“الصعود”.. أحلام الإمبراطورية التجارية ترهق أكتاف العمال الصينيين

يقدم لنا فيلم “الصعود” (Ascersion) صورة لم يكن لأحد أن يتخيلها من قبل عن الصين، فصورة الصين الجديدة الحالية لا صلة لها بكل ما عرفناه من قبل، إنها الصين الشيوعية التي يعيش شعبها حياة خشنة، يعملون في المزارع الجماعية، ويرتدون الملابس الشعبية البسيطة المتشابهة، فالصين هنا هي الصين الجديدة العصرية التي يشغلها تحديث أدوات الإنتاج والمنافسة الشرسة على الأسواق العالمية مع القوى الاقتصادية الكبرى.

ومع كل هذا نزوع أقرب إلى الهوس بالإنتاج وتطوير الإنتاج ومحاكاة الأنماط الغربية، ليس فقط في تصميم السلع وإخضاعها للمقاييس الغربية حتى يمكنها المنافسة، بل فيما يرتديه العاملون والعاملات من ملابس، مع تصفيفات الشعر الغربية والاستماع للموسيقى الغربية، وكلها أشياء كانت محظورة حتى عهد قريب في الصين، فما تأثير هذا كله على الناس وعلى العاملين أنفسهم، وهل حقق هذا الحلم الصيني الرخاء للمجتمع، أم أنه خلق طبقة تتمتع بالثراء على حساب العمال البؤساء، وبالتالي زادت الفوارق الطبقية بما يخالف كل تعاليم الماركسية التي ما زالت تحكم الصين رسميا كاختيار سياسي؟

التجريب في الصور.. الأسلوب الأمثل لنقل تناقضات الصين

لا تستخدم مخرجة الفيلم التعليق الصوتي لتوصيل رسالة مباشرة، فهي لا تقحم نفسها أو تتدخل فيما نشاهده على الشاشة، بل ترصد وتراقب بمنتهى الذكاء والفطنة، بحيث تصبح الصورة وتناقضاتها -بل وعبثيتها أيضا- هي التي تفرض نفسها على الفيلم، ومن هنا يصبح ما يصل إلينا هو تأثير مثل هذا التحديث والتطويع للآلية الإنتاجية الضخمة على العمال أنفسهم، من الناحية النفسية ومن الناحية الاجتماعية، لنلمس كيف أصبحت هناك منظومة جديدة لا شك أنها فرضت نفسها على الجميع، سواء في علاقتهم برؤسائهم في العمل، أو في العلاقة فيما بينهم.

لم تكن المخرجة الأمريكية ذات الأصل الصيني “جيسيكا كنغدون” تحلم بأن يصبح أول أفلامها عملا يُتوّج بكل هذا النجاح، وأن يصل أيضا إلى ترشيحات الأوسكار النهائية ضمن قائمة أفضل فيلم وثائقي طويل، ثم يلقى كل ما يلقاه الآن من اهتمام من جانب جمهور الشباب في العالم.

ولعل أكثر ما يلفت النظر في هذا الفيلم هو جنوح مخرجته نحو التجريب في الصور، واستنباط شكل جمالي خلّاب للفيلم مع شريط صوت موسيقي مُعبّر يصاحب الصور. ورغم طابعه التجريبي، تظل للصور المتعاقبة جاذبيتها ورونقها وسحرها.

كما تستخدم نوعا من المونتاج الذهني يجعل اللقطات تحمل مغزى يتجاوز مغزاها المباشر السطحي، وهي تنتقل بسلاسة بين فصول الفيلم التي تدور في أماكن عمل مختلفة، بحيث تمنحنا صورة بانورامية لما يجري على صعيد سوق الإنتاج في الصين اليوم، وبالتالي يتمتع الفيلم بروح المعاصرة والجرأة في تصوير ما يُعد محظورا ووضعه في سياق مناقض تماما للسياق الدعائي الذي تتوقعه السلطات.

“يمكنكم اختيار العمل الذي تريدونه”.. فخ سوق العمال

يذكرنا المشهد الأول في الفيلم كثيرا بما يعرف بسوق الرجال في مصر تحديدا، أو بالأحرى سوق العمال، فنحن في منطقة شركات ومصانع بإحدى المدن الصينية يمكننا أن نلمح على الجدران في خلفية الصورة عبارات كثيرة موجزها أن “العمل الشاق يضمن مستوى معيشة مرتفع”، وأن “الحلم سيتحقق”.

