“بين الأمواج”.. فرح ممزوج بالأسى في يوميات عائلة بالشمال المغربي

نادرا ما نرى في السينما العربية علاقة زوجية على هذا القدر من الحب والشجن والرقة، هذا التوافق والتفاهم العميق والعفوي، ونادرا ما يعبّر زوجان عن ارتباطهما الروحي والجسدي بهذا القدر من الشفافية والصفاء والصدق.

الفيلم المغربي الفرنسي “بين الأمواج” (Life Suits Me Well) الذي أخرجه الهادي أولاد مهند عام 2021، فيلمٌ مليء بالحنين والذكريات والعواطف، إنه أغنية في حبّ الحياة لشخصيات تواجه تحديات الألم والفقدان، لحظات إنسانية عميقة يمنحها الفيلم من خلال شخصيات إن لم تكن مقنعة على الدوام في بيئتها، فإن صدق المشاعر في الفيلم وأداء جميع الممثلين -وخصوصا الشخصيتين الرئيسيتين- وأسلوب تناول العلاقة بينهما؛ يدفع لاستغراق يجعل المشاهد مستعدا لتقبل كل جنونهما وبعدهما عن الواقع أحيانا.

هذا لم يبدُ مهما حقا، أي الالتزام بالواقع الفج، لقد فضّل المخرج رسمه برهافة وطرافة محببة ليعبر عن قصة ذاتية كما رآها هو أو أحسّها، ليوصل أحاسيس تترك أثرا عميقا في النفوس.

فؤاد وريتا.. زوجان مغربيان مُحبان يصارعان لأجل البقاء

ربما كان عنوان الفيلم بالإنجليزية والفرنسية يلائمه أكثر، ويعبّر أفضل عن شخصية بطليه الرئيسين. “الحياة تناسبني تماما” أو “الحياة خيرٌ لي” (Life Suits Me Well)، فالحياة خُلقت لهما، أي لهذين الزوجين اللذين عاشا في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فكانا يعيشان في بلدة صغيرة في شمال المغرب، في أصيلة المنفتحة على الشعوب والثقافات.

الزوج هو فؤاد (الممثل الفرنسي من أصول مغربية سمير قسيمي) العامل الفني في مكتب البريد، وهو يُدرِّس الإسبانية في أوقات فراغه، أما زوجته فهي ريتا التي تبقى في البيت لتدير شؤون الأسرة، وهم أولاد ثلاثة يذهبون إلى المدرسة.

إنها أسرة عادية فقيرة تعيش يوما بعد يوم، وتعمل من أجل البقاء، لكن أفرادها غير عاديين لأنهم منفتحون يحبون الحياة وما تهبه لهم، تزوج الأب من زوجته بعد أن رُزقت بطفلِ من شخص آخر، بينما “حتى الآن لا يفعل معظم الشباب ذلك” كما يقول المخرج، لكن حبهما كان قويا ومتفردا حتى النهاية.

مرض الأب الذهني.. معالجة خارج مألوف السينما

بدلا من أن يختار المخرج أسلوبا واقعيا جافا يعبر به عن حياة زوجين يصارعان أمواج حياة غالبا ما تغمرهما بمصائبها بأسلوب محزن ومأساوي، فإنه اختار معالجة الكتابة السينمائية للنص (من كتابته أيضا) بما يبتعد تماما عن المألوف مما تقدمه السينما عادة لهذا النوع من الأسر، وعن علاقات أفرادها وكفاحهم اليومي.

فحين يصاب فؤاد بمرض عصبيّ يؤثر على قدراته الذهنية، فإن هذا سيغير حياته وحياة أسرته التي كانت مليئة بالمرح والحب والدعابة، ويبدأ عندها توجهٌ جديد للجميع لأسلوب العيش لملاءمة الحدث، فمع اقتراب فؤاد من الموت، يكتشف أفراد عائلته بعضهم البعض أكثر، سوف يمتلئ منزلهم بحبّ كبير متزايد وتماسك لا حد له وشجن متواصل، وتطفو مع مرور الوقت الجراح، ويعمّ أسى عميق، لكن الرغبة في الحياة لا تشبع، وتُبقي هذه الأسرة في سعيها الدؤوب للنجاة أمكنة ولو ضئيلة لفرح عابر، ومساحة ولو صغيرة لابتسامة طارئة.

الأسرة على قدر حالها، فقيرة دون بؤس، فالأم ريتا أنيقة ببساطتها دوما بلباس شعبي وإن بدت أحيانا أكثر أناقة وجمالا مما يفرضه الحال، لكن هذا لا يعيب الفيلم، فالتركيز بالكامل على الشخصية وعلى قربها من القلب.

الأب فؤاد مصاب بمرض عصبي يؤثر على قدراته الذهنية

هذا يُنسي هنات كتلك، فما هو مهم ومؤثر هو هذه الروح الحلوة المعطاءة، وهذه الابتسامة المشحونة بحب عميق، هذا التعبير الأخاذ في العينين عن تشارك وتسامح ولين.

ريتا الأم.. حب يغمر الابن المعتصم بالغربة

قدمت الممثلة المغربية البلجيكية الإسبانية لبنى زبّال في دور الأم ريتا أحد أفضل أدوارها على الإطلاق، وإن تحدثت العربية ببطء وتلكؤ، فإنها تفرض حضورا محببا لا يُنسى، تُشعرك بآلامها وهول مصائبها دون أدنى مبالغة أو أيّ إيحاءات زائدة.

