“أناطو”.. نداء للتعايش الحضاري على جسر الهوية والتاريخ

“مالاما نداني” شابة يافعة في مقتبل العمر، تعيش الحياة بكل عنفوانها بإحدى القبائل الأفريقية العميقة جنوب الصحراء، رغم الفقر والحاجة تُصر أن تتأقلم بشكل يومي مع كل المفاجآت، فقط لأنها أحبت الأرض والأهل والطبيعة والبراري.

“مالاما” أو هكذا يفضل الكثير من صويحباتها أن ينادينها “مالا”، تُدرك أنها في بلاد أنهكتها الأمراض والحروب وغدر الرجال، لكنها تؤمن بأن المستقبل سيكون أفضل بكثير، سواء بالهجرة إلى أوروبا أو الزواج أو الرحيل مع الحبيب المنتظر إلى بلاد ليس فيها أسقام ولا أحقاد ولا صراعات ولا ضباع.

“مالاما”.. عودة الراعية الصغيرة بعد يوم قائظ

تخرج الشابة اللطيفة “مالاما” كل يوم إلى السافانا لمساعدة والدتها في رعي قطيع من الأبقار الجائعة دون الخوف من مفترسات السهوب، تستمتع بالأحراش تحت ظلال أشجار ميتة، تداعب شقيقها صاحب الشعر الكث المتسخ، يتمرغان في التراب ويضحكان، ثم يلاحقان القطيع في كل الاتجاهات حتى لا يتيه.

في مساء يوم قائظ ومتعب للغاية تعود “مالا” وفي جرابها بعض الأشياء التافهة التي جمعتها من الغابة، لكن ما يسعدها هو جراب الماء الذي ملأته عسلا بعد أن وجدت مستعمرة نحل في جرف صخري عميق، فأكلت رفقة شقيقها حتى شبعت، وحملت معها الأحلى لتهديه لأبيها، وهو شيخ يبدأ في السعال كلما حل الليل وزادت الرطوبة.

فيلم “مالاما” الذي ينشط في الخيال في فضاءات أفريقية خصبة للإبداع، هو تعبير فني وفوّار عن الحب والطبيعة والهوية والتاريخ والقبيلة والتشبث بالتقاليد، مهما كانت الأحلام بضفة الفردوس ومهما كانت الإغراءات.

المخرجة المغربية فاطمة بوبكدي مع طاقم تصوير سلسلة “حديدان” بجبال الأطلس قرب ورزازات

تلك إذن هي أطياف فيلم سينمائي أفريقي تستلهم منه المخرجة المغربية فاطمة علي بوبكدي قصتها التي تحكيها بالصورة الجذابة بألوانها الأفريقية الساخنة للمتلقي، فيكون فيلمها الجديد “أناطو” (ANNATTO) رحلة سينمائية شاعرية توحي بالجمال والفرجة والانتشاء.

فاطمة بوبكدي.. سحر المخرجة المتعمقة في الهوية والتاريخ

فيلم “أناطو” هو من سيناريو فاطمة بوبكدي، وبطولة الممثلة السينغالية الشهيرة ميمونة نداي، وشاركت في التمثيل الممثلة المغربية القديرة سعاد خويي بطلة سلسلة “بنات العساس”، والممثل المغربي المقتدر صلاح الدين بن موسى وشيماء بلعسري ونيسيا بنغازي وعبد الله بنسعيد وآخرون.

المخرجة فاطمة بوبكدي مشهود لها في الساحة الفنية المغربية باشتغالها على المواضيع الغامضة نوعا ما ذات الصلة بالتاريخ وعادات القبائل في الأرياف والموروث والثقافة الشعبيتين، ورموز الهوية والمتن الحضاري القديم، فأعمالها السابقة وخاصة منها السلسلة التلفزيونية الشهيرة “رمانة وبرطال”، منحت فرجة راقية للمتلقي، وإن كانت موغلة في بلاغة الإبهام بمأثوراتها وأحجيتها الغرائبية.

كما تحاول بوبكدي من خلال اشتغالها على هذا النسق التاريخي إبراز خصوصيات الإنسان الأخلاقية واللغوية وطباعه التي تنحو إلى السلام وتقبل الآخر، رغم ما تخبئه الكثير من الشخوص من حيل ومكائد ومكر وخداع.