الهوس بالإنتاج من أجل المنافسة يخلق واقعا عبثيا يجعل من الناس مجرد مستهلكين

هناك تجمّع من الفتيات والشباب، أصوات نداءات تأتي عبر مكبرات الصوت، صوت رجل ثم امرأة، إعلان عن السلعة، والسلعة التي يرغبون في بيعها هي وظائف جديدة متوفرة في شركة أجنبية أو صينية، وظائف -كما يقول الرجل- تضمن الجلوس، أي لا تقتضي من العامل الوقوف على قدميه طول النهار، و”نحن نوفر السكن والطعام، ولا ضرورة لإجراء اختبارات صحية، 20 يوانا (أي 2.99 دولار) في الساعة”.

يظهر رجل وسط حشد الشباب يحمل مكبر الصوت في يده ويخاطبهم قائلا: “يمكنكم اختيار العمل الذي تريدونه”. وعلى الجانب الآخر تقبض امرأة على الميكروفون وتقول “السكن يبعد مسيرة 3 دقائق عن المصنع، وكل 4 أفراد في غرفة مكيفة الهواء”، ثم تستدرك “من 4 إلى 6 أفراد، ليس أكثر من 8 أفراد”. ثم يقف رجل آخر يقول من دون مكبر صوت قائلا “تعالوا هنا لن تجدوا عملا أسهل من هذا، لا يوجد اختبار عضلي أو تجربة، ستقومون بالتعبئة وأنتم جالسون”.

هكذا تستمر النداءات والمضاربات والمنافسات في شروط العمل والأجور، في مشهد يلخص ببراعة الوضع الحالي في سوق العمل، حيث التنافس على جذب العمال، وتباين أنواع العمل والمصانع والشركات، واختلاف الظروف والشروط، والعامل هنا مطلوب منه أن يبيع قوة عمله مقابل أجر زهيد، وهذا هو سر رخص البضائع والمنتجات الصينية مقارنة بمثيلاتها في الغرب، وذلك بسبب رخص الأيدي العاملة كما هو معروف.

“الحلم الصيني.. ابذل جهدا في العمل تتحقق كل أمنياتك”

مرة أخرى عند تقاطع طرق كبير، تعبر الطريق فتيات وشباب يرتدون جميعا الملابس العصرية الأوروبية، وعلى الجدران تطالعنا شعارات مثل “الشعور بالقيمة”، “الحلم الصيني.. ابذل جهدا في العمل تتحقق كل أمنياتك”، “كن متحضرا، واضرب مثلا جيدا”.

هذه الشعارات تمتد وتظهر بين وقت وآخر كتعليق مستتر على فكرة زرع الحلم الصيني في أذهان الفقراء في الأحياء الهامشية، وأمام شاحنة تنقل عددا من الدراجات تقف كاميرا “جيسيكا كنغدون” تراقب العامل الذي يحمل الدراجات واحدة بعد أخرى، ويناولها لزميله الذي يقف أعلى الشاحنة. من أين جاءت كل هذه الدراجات الملقاة على أحد جانبي الطريق؟

لا نعرف، فهي لم تخرج من مصنع، لكنها دراجات جديدة. وفي اللقطة التالية نلمح أكواما أخرى هائلة لا يمكن حصرها لدراجات مصبوغة باللون الأزرق، ثم تصعد الكاميرا وترتفع تدريجيا ببطء إلى أعلى، بحيث نشاهد صفوف وخطوط الدراجات الزرقاء الراقدة على الأرض وقد تداخلت معا، وشكلت لوحة سريالية شديدة الغرابة، كأنها مزروعة في تلك البقعة من الأرض.

تنتقل الكاميرا من مكان إلى آخر من خلال اختيار شديد الدلالة لتلك الأماكن، وكلها أماكن للعمل وأحيانا أيضا للهو والسهر، أي أنها تنتقل بين طبقة العمال الكادحين وبين الطبقة الجديدة من بيروقراطية المصانع والشركات.

غداء المدير.. رشوة تضمن البقاء في العمل

داخل أحد مصانع الحشوات التي توضع داخل الأحذية يدور حوار طريف بين عاملتين تضعان الكمامة على الوجه:

– لا يهم أن تقولي كم يوما عملتِ، فكلام المدير هو المهم، والمدير هو الذي سيحدد لكِ ما سيدفعونه لك.

–       مدير المصنع؟

–       وما هي وظيفة مدير المصنع أكثر من ذلك.

–       إنه شيء صغير.

–       ماذا تقصدين بشيء صغير؟ إنه الرئيس، لماذا لا تشترين طعام الغداء للرئيس؟

–       أشتري له بعد أن أحصل على أجري، لا أريد أن أشتري له شيئا، هل تقصدين أنني إن لم أدفع له (ثمن الوجبة) لن يبقيني في العمل هنا؟

–       إننا نتنافس جميعا على شراء وجبة الغداء له لكي “يضم لنا بعض الخيوط” (تقصد يسهل لنا الأمور). يجب أن تفتحي بابا خلفيا، وعلى لقطة قريبة لأحد أنوال النسيج تقول لها زميلتها: أنت تجيدين ضم الخيوط.

