“سبنسر”.. تراجيديا الأميرة ديانا الرافضة لحياة القصر الملكي

خالد عبد العزيز

في إحدى ليالي بدايات التسعينيات شعرت الأميرة ديانا بأعراض جوع مفاجئ دفعها للمثول بين حضرة الصنوف المختلفة للأطعمة الملكية. لم تكن هذه المرة الأولى التي ينتابها هذا الإحساس الجارف بالجوع، فقد تكررت هذه الحالات، لكنها لاحظت شيئا ما، وهو أن هذه المشاعر لا تُهاجمها إلا بعد عقبة أو مشكلة ما مع زوجها الأمير “تشارلز”، فقد شُخصت الأميرة الشهيرة بمرض “البلوليميا” (الشره المرضي العصبي) الذي وضعها تحت طائلة الاكتئاب الحاد.

هذا ما يقتحمه بجرأة الفيلم الأمريكي “سبنسر” (Spencer) الذي أنتج عام 2021، وعُرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ78 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عن سيناريو من كتابة “ستيفن نايت”، وإخراج فنان السينما المخرج التشيلي “بابلو لاراين”.

 

التناول الفني للسير الذاتية للمشاهير دوما ما يُصاحبه الكثير من الجدل، والسبب يعود إلى كيفية المعالجة الدرامية للشخصية محل العرض. وفي فيلمنا هذا يبدو أننا أمام حكاية شائكة لأسباب عدة، أهمها أن شخصية الأميرة ديانا ما زالت ماثلة في الأذهان، ومريدوها ومحبوها لا يزالون يدورون في فلك ذكراها، أما الشق الآخر فهو الجانب التاريخي والسياسي للعلاقة بين الأميرة الراحلة والأسرة المالكة البريطانية.

لقد بدا الفيلم مهموما بالتعبير عن مأساة ديانا بشقيها التاريخي والإنساني، فهو يقول ما لا يُمكن قوله، حيث يقتحم المحظور في العلاقة بين الأميرة والقصر الملكي، وفي هذا الإطار يبدو الفيلم يحمل إدانة صريحة للعائلة المالكة، فالفن أبعد ما يكون عن الحيادية، لكنه في الوقت نفسه يُقدم وجهة النظر الأخرى، أو يسعى على الأقل إلى كشف المستور.

الحرية والعبودية.. ثنائية الأميرة الرافضة

يبدأ الفيلم بجملة اعتراضية يأتي فيها أن أحداث الفيلم عبارة عن حكاية مبنية على مأساة حقيقية، وهذا اتفاق ضمني مع المتفرج بأن ما يراه على الشاشة ليس سوى محض حكاية، حتى وإن تلاقت أفكارها مع الواقع، وبالتالي ينزع المخرج تهمة تلفيق القصة عن نفسه.

ثم ننتقل لعدة مشاهد “فوتومونتاج” بمصاحبة الموسيقى التصويرية، نرى خلالها عبر المونتاج المتوازي وصول قوة عسكرية مسؤولة عن إعداد طعام العائلة الملكية، في حين تواصل الأميرة ديانا (تقوم بالدور الممثلة الأمريكية كريستين ستيوارت) قيادتها لسيارتها حتى وصولها إلى القصر.

ديانا تقف أمام زوجها الأمير تشارلز الذي تتسبب مشاكلهما لها في الاكتئاب الحاد

 

بداية صريحة للحكي بدون تمهيد مسبق، تُدخلنا رأسا في صُلب الحكاية التي تكشف بين طياتها عن عالمين كل منهما يتضاد مع الآخر ويتقاطع معه، وعندها تندفع عجلة السرد إلى الأمام كاشفة عن المزيد من الأحداث الدرامية.

فالعالم الأول يُمكن حصره في إطار القصر الملكي والحاشية المعاونة، وما يرافق هؤلاء من قواعد وأساليب معيشية صارمة قد تبدو من الخارج ذات بريق خاطف، لكن مع المضي فيه يتكشف عكس ذلك، وأن هذا الأسلوب ما هو إلا موت بالإيقاع البطيء.

ففي المشاهد الأولى نرى الفرقة العسكرية المسؤولة عن تجهيز الولائم الملكية تفتح صناديق الطعام التي هي بالأصل صناديق أسلحة ومعدات عسكرية، وذلك في إشارة لمدى الصرامة الملكية في التعامل مع حدث ولو ترفيهي مثل أعياد الميلاد.