ظلال تلك الشخوص ظلت ترافق المخرجة في أحلامها مع السينما، وهو ما برز في عملها الجديد الذي لامس قيم الهوية والتاريخ والتراث والعيش المشترك في الزمان والمكان.

“أناطو”.. زورق يبحر في قضايا المرأة الأفريقية

فيلم “أناطو” هو تعبير عن التزام وموقف فكري وثقافي من المخرجة تجاه قضايا عدة تشتغل عليها، خاصة قضايا الهوية والتاريخ والمرأة المغربية والعربية والأفريقية، وأيضا هو أيضا موقف انتماء إلى الفضاء العربي والأفريقي، مع إبراز خصوصياته.

ميمونة ذات الجمال الساحر مشبعة بروح أفريقية قوية، فلا يمكن اعتبارها بطلة تعيش انفصام الشخصية، فهي ذات حية تعرف أن تركيبتها النفسية والجسدية مزدوجة، وبالتالي عليها التعايش وتقبل الآخر دون نظرة دونية، ودون استغلال.

فيلم “أناطو” هو هروب سينمائي فناتازي من براثن الاستغلال نحو الحرية

“أناطو” تكاد تتشابه مع “مالاما” صاحبة جراب العسل في العشق وحُب الأرض والتاريخ والهوية والبحث عن الحرية مهما كانت مكائد الوحوش، ورفض كل أشكال الاستغلال والاحتقار.

بهذا العمل تسلط المخرجة الضوء على قضايا إنسانية ومجتمعية تبرز فيها الكثير من خصوصيات المجتمع الأفريقي وما تعيشه المرأة، وما تحلم به، وما تعانيه بسبب التمييز العنصري والتحرش والاستغلال والعبودية.

صحيح أن المخرجة فاطمة بوبكدي قادمة من أعمال فانتازية وتراثية محلية، لعل من أبرزها “شمس القنديل” و”زهر مرشة” و”حديدان”، لكن فيلمها الجديد انفتح على العالمية، وذلك من خلال طرح قضايا ذات بُعد كوني وإنساني تكون فيه المرأة هي محور الفرجة المشتهاة.

اعتمادها على ممثلين من المغرب والسنغال وأيضا من فرنسا وبوركينا فاسو هو صورة حيّة على انفتاح المخرجة على تجارب سينمائية قارية، وأيضا على العالم، لكن بروح أفريقية وكونية.

الفيلم في مضمونه الجمالي تكريم للمرأة المحروسة، فتركيز الإخراج الفني للملصق الدعائي على “أناطو” الحزينة إلى جانب ممثلتين أخريين هو صورة معبرة عن اهتمام الفيلم بالمرأة، وإبراز لقدراتها وتضحياتها وأحلامها والتصدي للذل والمهانة.

رمزية الصورة.. كثافة المعنى السينمائي ترسم تعقيدات الفيلم

اسم فيلم “أناطو” مركب من لفظتين هما “آنا” (ANNA) و”تو” (TTO)، الأول اسم فرنسي والثاني سينغالي، ما يبرز رغبة المخرجة بشكل كبير في خلق نوع من التعايش الثنائي بين فضاءين وثقافتين أوروبية وأفريقية.

يبدو الفيلم منذ الوهلة الأولى معقدا إلى أبعد الحدود، ولا يمكن فهمه بسهولة أو تكوين فكرة سريعة عنه وعن مضمونه، وعن ما يريد أن يوصله إلى الجمهور مهما تعددت لغة الحوار والخطاب بين الشخوص. بهذا تضع المخرجة عاشقة التراث والأسطورة نفسها في لحظة تأمل عميقة أمام الجمهور البسيط، وليس الجمهور المثقف إن صحّ التعبير، أو أنها تريد أن توصل الفكرة المعقدة أصلا، لكنها لم تستطع أن توصلها بطريقة فنية كما هو معهود في أعمالها السابقة.

فضاءات الفيلم ساهمت في منحه مزيدا من العذوبة والضوء والشاعرية

فموضوع تعدد الهوية واختلاط الأفكار وتقبل الآخر والتعايش معه وفق ما يمليه المحيط والأعراف والعادات؛ قضية روحية وفلسفية، ومحاولة إثارتها في السينما والبحث عن الفرجة من داخلها مسألة صعبة للغاية، وتثير الكثير من الأسئلة.

