“شيلي في بلاد العجائب”.. عجوز أمريكية تبحث عن حلم مؤجل في مسابقة الجمال

“انظروا إلي، أنا في مقتبل الحياة، وأستمتع بكل لحظة فيها”. هكذا صرخت إحدى السيدات بمرح في بهو الفندق الأمريكي، غير أن هذه السيدة لم تكن في شرخ الشباب، فهي سوف تكشف بنفسها بأنها بلغت 78 عاما، لكن هذا الرقم لا يخيفها حال زميلاتها اللواتي كن في مدينة لاس فيغاس الأمريكية للاشتراك في مسابقة للجمال مثيرة للجدل، إذ تقتصر المشاركة على النساء اللواتي تجاوزن الستين من العمر.

يهتم الفيلم الوثائقي “شيلي في بلاد العجائب” (Shelley in Wonderland) للمخرجة الهولندية “صوفي دروس” ببطلته “شيلي”، وهي أمريكية تبلغ من العمر 63 عاما، ويرافقها الفيلم منذ لحظة وصولها إلى الفندق في لاس فيغاس، وحتى وقت المسابقة وتوزيع الجوائز وعودتها إلى بلدتها الصغيرة، ويسجل المكالمة الهاتفية التي أجرتها مع صديق لها لتعلمه بما آل إليه أمر الجوائز وأمرها.

تنفذ المخرجة في فيلمها إلى طبقة أعمق بكثير من قشرة مسابقة الجمال التي يبدو أن العمل الوثائقي يدور حولها، فهي مسابقة ربما تبدو لكثيرين تجارية محضة، ومحاولة قانطة للمشتركات للتشبث بجمال وشباب غابرين، لكن المخرجة تحول الفيلم إلى دراسة معبرة وعاطفية عن “شيلي” الشخصية الرئيسية، حيث تأخذ الفيلم إلى مساحات الكشف النسائي، وتظهر الجروح النفسية التي تركتها الحياة بالمشتركات، وبالخصوص “شيلي”.

 

“أنت ملكة جمال أريزونا؟”.. مسابقة المدينة التي لا تنام

بدا الارتباك واضحا على “شيلي” عندما وصلت إلى الفندق الذي ستمكث فيه لبضعة أيام للمشاركة في مسابقة الجمال، فالمرأة الخجولة بطبعها كانت مترهبة من التجربة والعالم الذين كانت على وشك الدخول إليهما، بيد أن بعض هذا الارتباك سيزول عندما تجد عشرات من النساء مثلها كن في الفندق وباحاته الواسعة للهدف ذاته.

يفتتح الفيلم زمنه بمونتاج للحياة الهادئة التي كانت تعيش فيها “شيلي”، إذ تصورها كاميرا الفيلم في يوم سفرها إلى لاس فيغاس المدينة الصاخبة التي لا تنام، حيث ينظم أحد فنادقها مسابقة الجمال للنساء اللواتي تجاوزن الستين.

تبقى المخرجة قريبة كثيرا من شخصيتها، ليس فقط على صعيد نقل هواجس المرأة ومخاوفها وبوحها، بل ستكون الكاميرا قريبة مكانيا من الشخصية، وتكتشف معها العالم الجديد الذي وصلت إليه في لاس فيغاس. هناك مثلا كثير من المشاهد تسير فيها الكاميرا خلف الشخصية، لنرى -نحن المشاهدين- ما تراه الشخصية للمرة الأولى.

مشاركة عجوز تحتفل وترقص وتحاول الفوز بجائزة ملكة الجمال

 

“أنت ملكة جمال أريزونا؟ هذا شيء مبهر”. تتحدث “شيلي” بودّية كبيرة لامرأة صادفتها في بهو الفندق، فقد كان من السهل التعرف على المشتركات في المسابقة، إذ كن يلبسن تيجان الملكات، ويرتدين على صدورهن أسماء المدن أو الولايات التي أتين منها، وهو ما تفعله “شيلي” نفسها، إذ تضع تاج المدينة الأمريكية التي ستمثلها في مسابقة الجمال.

“سلّي نفسك بهذا”.. عودة لنبش مواسم الحزن الثلاثة

يعود الفيلم في ثلاثة مواضع من زمنه إلى ماضي “شيلي” ويستعيده بأسلوب مرهف، وذلك بالاستعانة بصور فوتوغرافية قديمة لها، بينما تروي هي نفسها محطات من حياتها التي كانت صعبة كثيرا.

تسترجع “شيلي” واحدا من الأزمان المفصلية في حياتها، فقد تركت البيت عندما بلغت عامها السادس عشر، وذهبت إلى المدينة للعمل هناك، وتتعرف على زوجها الأول عندما كانت في عامها الثالث والعشرين، وسيتزوجان في العام نفسه. يكشف الزوج منذ بداية زواجهما بأنه يريدها أن تكون زوجة وأُمّا فقط، وبأن عليها أن تنسى كل أحلامها الأخرى.

تضحك “شيلي” وهي تستعيد سنة حياتها الأولى مع زوجها، وتقول: عندما أعطاني زوجي عدة للحياكة، وقال لي سلّي نفسك بهذا، عرفت أن هناك مشكلة.

