“لانكستر”.. طائرة إنجليزية غيّرت مجرى الحرب العالمية الثانية

عبد الكريم قادري

كانت طائرات ألمانيا النازية تسرح وتمرح فوق المدن البريطانية، تقذف المباني والبنايات مُخلفة قتلى وضحايا بالآلاف، ثم ترحل دون أن يتعرض لها أحد، فإمكانيات الرد لم تكن متوفرة.

لكن بعد تطوير طائرة “أفرو لانكستر” تغيّرت المعادلة تماما، وتغيّرت معها مؤشرات الحرب والخوف والضحايا. فما الذي فعلته هذه الطائرة حتى غيّرت موازين القوى في الحرب العالمية الثانية؟

الطاقم.. سبعة غيّروا بوصلة التاريخ

سحب المخرجان “آنت بالمر” و”ديفد فيرهيد” في فيلمهما الوثائقي البريطاني الأحدث “لانكستر” (Lancaster) (إنتاج عام 2022) أوراق التاريخ من أدراج النسيان، ووضعاها على طاولة الحاضر. ورغم حبر الدم الذي كتبت به، والجروح الغائرة التي تختبئ بين السطور والجمل، والأرقام الرهيبة التي عكستها أعداد القتلى والخسائر والأوجاع العابرة للزمن، فإنه توجد بينها بطولات كبيرة يجب إعادة إحيائها من جديد.

 

لقد قام بها شباب بلغ متوسط أعمارهم 22 عاما، منهم من قُتل في تلك الفترة، ومنهم من مات بعد التحرير، ومنهم مَن لا يزال على قيد الحياة. وقد أجرى الفيلم معهم مقابلات مهمة عادوا من خلالها إلى أكثر الأماكن ظلمة في قلوبهم، أي إلى سنوات الحرب العالمية الثانية (1939-1945)؛ أعوام المجد التي غيّروا فيها بوصلة التاريخ، وهم الطيارون والمساعدون والموجهون والملاحون والعاملون في أسراب طائرات “لانكستر” التي تم تطويرها وتصميها إبان الحرب.

يركّز الفيلم بشكل كبير على دور هذه الطائرات في تغيير ميزان القوى وخارطة الحرب التي بدأت العمل بشكل رسمي سنة 1942، وقد استعملت من طرف سلاح الجو الملكي البريطاني الذي كان يبحث عن أي طريقة لرفع معنويات الجنود المتدنية، انطلاقا من السلاح الجوي الذي عكسته هذه الطائرة التي تتشكل حسب بطاقتها الفنية من طاقم مكون من سبعة أفراد، وهم الطيار ومهندس القتال والملاح وموجّه القنابل/موجه الرشاش وعامل اللاسلكي والرامي في أعلى ووسط الطائرة، إضافة إلى الرامي الخلفي.

شهود أحياء.. حنين إلى مرحلة فاصلة

رغم مرور أكثر من 80 سنة على بداية عمل طاقم طائرة “أفرو لانكستر”، فإن المخرجَين تمكنا من التواصل مع عدد من الأسماء المهمة التي شاركت في تلك الحرب وكانت جزءا من تلك الطائرة، ومن بينهم طيارين ما زالوا على قيد الحياة رغم تقدم أعمارهم. وقد تحدثا مع بعضهم، لنجد أن أحاديثهم مغرقة في الحنين إلى تلك المرحلة الفاصلة، خاصة حين يصفون الطائرة وتنفيذهم الأهداف الحربية، وكأنهم يتغزلون بتلك الطائرة الفاصلة، يسردون تفاصيلها، وكيف استقبلوها أول مرة، خاصة في ظل القصف المتواصل من قبل أسراب الطائرات الألمانية والمدافع وحتى الصواريخ.

صورة جماعية لأطقم أسراب طائرات لانكستر خلال الحرب العالمية الثانية

 

كانت معطيات الحرب في البداية سببا في يأس المواطن البريطاني، لكن مع بداية غارات أسراب طائرات “لانكستر” ووصولها إلى العمق الألماني؛ عاد الأمل لهم من جديد، وفي الوقت نفسه بدأ الألمان يستشعرون الخطر.