في مقابل هذا العالم الذي يُزيح الستار عن قبضته الحديدية شيئا فشيئا يأتي العالم الآخر مُغايرا له، حيث الأميرة ديانا وأسلوب حياتها الرافض للمعيشة الملكية الصارمة، مثلما نراها في أحد المشاهد تسخر من التقاليد الملكية المتوارثة في تدفئة القصر بعد إدراكها لإحساس ابنها “هاري” بالبرودة، فهي ترى في نفسها أنها لا تنتمي لهذا العالم الغريب عنها، ومن ثم تُقاومه بكل قوة للانسلاخ بعيدا عنه.

وقد رسم السيناريو عالمهما موسوما بالحرية، في مقابل العبودية الملكية حيث الأوامر والنواهي، لكنها ترغب في الاستمتاع بحياتها دون أي قيود أو عوائق.

الأميرة ديانا وأسلوب حياتها الرافض للمعيشة الملكية الصارمة

 

وحينما ترفض ديانا هذه القيود ينشأ الاحتكاك المتوقع مع الملكة أو زوجها، وهنا تتطور البنية السردية عبر تضاد العوالم، حيث الحرية في مقابل العبودية، ومن ثم يُحدث هذا الاختلاف تطورات على مستوى الشخصية ذاتها.

ضغط الواقع.. عالم حقيقي وآخر متخيل

تزداد الضغوط على ديانا لتجد نفسها في عالم مغاير عن المألوف لديها، حينها يُصبح العالم المحيط بها خانقا يكاد يُقبض على رقبتها، ويدفعها نحو هاوية محتملة. عند هذه النقطة يخلق اللاوعي عندها عالما موازيا، فقد نسج السيناريو خطا سرديا موازيا للخط التقليدي الواقعي، حيث تدور الأحداث بين رحاه، ففي الخط الجديد يخرج الحكي عن نطاق الواقعي ويلتحم بالمتخيل عبر الرؤى التي تنتاب ديانا كأحلام يقظة، أو مشاهد تخيلية، وما هي إلا تعبير عن الألم القاسي الذي تُعاني منه.

لقد اختار السيناريو أن تدور أحداثه في وحدة زمنية قوامها ثلاثة أيام، وهي الاستعدادات والاحتفالات بأعياد الميلاد. لا يُفصح السرد عن التاريخ الدقيق إلا بإشارة طفيفة على صناديق الطعام المُدون بها تاريخ ليلة عيد الميلاد؛ الـ22 من ديسمبر/كانون الأول من العام 1991.

 

وكما يلتزم السيناريو بالوحدة الزمنية، يلتزم كذلك بالوحدة المكانية، فأحداث الفيلم تدور أغلبها داخل القصر الملكي، وهنا ينسج السيناريو أحداثا مكثفة على سياقي الواقع والخيال، حتى لا يشعر المتفرج بالملل.

من ثم تُعاود ديانا الرؤى المتكررة عن الماضي، حيث ترى نفسها في مختلف مراحلها العمرية ما قبل زواجها من الأمير “تشارلز”، وكأن الماضي هو الحياة، والحاضر ما هو إلا قبر كبير للأحلام المُجهَضة، وبالتالي جاءت الصورة في الماضي برّاقة على خلاف الحاضر ذي الألوان المُقبضة.

لقد انقسم السرد إلى شقين، الشق الأول يدور في العالم الواقعي، حيث زيارة الأميرة المحبوبة للقصر الملكي بمناسبة أعياد الميلاد، وفي تلك الأثناء تزداد نوبات الاكتئاب، حيث تُصبح ضحية للإيذاء الجسدي والنفسي، ليواجه هذا الإحساس الإقبال على كميات مهولة من الطعام، وكأنها تعوّض ما ينقصها من غذاء روحي.

ديانا تتحدى البرتوكول الملكي وتقود سيارتها الرياضية متجهة للقصر

 

أما الشق المقابل من الحكاية فيدور في عقل ديانا وخيالها، حيث الماضي والرؤى المتخيلة للسيدة “آن بولين” زوجة الملك “هنري الثامن” التي نُفذ فيها حكم الإعدام في القرون الوسطى. وهنا تُصبح هذه الشخصية مُعادلا موضوعيا لديانا، تتماس معها في ألمها ومعاناتها، فكل منهما عانت من الحياة المُقبضة للعائلة المالكة، ومن ثم ترى ديانا نفسها “آن بولين” العصر الحالي، وكأن كل منهما مصيرها مرتبط بالأخرى.

