“الحياة الآتية”.. تقلبات حادة في حياة صبي أفريقي متمرد بإيطاليا

د. أحمد القاسمي

ليس المتوسط بحرا، إنه سكين يشطر برتقالة العالم نصفين، نصف سفلي يغرق في الجهل والفقر والاستبداد، ونصف علوي ينعم بالرخاء والحرية.

هكذا يرى الأفريقي أوروبا وهو يرفع رأسه إلى الأعلى ليتأمل رسمها على الخريطة كمن يرفع رأسه إلى السماء يرجو الجنة الموعودة، لكن ليس الأمر إلا محض أوهام يشغل بها المحرومون أنفسهم، فلا مكان لهم في هذه الجنة الموعودة إلا في هامشها في عالم الاستغلال والخصاصة والجريمة.

يعرض علينا فيلم “الحياة الآتية” (The Life Ahead) شيئا من هذه المحنة معتمدا نسقا سريعا يضعنا في جوهر العقدة مباشرة، حين يهرب “مومو” الطفل الأسود (12 عاما) من امرأة تصعد المدرج، ويدخل إلى دهليز عمارة وسخ وغير مرتب. تلاحقه الكاميرا إلى الداخل، ويخبرنا صوت السارد (صوت مومو نفسه) من خارج الإطار بأصل المشكلة، فالجميع يواجهون قدرا خفيا يعجزون عن الفعل فيه، أما هو فقد قرر التمرد ليكون بطلا إيجابيا يمتلك ناصية مصيره ويفعل في واقعه. كيف سيتسنى له كل ذلك؟

تلك هي الأحجية التي يجرنا إليها المخرج ويجعلنا على مدار الفيلم نبحث لها عن حل. على هذا النحو يبدأ المخرج الإيطالي السويسري “إدواردو بونتي” فيلمه بحثا عن حياة مقبلة للسود في أوروبا تكون مختلفة ومهمة.

 

“روزا”.. حضانة العجوز التي ترعى أبناء المومسات

ترتد بنا الحكاية ستة أشهر إلى الوراء، وتختلق سياقا يجمع بين البطلين يختصر علينا الطريق لفهم طبيعة الصراع في الفيلم، فتجعل الطفل محمد ذا الأصول السينغالية، واليتيم الذي يعيش طفولة صعبة بكفالة الدكتور “كوين” يختطف شمعدانين لليهودية الناجية من المحرقة الألمانية “روزا”، والعجوز التي تعتني بأبناء المومسات في حضانتها غير القانونية لتتدبر قوت يومها.

العجوز روزا والطفل مومو الذين تصبح بينهما رابطة تكافل قوية

 

ينتهي هذا الحادث باستضافة العجوز للصبي وضمه إلى قائمة حضانتها، فوكيله الدكتور “كوين” طبيب “روزا” بالصدفة يجد عملية الاختطاف هذه فرصة ليجد “مومو” رعاية أنثوية تعوضه فقد الأم، وبعد صدام عنيف بينهما وبعد استفحال مرض “روزا” تنقلب الآية، ويصبح الصبي هو من يرعاها لتنشأ بينهما في نهاية الفيلم رابطة قوية.

تؤدي دور روزا “صوفيا لورين” الممثلة الإيطالية التي طالما فتنت مشاهديها على الشاشة الفضية زمانا، وعدّت أجمل الإيطاليات وأكثرهن فتنة، لكن الزمن غير الزمن، فها هي تعود إلى الشاشة بعد غياب لتتقمص دور عجوز متهالكة تواجه بمفردها الفقر والمرض.

“صوفيا لورين”.. غريزة الأمومة وسفارة النيات الحسنة

يظل الفيلم عائليا على نحو ما، فالمخرج “إدواردو بونتي” هو ابن الممثلة “صوفيا لورين” التي ابتعدت عن الأضواء بفعل تقدمها في السن، وانشغالها بدورها باعتبارها سفيرة للنيات الحسنة مكلفة من قبل المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

الممثلة “صوفيا لورين” أيام شبابها والتي اشتهرت بأدوارها في أفلام عالمية

 

لا شك أن دافع الأمومة جعلها تغامر بتجسيد شخصية “روزا” التي أتقنتها الممثلة “سيمون سينيورات” في النسخة الفرنسية التي انتزعت أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 1977، ولا شك أن المخرج يدرك بدوره التوجه الاجتماعي لوالدته منذ انخراطها في عمل الأمم المتحدة، فجعل الفيلم يستجيب لتطلعاتها، وحوّل رواية الفرنسي “رومان غاري” إلى فيلم نضالي يدافع عن حق السود في حياة كريمة على الأراضي الأوروبية.