التصوير الذاتي وسيلة للهروب من الواقع والدخول لعالم الافتراض

ننتقل إلى قسم آخر في المصنع لصنع سراويل الجينز، ويكشف حديث العاملات أنهن يعملن بالقطعة، أي أن الأجر يُحسب على أساس عدد قطع السراويل التي يقمن بصنعها يوميا، ومعروف أن العمل بالقطعة هو أدنى أنواع العمل، وينتمي إلى القرن التاسع عشر، وقد سخر منه “تشارلي تشابلن” في فيلمه الشهير “الأزمنة الحديثة” (Modern Times) عندما صور نفسه والآلة تكاد تبتلعه، وهو يحرص على الاستمرار في تكرار نفس العمل بشكل سريع للغاية، لكي ينتج أكبر كمية.

ولعل من مزايا الفيلم أن هذه الحوارات التي ستتكرر في أجزائه المختلفة تأتي تلقائية تماما، ومن الطريف أيضا أنه بينما يجري العمل بطريقة يدوية أساسا مع مساعدة محدودة من الآلات البسيطة، فإن النقوش والرسوم والكلمات توضع باللغة الإنجليزية على الملابس بواسطة آلات رقمية متقدمة للغاية، فالمقصود أن تضاهي السلعة في النهاية مثيلاتها في الأسواق الأمريكية، أو أن تصبح ملائمة لهذه الأسواق.

مصنع الدمى.. بديل للنساء تصنعه النساء على الطلب

في أحد أكثر مشاهد الفيلم طرافة وغرابة تتسلل الكاميرا داخل مصنع لدمى الفتيات المثيرة جنسيا المصنوعة من السيليكون، والتي يستخدمها بعض الرجال في الغرب كبديل للرفقة مع المرأة. تتوقف الكاميرا أمام العمال ومعظمهم من الفتيات، وكل منهن تقوم بدور في مراحل صناعة هذه النماذج من الصفر إلى أن تصبح مماثلة تماما للتركيبة، أو للنموذج المثير جنسيا المطلوب في الغرب، حيث الشعر والجسد والعيون، وكل نموذج يصنع أيضا حسب طلب الزبون الذي يطلب مواصفات دقيقة محددة يرغب في توفرها في الدمية الجنسية التي سيشتريها.

ورغم أن الفتيات هن اللاتي يقمن بصنع وضبط كل تفاصيل هذه الدمى، إلا أنهم يمارسن عملهن بمنتهى البرود وعدم المبالاة، حتى عندما يتعاملن مع أدق الأجزاء وأكثرها حساسية في أجساد تلك الدمى. والأكثر مدعاة للدهشة هو أن هذ النوع من السلع الاستهلاكية تحديدا، ليس من الممكن تخيل أنه يمكن أن يُباع ويشترى داخل السوق الصينية أصلا، فالتقاليد الصينية تقف ضده، كما أن قوانين السوق التي لا تزال تتمتع بغطاء من الفكر الشيوعي تحظره، باعتباره رمزا للتدهور في المجتمع الرأسمالي الغربي، لكن الصين لا تمانع من إغراق أسواق العالم الرأسمالي بهذا النوع من السلع، طالما أنها ستجني من ورائه أرباحا وستتوسع في الإنتاج والتصدير.

في مصنع آخر مثلا نرى كيف يصنعون قبعات مكتوب عليها “ليبارك الرب أمريكا”، وذلك لتلبية رغبة السوق الأمريكية، وفكرة المنافسة مع أمريكا والتفوق عليها تتردد كثيرا في الفيلم.

الفكر الصيني.. سقوط جدار الصد الأخير ضد تغول الغرب

لعل إحدى الأفكار الأساسية في الفيلم هي تأثير الهوس بالمنافسة الخارجية على الفكر الصيني التقليدي وعلى القيم الصينية، فنحن نشاهد على سبيل المثال تدريب الفتيات والفتية على اتباع وسائل الإتيكيت أو الطرق الغربية المهذبة في خدمة الزبائن عند تقديم الطعام في المطاعم إلى علية القوم.