“لا أعرف أين أنا الآن”.. أميرة تبحث عن نفسها التائهة

“ديانا فرانسيس سبنسر” هو الاسم الكامل للأميرة ديانا قبل استحقاقها الألقاب الملكية، وبالتالي جاء اسم الفيلم إشارة لها كامراة عادية تبحث عن نفسها التائهة مثلما تقول في أحد المشاهد: “لا أعرف أين أنا الآن”.

يدور الفيلم حول ديانا، فهي المحور والمركز، وتُنسج من حولها الدراما، ومن ثم يُمكن القول إن ديانا جاءت وبعد ذلك تشابكت خيوط الحكاية التي يصبح فيها حضور الأمير “تشارلز” هامشيا، فالمعني هو ديانا.

نادرا ما تقترب الأعمال السينمائية من شخصية الأميرة ديانا مثلما اقتربت في فيلمنا هذا، بل إنه لا شك في أنه اقتراب محفوف بالخطر، فالحديث عن أزمة ديانا النفسية هو جوهر الفيلم، وبالتالي اختار السيناريو أن يقتطع من حياتها ثلاثة أيام ويُخبرنا عنها، وكأن شريط حياتها يمر أمامنا لكن بأسلوب مُختزل، ليكشف لنا عن شخصية هشة حتى وإن بدت خارجيا على عكس ذلك.

لقد كشف السيناريو عن مرض ديانا والخلل النفسي الذي عانت منه، ويكمن السبب في أسلوب المعيشة الملكية من ناحية، وخيانة الأمير “تشارلز” لها من ناحية أخرى، حينها سقطت كل دفاعاتها، وأصبح التمرد هو الصفة البارزة في شخصيتها، لكنه تمرد هش يتناسب مع شخصيتها الباحثة عن الأمان. وقد تفاعل الأداء المتمكن للممثلة الأمريكية “كريستين ستيوارت” في شخصية ديانا بأسلوب يكاد يتماس مع الأميرة ذاتها، فقد تلاقت الشخصيتان وتمازجتا سوية.

الملصق الرسمي والذي يعكس شخصية الأميرة ديانا ورفضها للحياة الملكية

 

العلاقة بين الأميرة ديانا وبين الأسرة المالكة شكلية، فهي لا تتواءم معها، لذا جعل السيناريو من “ماغي” (قامت بالدور سالي هواكينز) الخادمة الخاصة بها والضابط “دارين” (قام بالدور شون هاريس) صديقيها المقربين اللذين تألف التعامل معهما، فكل منهما يُشكل حاجز أمان بالنسبة لها. وعندما تبحث عن أمانها المفقود تجده في العودة لماضيها، أي قبل دخول العائلة، لذا نراها في أحد المشاهد وهي تقطع الأسلاك الشائكة حول القصر لتهرب نحو منزل عائلتها المهجور والمجاور للقصر الملكي، فأزمة ديانا هي انتقالها من الهامش إلى المتن، من حياة تقليدية إلى حياة باذخة تُحاوطها الكاميرات، وتتصنع لإظهار سعادتها الكاذبة.

لقد رسم السيناريو ديانا شخصية لا تعرف الوجوه المتعددة، لا ترسم ابتسامة على وجهها إلا إذا كانت نابعة منها حقا، على عكس زوجها الذي ينصحها بالاحتفاظ بوجهين حتى تُكمل مسيرة حياتها بسلام، وعندما تتعارض أفكارها وأسلوب حياتها مع البيئة المحيطة بها؛ تجد نفسها في منعطف طريق خطر يحيد بها بعيدا، وهنا تتشابك الرؤى، وتُصبح ديانا طرفا في أزمة لم تصنعها، وإن وُجدت فيها عنوة.

“إنه الماضي يا سيدي”.. صراع بين حاضر حزين وماضٍ لا يموت

في أحد المشاهد تلعب ديانا لعبة الأسئلة مع ولديها، وحينما يُباغتها ابنها بسؤال عن سبب حزنها الدائم، تُجيب بكلمة واحدة “إنه الماضي يا سيدي”. وهنا تُفصح الأميرة عن سبب أزمتها الحقيقية ودخولها نفق الحزن الذي لا تستطيع الخروج منه، فهي ترى أن ماضيها وحياتها العادية تناسبها أكثر، وتتآلف روحها معها، أما الحاضر بكل ما فيه من بهاء مزيف فإنها لا تنتمي له، وبالتالي جاء الصراع الدرامي تعبيرا عن الزمن ومروره، صراع بين حاضر يشع حزنا وماض يأبى الرحيل.