شيلي بطلة الفيلم تزهو مرحا بمساحيق التجميل التي أعادت لها رونق الشباب

عبر المونتاج السريع وتعليقات “شيلي” الصوتية نعرف أنها أنجبت أربعة أبناء سنرى صورهم في مراحل مختلفة من أعمارهم، لكن هذه الحياة لم تكن التي تنشدها “شيلي”، وسيقود هذا بالنهاية إلى طلاقها.

لم يختلف الزواج الثاني عن الأول فيما عدا أنه كان صعبا على الصعيد المادي، فالزوج الثاني خدعها عندما وصف وضعه المالي، لتكتشف بعدها أنه يعيش الفقر، وبأن عليها أن تعمل لتعيل أطفالها الأربعة من زوجها الأول، والأطفال الأربعة الآخرين الذين ولدوا من الزواج الثاني.

صوفي دروص مخرجة الفيلم الوثائقي “شيلي في بلاد العجائب”

أما الزواج الثالث الذي كان مع “حُب حياتها” كما وصفته، فقد انتهى على نحو أكثر مأساوية، فبعد حب عاصف وسنة سعيدة من الزواج؛ تكتشف أن زوجها مدمن مخدرات، وكان قرار الابتعاد عنه هو الحل الوحيد لحماية نفسها وعائلتها، رغم الألم الكبير الذي ما زالت تحمله، إذ أنها تفتقد الرجل الذي تعرفت عليه وأحبته.

“أنا عندي حلم”.. أغنية متهكمة تُجسّد خيبات أمل

تفصل ما بين الاستعادات الثلاث لماضي “شيلي” عودة إلى يوميات مسابقة الجمال التي ستطول أسبوعا كاملا، وتتوزع بين التدريبات على عروض فنية تقدمها المشتركات، كما هو الحال مع مسابقات الجمال الأخرى، إذ يجب أن تملك المتسابقات مواهب أخرى إضافة إلى جمالهن.

تملك “شيلي” صوتا جميلا، ولها موهبة في الغناء، وهذا سيكون المجال الذي ستنافس فيه في المسابقة. يسجل الفيلم التدريبات الأولى التي كانت شاقة عليها، إذ أنها عانت في السابق من مرض في حبالها الصوتية أثر كثيرا على قدرتها في الغناء.

ستكون أغنية “أنا عندي حلم” هي أغنية “شيلي” في المسابقة، وتمثل تعبيرا متهكما عن خيبات الأمل التي مرت بها في حياتها، قبل أن تصل إلى تلك المنصة على أحد مسارح لاس فيغاس.

تسلل المخرجة.. عدسة تقتحم عالم النساء الخاص

يسجل الفيلم كثيرا من التفاصيل الحميمة للمشتركات، ويقترب من واحدة منهن، لتروي فصلا صعبا من حياتها الزوجية، بينما يبدو التقبل والحكمة باديين على كثير من النساء المتنافسات، حتى أن فعل الاشتراك في المسابقة نفسه هو رد فعل على حالة التجاهل التي يعيشها كثير من النساء بعد بلوغهن سنا معينا، كما عبرت إحدى المشتركات.

ملصق الفيلم تظهر فيه المتنافسات على لقب ملكة الجمال وتتوسطهم شيلي

ورغم البساطة الظاهرة في الفيلم، فإنه يجرب على صعيد الأسلوب الفني عبر اختيار التصوير على شاكلة أفلام السبعينيات من القرن الماضي، خاصة المشاهد التي صوّرت الحياة الداخلية للفندق والشوارع في مدينة لاس فيغاس، وقد بدت حالمة كثيرا وبعيدة عن الصورة المبالغ في دقتها وجودتها الشكليّة التي تسود اليوم.

لعل جنس المخرجة فتح لها الأبواب للدخول في العالم النسوي بالكامل للمسابقة، وهذا كان باديا في مشاهد وتفصيلات متعددة، مثل تلك التي صورتهن وهن يستعددن ليوم المسابقة، أو تلك التي تسجل تدريباتهن على الغناء أو الرقص، وتكشف خوفهن وترددهن.

لاس فيغاس.. خاتمة تزيل قناع المدينة الصناعية

يصل الفيلم إلى خاتمة مؤثرة على الصعيد الشكلي، إذ يصور بمشاهد مقربة مبتكرة وجه “شيلي” وهي تغني أغنيتها التي بدت هذه المرة خالية من المرارة، والمشاهد الجميلة الأخرى لها وهي تنتظر قرار لجنة التحكيم لإعلان الفائز.

هذا هو الفيلم الوثائقي الثاني للمخرجة الهولندية، وتركز فيه على شخصيات وأحداث تبدو غريبة وفاقعة من الخارج، بعد فيلمها “ملك السفينة” (King of the Cruise) الذي يرافق رجلا ثريا جدا -أو هكذا ادعى في الفيلم- وهو يتنقل على باخرة سياحية للأثرياء، وقد تحولت إلى جزء من تفاصيل حياته اليومية، إذ ينتقل من رحلة سياحية إلى أخرى، ربما هربا من واقع يعجز على مواجهته.

تبحث المخرجة في أعمالها عن جذور إنسانية للظواهر غير المفهومة لكثيرين، فهي تزيل أقنعة مدينة لاس فيغاس الصناعية في فيلمها “شيلي في بلاد العجائب”، وتصل إلى جوهر إنساني مؤثر كثيرا، فنحن جميعا آتون من مكان ما، ونخوض جميعا صراعاتنا الخاصة مع الحياة، كما هو الحال مع “شيلي”.