وتحدث آخرون من طواقم طائرات لانكستر عن صوابية ما قاموا به عندما قصفوا المدن الألمانية التي كانت تضم مدنيين، وقتلوا الآلاف منهم.

ورغم تقدم سن هؤلاء فإنهم استطاعوا أن يعودوا إلى الماضي البعيد، حيث كان الخوف والرعب والموت والدم هو المسيطر على كل مرحلة، وشعور الفقد هو الحاضر في كل تفصيلة، وموت زملائهم المستمر، وتزايد أعداد الكراسي الشاغرة. لكنهم واجهوا مسؤولياتهم وساهموا في تغيير معسكر الخوف، بعد أن وصلوا إلى العديد من المدن الألمانية وفجروها.

مجزرة السدود.. خسائر فادحة تتكبدها لانكستر البريطانية

اختارت القيادة السياسية مع بداية عمل طائرات لانكستر مجموعة من الأهداف، وهي جملة من المصانع التي كانت لديها علاقة بالإنتاج الحربي الألماني، حيث قُصفت ليلا خوفا من الدفاعات الألمانية القوية. وتمكنت هذه الطائرات بأمر من المارشال “آرثر هاريس” قائد سلاح الجو الملكي، وبموافقة “تشرشل”؛ من قصف المصانع ومساكن العمال الذين يعملون فيها بواد الرور، ليحترق معظمها بمن فيها من عمال.

متوسط أعمار طواقم طائرات لانكستر لايتجاوز 22 عاما

 

وعلى الرغم من أن العملية لم تستغرق دقيقة، ولم تحقق جميع الأهداف المرصودة، وعوقب “هاريس” في البداية، فإنه أعاد تطوير السرب، ووسّع من بنك الأهداف المهمة، كما رسم خطة فعالة من طرف القيادة العسكرية. فالأمر يتعلق بتدمير السدود الكبيرة التي تعتبر الشريان الرئيسي في تزويد مصانع الأسلحة. ورغم قوة تلك السدود وبُعدها عن بريطانيا ووقوعها في قلب الأراضي المعادية، فإن السرب وصل إلى العديد منها، ودمرها بعد دراسة نقاط ضعفها. وهناك صور فوتوغرافية عن العملية نشرتها الصحافة العالمية، وهو الأمر الذي لعب دورا كبيرا في الحرب النفسية.

لكن في المقابل سُجلت خسائر فادحة في عملية قصف مدينة نورمبيرغ سنة 1944، حيث تصدت المدافع الألمانية لسرب طائرات لانكستر، وخلفت العملية خسائر فادحة، فقد خسر الجانب البريطاني 96 طائرة في ليلة واحدة، وهو الأمر الذي أثر بشكل كبير في نفسية بقية الطواقم، وروى هذه الحادثة أحد الطيارين بحسرة وألم كبيرين بعد أن نجا بأعجوبة من تلك المجزرة.

مدينة درسدن الألمانية.. جريمة حرب بريطانية أمريكية

تحدث الطيارون الذين شاركوا في العديد من الغارات الجوية عن أهم الطلعات الجوية التي شاركوا فيها، من بينهما قصفهم لمدينة درسدن الواقعة في الشرق الألماني، وهي عاصمة ساكسونيا، وهذا بالمشاركة مع القوات الجوية للجيش الأمريكي بين يومي 13 و15 فبراير/شباط سنة 1945. وقد استعمل الجيشان قنابل شديدة الانفجار وأخرى حارقة، ليتم تحويل المدينة إلى كتلة كبيرة من النار، وسقط أكثر من 25 ألف ضحية من المدنيين، وتعرضت بريطانيا وأمريكا بعد الحرب إلى انتقادات واسعة بحجة أنه لم يكن هناك أي داعٍ لقصف المدينة، لأنها لم تشكل أي تهديد حربي.