إنها تُوصل كل ذلك بنظرة أو حركة، ولو كانت تحضّر طعاما لبيعه لإشباع حاجة الأسرة بعد مرض زوجها وحبيبها، أو تغسل ثيابا، فإن مشاعرها هي هنا بكل عنفوانها ويأسها وأملها، وإن تلفظت ببعض التأنيب لأولادها فلا صراخ، وإن أرادت العتب على ابنها الكبير (من أب آخر كما ذكر أعلاه) المعتصم في فرنسا بعيدا عنهم وعن همومهم، على الرغم مما يبديه من مشاعر تجاههم؛ فهي تقول في جملة أو اثنتين على الهاتف بخجل وتردد، ففرحتها بالحديث معه تغلب أيّ أحاسيس أخرى.

الممثلة المغربية البلجيكية الإسبانية لبنى زبّال في دور الأم ريتا

وإن انقطع الاتصال الموصول لهم من قبل فؤاد بطريقة غير شرعية قبل انتهائها من التعبير عن مكنوناتها لهذا الابن الذي تشتاق له؛ تقول إنه الخط (وليس مثلا ابنها المشغول الذي قد يكون أغلقه)، تلتقط ما هو إيجابي في حديث ابنها، فقد سمّى ابنته على اسمها، وإن أصابها مرض خطير فكل ما تفعله فور عودتها من الغيبوبة هو ابتسامة حنونة على وجهها، ترتسم فيها معالم حب وحنان وقلق على عائلتها.

فؤاد.. موظف البريد المرح المُحب لعائلته

أما فؤاد فهو شخصية ذات خيال واسع وروح مرحة، يحوّل بأسلوب عفوي وخفة أيّ موقف إلى طرافة ودعابة، عمله كموظف في البريد وعبثه بالخطوط تنتج عنها في كل مرة مصيبة ما، لكنها مصيبة تبعث حياة في الحيّ، وتخلق مواقف فكاهية، إنه يفعل كل شيء بحيوية وانطلاق وحب وشيء من الفوضى، يحب زوجته ويلاعب أولاده، يمازحهم ويسعى جهده لتحقيق مطالبهم، حتى لو كلفه هذا ما ليس في طاقته.

يأخذ الأمور كلها بدعابة يجرّ أسرته معه في مغامراته البسيطة، وهي تتقبله كما هو، وكلما ازدادت حماقاته احتوته وأحبته أكثر. تعبيرها عن الحب لهذا الزوج والأب الذي أصبح ولدا كبيرا ضاعف منه إصابته بجلطة دماغية.

ما بين اختيار الأمكنة والممثلين.. تحديات ونجاحات

كان اختيار الممثلين من أفضل ما يكون، وإدارة المخرج لهم في فيلمه الروائي الطويل الأول هذا اتسمت بالدّقة، فكل تعبير في مكانه، وكان إيجاد الممثلين تحديا للمخرج كما قال في حوار ترويجي للفيلم، فمنذ البداية كان هناك ممثل في ذهنه، ثم بات جليا له بعد الانتهاء من كتابة نص الفيلم إنه ليس المؤهل للدور، وحين شاهد سمير قسيمي (وهو ممثل ومخرج في فيلم فرنسي) عرف على الفور بأنه هو المطلوب، وأما بالنسبة للمثلة لبنى زبال فهو يتابع أعمالها ويعرفها (مثّلت فيما لا يقل عن سبعين عملا سينمائيا وتلفزيونيا).

الممثل الفرنسي من أصول مغربية سمير قسيمي بدور فؤاد العامل الفني في مكتب البريد

وكان لاختيار الأمكنة في مدينة أصيلة الساحلية الجميلة وأبنيتها البيضاء أثره في إضفاء انفراج في المواقف المحزنة في فيلم بقي على الرغم منها محملا بالأمل والحب. وهو فيلم كان يمكن له أن يكون في أي مكان، لكن كان مهما للمخرج أن يحكي قصة والديه في المكان الذي حدثت فيه فعلا، في هذه المدينة التاريخية بأسوارها وتحصيناتها. لقد كان قرار التصوير هناك فوريا لأنه أراد نقل الصور الحقيقية لما حصل لأسرته هناك.

هذا المكان كان له تأثير كبير على المخرج الذي ولد في أصيلة، ويعتبر نفسه محظوظا لهذا بسبب انفتاح المدينة وإمكانية مقابلة زوّار كثيرين كانوا يأتون إليها من إسبانيا وألمانيا وأمريكا.

إنه فيلم عن الحبّ وكيف يمكنه أن يفتح الأبواب، حُب العائلة وحُب البشر.

كان مشروع فيلم “بين الأمواج” قد حصد عددا من الجوائز من منصة الجونة السينمائية، منها الجائزة الكبرى وأفضل فيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج، كما شهد عرضه العالمي الأول ضمن فعاليات مهرجان “تالين بلاك نايتس” في إستونيا، ونافس في مسابقة أفضل عمل أول، كما عرض في مهرجان مالمو للسينما العربية الذي نظم ما بين 4-9 مايو/ أيار 2022.