياسه على “كافوكو” و”ميساكي”، حيث تحتوي سردية حياتهما على جرعة مكثفة من الأحزان قوامها الإحساس بالفقد والخوف من المواجهة.

جزء كبير من احترافية السيناريو وقوته قائم على هذا المبدأ؛ تقابل المصائر وتشابهها، فالبداية مع “كافوكو” الذي يعمل على إخراج مسرحية “الخال فانيا” لـ”تشيكوف”، ويُمكن بنظرة سريعة متابعة التشابهات بين الشخصيتين، فـ”كافوكو” ما هو إلا امتداد لـ”فانيا” أو نسخة أكثر حداثة، كل منهما اتخذ من الحزن رفيقاً له، وبالتالي حينما تعرض إدارة المسرح على “كافوكو” أداء شخصية “فانيا” يرفض بشدة، مُتحججا بأن الشخصية تستهلكه نفسيا بدرجة كبيرة.

ميساكي تقود سيارة كافوكو للمرة الأولى، حيث كل منهما يعاني من فقد عزيز

 

على الجانب الآخر خلق السيناريو نقطة تماس أخرى من خلال العلاقة بين “كافوكو” و”ميساكي”، فإذا كان “كافوكو” يشعر بالذنب حيال وفاة زوجته، فـ”ميساكي” هي الأخرى ترى أنها تسببت في رحيل أمها، ولم تسع بجدية لإنقاذها من الموت، فالإحساس بالذنب هو المسيطر عليهما، ولوّن حياتهما بلون غامق مُظلم، واتخذ الصمت والسكون حجر أساس لحياة بلا مذاق، فـ”ميساكي” بملامحها المتجهمة الصارمة ما هي إلا امتداد لشخصية “كافوكو” المتشبث بجدران الصمت، لذا جاء لقاؤهما وكأنه قوة دافعة يكتشف من خلالها كل منهما ما خفي من حياته عبر الآخر.

هيروشيما.. سطوة المكان تبعث الأروح من جديد

تعود نظرية الأكوان المتوازية للصعود مُجددا، فابنة “كافوكو” المتوفاة في عامها الرابع، لو حالفها الحظ في استكمال مسيرة حياتها، لكان عمرها سيوازي عمر “ميساكي”، أي أن كلا منهما تبلغ 23 عاما، فالتماس والتناص بين حياة “كافوكو” و”ميساكي” جلي وواضح يُمكن من خلاله استنباط مسار حياتهما، والأعمق هو النظر لخارطة الحياة بكافة تشعباتها.

كما أن لقاءهما جرى في هيروشيما، وهنا تبرز دلالة المكان وسطوته، فهذه الولاية التي شهدت كارثة إنسانية بعد قذفها بالقنبلة النووية تُعيد بناء نفسها مُجددا في صورة تبعث على الإعجاب، فقد اعتمدت الكاميرا على تصوير المدينة والقوة الاقتصادية الهائلة التي تتمتع بها، فـ”كافوكو” و”ميساكي” كل منهما في حاجة إلى مكان كهذا كي يخرجا منه وكأنهما بُعثا من جديد خاليين من شوائب الحزن ورواسب الماضي.

صراع البقاء.. طوفان الحزن المندفع يطفو إلى السطح

يقول الكاتب “فرانك هارو” في معرض حديثه عن الصراع الدرامي: المبدأ في العقبات الداخلية هو الإيحاء بأن ما يلاقيه البطل لا يحصل بمحض المصادفة، بل نتيجة خيارات حياتية، أو قرارات تُفضي إلى الدراما.

 

لقد رسم السيناريو الخيوط الدرامية مُطعّمة بصراع داخلي يدور بداخل النفس الإنسانية، صراع حول البقاء، فإذا استمر طوفان الحزن في الاندفاع، فكيف ستصبح حياة “كافوكو” و”ميساكي”؟

لذا بدت نقطة الصراع واضحة، وهي مجابهة نهر الأحزان المنهمر، مُحاوِلة إيقاف سيل جريانه الذي لا يتوقف، فـ”كافوكو” يُمثل النسيان بالنسبة له مرحلة متقدمة إذا بلغها نال طوق النجاة، لكنه يُصر على الاستسلام، خاصة مع الاستمرار في الاستماع إلى صوت زوجته في السيارة، وكذلك “ميساكي” التي لا تفارق مخيلتها صورة أمها المحتضرة.

لقد جعل السيناريو الصراع يدور من الداخل إلى الخارج، أي يتفاعل في دوامة داخلية لا يظهر إلا أثرها الخارجي على الشخصيات، أما “كافوكو” فنراه في أحد المشاهد يجلس وحيدا أمام مكتبه يراجع عمله مُحاطا بإضاءة خافتة، تعبيرا عن حالة الحزن الشفيف الذي يُسيطر عليه، فملامحه الموسومة بالصرامة والقتامة تكشف عن ما يدور في داخله من صراع، حتى وإن كانت نفسه تستعذب تلك الحياة الصعبة التي تأبى النسيان.

وأما “ميساكي” التي تتناص حياتها مع حياة “كافوكو” على الناحية الأخرى، فيرصد السيناريو علاقتها الملتبسة بماضيها الذي جعلها حطام إنسان، ما يطفو منها على السطح يشي بعذاب ضمير يكاد يقضي عليها، ومن ثم تبدو رؤيتها للعالم من حولها مشوشة، أو من خلف غلاف رقيق غامق اللون.

“أنا وأنتِ قُدرت لنا هذه الحياة، لذا علينا أن نستمر في العيش”

“أنا وأنتِ قُدرت لنا هذه الحياة، لذا علينا أن نستمر في العيش”. يُردد “كافوكو” هذه الجملة على مسامع “ميساكي” أثناء زيارته لمدينتها، وكأنه يبكي على الأطلال، وبهذه الجملة يصل السيناريو إلى الحركة الرابعة، وبذلك تكتمل المصفوفة السردية، وعند تلك النقطة يتصالح كل منهما مع ماضيه، حيث يُزيح هموم الحزن عن كاهله مُستقبِلا حياة جديدة هما في توق إليها.

طوال ثلاث ساعات هي مدة عرض الفيلم لم يُصَب أي من أجزائه بالعوار الدرامي، وبالتالي لم يتسرب الإحساس بالملل إلى المتفرج، بل على العكس من ذلك بدت الحكاية مُتماسكة البنيان، رغم الإيقاع البطيء الذي غلّف الفيلم، فمتابعة الحالة النفسية للأبطال وتطورها تُمثل صُلب الحبكة، وذلك في تطبيق مثالي لمقولة المخرج الأمريكي “فرانك كابرا” “في السينما لا توجد قواعد، فقط هناك خطايا يجب تجنبها، والخطيئة الأولى هي الملل”.

و”قودي سيارتي” نموذج للفيلم الشاعري الذي كلما تعمقنا في مشاهدته ازداد وعينا بالحياة ودوائرها التي لا تنتهي، فبواسطة السينما نرى حيواتنا عبر مرآة مقعرة.