أحد السدود الألمانية بعد القصف من طرف لانكستر

 

لقد استضاف الفيلم شاهدة من تلك الفترة، وكانت الشاهدة تدرس في إحدى المدارس، قبل أن تتحول المدينة إلى جحيم. لكن الطيارين برروا فعلتهم بأنها الحرب، وفي المقابل هناك من أظهر حزنه على ما حدث، لأن ما وقع -حسب التقارير التي لم يشر إليها الفيلم- جريمة حرب بكل معنى الكلمة، فالمدينة لم تكن نقطة تجميع كما قالوا، ولم تكن فيها أي مصانع حربية كما زعمت أمريكا، لتبقى تلك العملية شاهدة على أحداث دامية لا تزال آثارها النفسية إلى غاية اليوم.

طواقم لانكستر.. أبطال أم مجرمون؟

شعر العديد ممن شاركوا في طواقم طائرات لانكستر خلال الحرب العالمية الثانية بأن السياسيين تنكروا لهم، حتى “تشرشل” الذي كان يقود الحرب تنكر لهم هو الآخر، ولم يعملوا بعد انتهاء الحرب على تحسين صورتهم أمام الرأي العام، لأن الكثير منهم ينظر لهم على أنهم مجرمون لا أبطال، لكنهم لم يُجروا مقارنة بين ما حدث وعمليات قصف طائرات هتلر للمدن البريطانية، فقد قتل في عمليات لانكستر أكثر من 43 ألف قتيل خلال 8 أشهر فقط.

 

كما أنهم نسوا دور 125 ألف فرد من طواقم لانكستر، وكلهم من المتطوعين الذين انخرطوا في هذا الجهاز الحربي ولم يتجاوزوا 22 سنة. لقد كانت الفاتورة التي دفعوها ثقيلة جدا حيث قتل منهم 55573 دون حساب المصابين والمشوهين، حتى إن النصب التذكاري الذي شيدوه في حديقة “غرين بارك” في لندن جمعوا أمواله بعد عشر سنوات ولم تساهم فيه الحكومة البريطانية، لهذا تبقى جراحهم غائرة بعد هذا التنكر الكبير لدورهم الأساسي في عملية الحسم الحربي والقضاء على النازية.

أرشيف تاريخي.. إعادة تصميم لحقبة فاصلة

استعان المخرجان في فيلمهما “لانكستر” بالأرشيف السمعي البصري، وبالعديد من الوثائق التاريخية المهمة، إضافة إلى الأفلام السينمائية التي أعادت تصميم تلك المعارك الحربية الفاصلة، كما التقط صورا بانورامية لكيفية تحليق طائرة

لانكستر، خاصة وأن القوات الملكية لا تزال تحتفظ بطائرتين منها على أنهما تاريخ يجب الحفاظ عليه.

 

لقد رافق طاقم التصوير هذه الطائرة أثناء تحليقها، مما أعطى للفيلم مصداقية كبيرة، إضافة إلى المصداقية الرئيسية التي قدمها المتدخلون بوصفهم مشاركون فعليون في أطقم تلك الطائرة إبان الحرب، وهو الأمر الذي جعل توقيت الفيلم يسير بسلاسة واضحة، خاصة وأن هناك الكثير من المعلومات المهمة التي تم بثها.

تطرق الفيلم إلى الجانب الإنساني، وهو الأمر الذي سيجعل هذا الوثائقي مادة تاريخية مهمة وفاصلة في المستقبل، خاصة بعد موت الشهود الذين تقدم بهم العمر، إضافة إلى الجمالية التي انعكست في طريقة بناء الفيلم بشكل عام، وتوظيف الحاضر بالماضي، وخلق علاقة ندية بينهما، حتى تحول هذا العمل إلى جسر تواصل بين زمنين مهمين الفاصل بينهما 80 سنة كاملة، لكن الفيلم قام بتقليص المدة لتصبح وكأن الفارق يوم واحد فقط.