تقنيا حاولت المخرجة أن تركز على الإيحاء ورمزية الصورة دون الإطالة في الحكي، وهو ما جعل الفيلم أكثر كثافة من ناحية المعنى، فكانت الصور عبارة عن علامات تمنح المتلقي فيضا من التشويق والتأويل، فالأجراس الليلية والإضاءات الباهتة في العتمة والحصان والعزف على القيثارة الأفريقية الموغلة في لحن الأسطورة، والتجديف في النهر باتجاه السعادة؛ كلها علامات لحب مفقود من وحي العبودية دون الغرق في متاهة الخديعة.

فضاءات الفيلم.. جمال المواقع السياحية يتسلل إلى نفس المتفرج

شكّل الفضاء في الفيلم مرتكزا أساسيا لإنتاج المعنى والفرجة بشكل عام، وهو ما أعطى للصور المتدفقة نوعا من القابلية لدى المتلقي، والتشويق والإبهار في كثير من الأحيان، وتلك إذن إحدى محركات العمل الفيلمي المتكامل.

تعددت محاسن وجماليات وقوة الفضاء في الفيلم من خلال عمليات التصوير التي انتقت عددا من الأماكن المدروسة سواء في السنغال أو في المغرب، خاصة بمدن بني ملال المدينة السياحية الجميلة، ومراكش التاريخية، وأزمور المشتهرة بنهرها الجذاب أم الربيع الذي ينبع من جبال الأطلس ويصب في المحيط الأطلسي.

كما شكلت بلدة سانت لويس بما تحتويه من مناظر طبيعية وأمكنة سياحية وتاريخية بالسنغال إحدى الفضاءات الرائعة التي ساهمت في منح هذا العمل مزيدا من العذوبة والضوء والشاعرية.

في ارتباط الفضاء بالزمان نستشف من الفيلم نوعا من تسلسل الأحداث والمشاهد بطريقة فيها كثير من التأثير على نفسية المتفرج، خاصة من خلال فيض من اللقطات الفجائية والمثيرة كلقطات سرير النوم والحمام.

الممثلة ميمونة نداي بطلة فيلم “أناطو”، والتي وُلدت لأب فرنسي وأم سنغالية

كل ذلك البناء الزمني للأحداث في أمكنة مختلفة أعطى للفيلم فيضا من الحركات والمشاهد المشوقة بإيقاعات فنية مختلفة، تركت للمتلقي حرية التأويل، وطرح السؤال حول ما الذي سيقع في النهاية من مفاجآت؟

“أناطو”.. قوة الشخصية المؤثرة على أبطال الفيلم

البنية النفسية لـ”أناطو” أعطت لهذه الشخصية نوعا من القوة والتأثير على باقي شخوص الفيلم، فضلا عن خلق نوع من الالتفاف على نيات وأحاسيس كل شخصية، سواء كانت نسائية أو ذكورية.

هذا المعطى تجسد في دور كل شخصية على حدة، وتفاعلها مع محيطها الداخلي والخارجي، فضلا عن الحالات النفسية للممثلين وعلاقتها بالآخرين، وأيضا من خلال أزيائها وحواراتها وقسمات ملامحها ومدى إنتاجها للفرجة والمتعة البصرية التي يبحث عنها الملتقي.

ليس الفيلم إلا رسالة فنية تحاول من خلالها المخرجة أن تكون متوازنة في منح الجمهور نصا سينمائيا قابلا للتأويل والفرجة وفق سياقات إبداعية مختلفة، انطلاقا من حبكة السيناريو ومختلف السياقات الفيلمية من حوار ومتتاليات ومضامين دلالية وسردية وإسقاطات اجتماعية وثقافية وحركات الكاميرا.

ميمونة نداي.. هوية مزدوجة تجسد محور التعقيد السينمائي

مهما حاولنا تفكيك الفيلم وفق شروط نقدية محكمة يبقى هذا العمل السينمائي نصا صعبا وغامضا، ومفتوحا على تعدد القراءات والتأويلات، لأن النص السينمائي في مجمله هو عملية إبداعية تخييلية تجريبية تطرح عدة أسئلة وتوجه كثيرا من الرسائل.