مشاهد من تصوير الفيلم ويظهر فيه المخرج التشيلي “بابلو لاراين”.

 

وبما أن الصراع عن الزمن فمكانه الداخل، أي ما يدور في النفس الإنسانية، وهي ديانا التي تشعر بالحزن، ودموعها لا تتوقف عن الانهمار، حيث ترغب في ترك كل ما لديها في هذا العالم الجديد، وتذهب من حيث أتت، مما يجعلها تسقط في فخ التيه، لا تُدرك مغزى حياتها، فهي ترى أنها ضئيلة أمام كل ما يجري، تُلاحقها عدسات المصورين وتستقبلها بوجه يلجمه الوجوم، فالحصار يُحيط بها من جميع جبهاتها، وحينها تتساقط دفاعاتها، وتُصبح فريسة للمرض النفسي، تنقض على الأطعمة المحفوظة في المطبخ الملكي وتأكل بشراهة كأنها لم تتذوق الطعام من قبل، تسعى لترميم ذاتها ولو بالقليل من الأطعمة، في حين يزداد وزنها الذي تسخر منه قائلة بأن نصف ما يزنه ليس إلا المجوهرات.

تبحث ديانا عن حريتها المسلوبة التي تُدرك أنها خارج أسوار القصر، لذلك تتكرر محاولات هروبها ليلا، وعندما تنجح في العبور والوصول لمنزلها القديم، فإن أول ما تفعله هو نزع العقد الملكي عن رقبتها، لتتطاير عُقده وتترنح بعيدا، وذلك في إشارة لانتزاع حريتها، عندها تستطيع التنفس بحرية.

 

لم يكن هذا الفيلم التجربة الأولى في السينما التوثيقية لمخرج الفيلم “بابلو لاراين”، فقد سبق وقدم فيلم “جاكي” عام 2016 عن زوجة الرئيس الأمريكي الراحل “جون كيندي”، إلا أنه هذه المرة يطرق أبواب المحظور ويدخل حياة الأميرة ديانا وهي حياة أشبه بتراجيديا يونانية حسب قوله.

وقد انعكست الفكرة العامة للفيلم على الأسلوب الإخراجي، أو كما يُقال “المعنى في المبنى”، وبهذا نصل لمستوى رفيع من السينما حينما يتلاحم المضمون مع الأسلوب.

لقد جاءت أجواء الفيلم قاتمة وكئيبة مُغلفة بالغموض، وتتناسب مع طبيعة الحياة بين رحاب العائلة المالكة، ومن ثم ظهرت الصورة والإضاءة متأثرتان بالأسلوب التأثيري في الفن التشكيلي، من حيث الألوان الباهتة كتعبير عن الحياة التي لا مذاق لها في القصر، والإضاءة الخافتة كذلك تتماس مع هذا المعنى الذي يحفل بالعديد من الرموز التي نحتاج لقراءتها حتى تتكامل الصورة والإحساس العام بالمضمون.

البداية مع صورة مقربة لطير مجروح تعبر من فوقه سيارات التشريفة الملكية وكأنهم يدهسون ديانا التي يُشار إليها بالعصفور أو الطير المنزوع أجنحته، ويستكمل الفيلم سلسلة الرموز حينما يصور القصر بالبرودة التي لا تنتهي، وذلك في إشارة للأجواء القاتمة في هذا المكان.

يقول مخرج الفيلم “بابلو لاراين” في إحدى الحوارات الصحفية: “اتُّخذت قرارات حركة الكاميرا لتكون متناسقة مع شخصية وأفعال ديانا، حتى تصبح أقرب ما يكون إليها”.

وفي أحد المشاهد نرى ديانا في سيارتها الرياضية أثناء دخولها القصر لقضاء عطلتها والكاميرا تلتقطها من زاوية علوية “زاوية عين الطائر”، وهو ما يوحي بمدى هشاشتها وضآلتها في مقابل عالم هي أبعد ما تكون عنه.

لكن يبقى السؤال الجوهري الذي يُلاحقنا أثناء مشاهدة الفيلم: تُرى ما الذي دفع ديانا لهذه الحياة رغم امتلاكها مفتاح حريتها؟

بالتأكيد تكمن الإجابة بين سطور ومشاهد الفيلم، لكن سمة الفن الثورية وقول كل شيء هو في المحصلة كأنك لم تقل، وهذه صفة الأفلام الكبرى، و”سبنسر” واحد منها.