مشهد وضع اللمسات الأخيرة على الدمى الجنسية يكثف حالة الاغتراب بين العاملة والسلعة

 

فمع نمو الإنتاج على نحو ما شهدت الصين تنامى أيضا الاستهلاك، وكثرت المطاعم المخصصة لخدمة طبقة المديرين وكبار البيروقراطيين الذين يديرون المصانع والشركات الجديدة، وخصوصا المتخصصين في التكنولوجيا الرقمية الحديثة، فهؤلاء كما نرى يميلون إلى محاكاة أمثالهم في الغرب، حيث الملابس الغربية، واستخدام الشوكة والسكين في تناول الطعام، وشرب الخمر في الكؤوس الغربية، وغير ذلك. والمدربة تكرر على الجميع ضرورة قبول الإهانة أحيانا، سواء من الزبائن أو من المديرين دون إبداء أي اعتراض.

وفي مشهد آخر نشاهد ما يشبه ورشة تدريبية على إدارة أعمال الشركات والترويج للسلع، أي تدريب الفتيات والشباب على الإدارة، فالمدربة امرأة، وهي تسألهم لماذا أتيتم إلى حصتي رغم أن سعر الدرس مرتفع كثيرا؟ لأنكم من المغرمين؟

لدي كثير من المغرمين بما أفعل، ويجب أن يكون لديكم جميعا معجبون موالون لكم لكي تنجحوا، وستصبح حياتكم أفضل، يجب أن يصبح كل منكم “رئيس عمل يتصف بالنجومية”، “رئيس نجم”، يجب أن تعرفوا كيف تجنون المال من سلعتكم المفضلة، فالمعرفة يجب أن تستخدم في جني المال، حيث تتوفر المعرفة اليوم كثيرا، لكن حتى لو استطعتم حفظ 300 قصيدة صينية فلا فائدة ترجى إن لم تعرفوا كيف تجنون منها المال.

تجسيد الفارق الطبقي.. تلقين رأسمالي بتشجيع رسمي

تتردد الأفكار الرأسمالية في الفيلم أمام الكاميرا في سياق طبيعي تماما وغير مفروض، بل في مناخ يسوده الود والمرح بين جميع الحاضرين، وهو أيضا مقبول سواء من السلطات التي من الواضح أنها تشجع هذا النوع من التلقين الرأسمالي، أو من الشباب المتطلع إلى بدء حياة عملية في مهن يمكنها أن تحقق لهم الصعود الاجتماعي.

ولا يغيب عن مخرجة العمل طيلة الوقت تجسيد الفارق الطبقي بين العمال وطبقة المديرين أحيانا بشكل مباشر، في مشهد مواجهة مثلا بين مجموعة من المتدربين على القيام بأعمال الحراسة في تدريبات عسكرية شاقة، وبين خمسة من مديري المشروع الذين سيعملون فيه. الفارق في المظهر والمنظر والملبس والسلوك واضح، مع تجسيد فكرة الخضوع المطلق ضمانا للصعود.

وفي مشهد آخر نرى عارضة مع زميلها المصور يصورها في حديقة عامة، ويطلب منها اتخاذ أوضاع معينة للتصوير إلى أن تضجر وتشكو من ارتفاع الحرارة بشدة، وترفض استكمال التصوير، بينما نلمح على الجانب الآخر من الحديقة عاملا يشقى في صبر، وهو يقوم بتنسيق الزهور تحت حرارة الشمس القاسية.

“لا أرى سوى الحطام في كل مكان”.. دلالات شعرية

قامت المخرجة “جيسيكا كنغدون” بتصوير فيلمها المكون من مشاهد متفرقة في نسيج متقن في نحو 50 موقعا من مواقع العمل، وهي تفتتح فيلمها وتختتمه بأبيات ذات مغزى من قصيدة كتبها جدها عام 1912 بعد سقوط النظام الإقطاعي القديم في الصين ونهاية الإمبراطورية وتأسيس الجمهورية.

تقول الأبيات التي تظهر في بداية الفيلم “ناولني سيفي، إنني أصعد البرج، أتطلع عن بعد، آملا أن أعالج ما يقلقني، البرج مرتفع كثيرا يصعب تسلقه، لكن قلقي يزداد”.

وفي نهاية الفيلم نقرأ هذين البيتين من القصيدة:

“إنني أصعد وأتطلع عن بعد بقلب صافٍ، لكني لا أرى سوى الحطام في كل مكان”. والمعنى المقصود هو أن الصعود والرغبة الشرسة في الصعود لا يحققان السعادة المنشودة بالضرورة، بل قد يعقب الصعود هبوط وانهيار، وهي رسالة تحذير واضحة من عواقب السعي المحموم نحو المنافسة.

فيلم “الصعود” تجربة مثيرة للعين وللعقل، عمل شديد الإتقان والحرفية، والأفلام صنعت في الأساس لكي تُشاهَد، ويمكننا الإحساس بقيمتها ورونقها.