فهل النص السينمائي وفق رؤية المخرجة فاطمة بوبكدي موجه إلى جمهور نوعي قادر على تفكيك الخطاب السينمائي والصور والمشاهد انطلاقا من ثقافته العالمة والعميقة بالسينما، أم أنه نتاج واقع معيش، ولكل مخرج القدرة على تبسيطه إلى الجمهور؟

صورة تجمع السنغالية الفرنسية أناطو وزوجها التاجر المغربي

بطلة الفيلم ميمونة نداي هي محور هذا التعقيد السينمائي الذي طرحته المخرجة فاطمة بوبكدي، فقد وُلدت من أب فرنسي وأم سنغالية، وتعيش هذا الانقسام في الهوية والتاريخ والعادات والتقاليد.

شخصية “أناطو” ربما تريد أن تكون مختلفة تماما عن بنات جيلها وبنات جزيرة سان لويس السنغالية، لكنها في الوقت ذاته كانت منجذبة إلى ثقافتين؛ أوربية متحضرة وسنغالية أفريقية محافظة إن صح التعبير، وسيكون من الضروري عليها التعايش مع وضعها الجديد حين تتزوج بمغربي، وهو ما يعقد الأمر بشكل كبير.

أناطو الفرنسية وزوجها المغربي.. معركة التأقلم وتقبل الآخر

يتحدث الفيلم -كما أسلفنا- عن قصة وجدانية تعود أحداثها إلى الأربعينيات أو الثلاثينيات من القرن الماضي، حين كان الاستعمار الفرنسي منتشرا في القارة الأفريقية. كما يعالج قضايا شائعة في القارة السمراء، وهي قضية زواج المتعة وتعدد الزوجات واستغلال الرجل المتسلط للمرأة الأفريقية التي تظل مهضومة الحقوق، ومُجبرة على تحقيق نزوات الرجل دون مراعاة لمشاعرها وأحلامها.

ومن خلال العلاقة الغرامية بين المرأة السنغالية والرجل الفرنسي/ الأوروبي، ثم بين السنغالية الفرنسية “أناطو” وبين زوجها التاجر المغربي؛ تحاول المخرجة أن تعبر عن روح الانسجام والتعدد في الهوية والأعراق والعادات واللغات.

وتجد “أناطو” خلال زواجها بالمغربي نفسها مجبرة على التأقلم مع العالم وتقبل الآخر كزوجة ثانية تتلقى تعاملا قاسيا في بعض الأحيان، وهو ما يحاول أن يصلحه الزوج بكافة الوسائل الممكنة.

“أناطو”.. نداء للتعايش بين الأفارقة والأوروبيين

فيلم المخرجة فاطمة بوبكدي في جانب آخر ليس بريئا، فهو يطرح إشكالية أخرى تتعلق بقيم التعايش والتسامح والامتداد الحضاري والتاريخي الأفريقي الأوروبي، وأيضا الأفريقي من جنوب الصحراء مع بلدان شمال أفريقيا من خلال زوج “أناطو” التاجر المغربي.

وهناك مسألة أخرى يمكن استنباطها من خلال هذا التلاحم، وهي محاولة تكريس روح الوحدة الأفريقية سينمائيا، مع نبذ كل الخلافات بين البلدان الأفريقية، والتوجه نحو المستقبل لكسب الرهانات وترك الصراعات الهامشية جانبا.

فهل يمكن القول في هذا الجانب إن فيلم “أناطو” هو فيلم سياسي مغلف بفرجة سينمائية وجدانية يختفي وراءها كثير من الجراح والمآسي والانكسارات التي عاشتها وتعيشها المرأة الأفريقية بشكل عام؟

فيلم “أناطو” في مجمله نداء إلى الأفارقة والأوروبيين من أجل التعايش والتسامح، وبناء علاقات إنسانية جادة يكون قوامها الحب والاحترام المتبادل، والتعاون المتين بدون تحقير ولا استغلال.

“أناطو” باختصار إشراقة سينمائية مغربية أفريقية تتوخى طرح الكثير من القضايا المحورية والمنطقية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة والحب والمرأة والرجل، وقيم التعايش ونبذ التطرف وتكريم المرأة. وهو أيضا ملمح سينمائي يلامس قيم الهوية، ويكرم الرموز والتقاليد والتاريخ، وينتصر لأحلام المرأة الأفريقية ولرموز طقوسها وعاداتها وتقاليدها التي تزين عنق ميمونة نداي بجواهر أفريقية ثمينة لا تقدر بثمن.