“لا بد أنه ورث ذلك عن شخص ما”.. نظرة عنصرية

يأخذنا الفيلم مباشرة إلى عالم الجريمة المنظمة، فالفتى السنغالي “مومو” توفيت أمه في حادث مأساوي، ويعيش برعاية إدارة الخدمات الاجتماعية، لكن له خصوصية نفسية تتجلى في نزعته إلى التمرد والعدوانية، وفي التعالي على محيطه الاجتماعي وازدرائه. فيرفض الاعتذار للمرأة “روزا” التي يأخذه إليها الدكتور “كوين” أولا ليعيد الشمعدانين، ويسلط عنفه على الطفل يوسف الذي تسهر على تربيته بعد أن اختفت أمه.

 

تأخذه العجوز على عاتقها، وتعمل على تنشئته متصالحا مع ديانته الأصلية، وتعهد به إلى تاجر التحف المعلم “هاميل” الجزائري ليفتح عينيه على كنوز الحضارة الإسلامية من سجاجيد ومخطوطات ومنمنمات، ليقدم له صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين، فيشرح له تعاليم القرآن التي تدعو إلى الصبر والتسلح بالعزيمة. ويتخذ الفيلم من الأحداث تعلّة ليناقش أطروحة خطيرة مدارها سبب عنف “مومو”. فهل الفتى على هذا القدر من العدوانية لكونه زنجيا من أصول أفريقية، أم يعود الأمر لديانته الإسلامية؟

يمثل مساق الأحداث اختبارا لهذه الأطروحة، فيفندها أولا من خلال حوار بين الدكتور “كوين” والعجوز “روزا”، إذ تقول وهي تشتكي ما كلفها الصبي من تعب: إنه غير طبيعي، فهو فاسد حد النخاع، ولا بد أنه ورث ذلك عن شخص ما، عن أمه أو عن أبيه.

ولا يخلو كلامها الذي يبدو عفويا من موقف عنصري يذكرنا بالمصادرة التي بنت عليها أوروبا سياستها الاستعمارية في القرنين 18-19. ومدارها على تقسيم البشر إلى أجناس راقية خيّرة يمثلها الرجل الأبيض، وأخرى وضيعة يمثل الرجل الأفريقي أشدها انحطاطا ونزوعا إلى الشر بطريقة فطرية. ويجيبها الدكتور “كوين” بحزم ” كفاك إهانة للكرامة البشرية”، فيقرعها على هذه الطريقة في التفكير مذكرا إياها بأنها كانت بدورها ضحية للممارسات العنصرية لدى الألمان أيام الحرب العالمية الثانية.

يتولى الطفل رعاية روزا بعد مرضها بنفسه في دهليز العمارة بعيدا عن أعين الفضوليين ردّا لجميلها.

 

والأهم من هذه الثرثرة اللغوية من منظور سينمائي مسار الأحداث الذي يفند هذه الأطروحة، فينتهي الفيلم إلى رابطة قوية تجمع بين العجوز والفتى حين تُصاب بالزهايمر، فيهربها من المستشفى الذي لا تريد البقاء به، بينما يتولى رعايتها بنفسه في دهليز العمارة بعيدا عن أعين الفضوليين ردّا لجميلها.

بيّن إذن أن الفيلم يجد أن عنف الصبي آلية دفاعية بها يواجه ما يلقاه من صد ومن عنصرية في محيطه الاجتماعي.

“لا يجلبون إلا المشاكل”.. تناقضات وحنين إلى الماضي الفاشي

يدرك العارف بالمجتمع الإيطالي اليوم بيسر النقاش الذي ينشئه الفيلم مع سياقه الحضاري والسياسي، فعلى أيامنا هذه وبعد انهيار حكومة “ماريو دارغي” ودعوة الرئيس الإيطالي “سيرجيتو ماتاريلا” إلى انتخابات سابقة لأوانها تجري في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر/أيلول عام 2022؛ يطلق الزعيم الإيطالي اليميني المتطرف “ماتيو سالفيني” حملته للانتخابات التشريعية من جزيرة لامبادوزا التي تطل على الساحل التونسي، وتستقبل سنويا عشرات آلاف المهاجرين بطرق غير نظامية، جاعلا من مقاومة الهجرة السرية ومراقبة الحدود رهانه الأساسي في برنامجه الانتخابي، مؤكدا: إيطاليا لا يمكنها استقبال عشرات الآلاف من المهاجرين الذين لا يجلبون إلا المشاكل والقادمين من الجانب الآخر من العالم.

ولا يرفع حزبه وحده لواء معاداة الأجانب، فعلى هذا الأساس بنى تحالفا في هذه الانتخابات التشريعية بين حزبه “الرابطة” وحزبي “إيطاليا إلى الأمام” و”أخوة إيطاليا” بقيادة “جيورجيا ميلوني” الزعيمة اليمينية المتطرفة، مستغلين تشتت اليسار الذي يتبنى خطابا اجتماعيا معتدلا.

تأخذه العجوز على عاتقها، وتعمل على تنشئته متصالحا مع ديانته الأصلية.

 

ومقابل معاداة الهجرة الوافدة من جنوب المتوسط أو شرقه نرى إيطاليا تستضيف أكبر عدد من اللاجئين الأوكرانيين الفارين من حرب روسيا على بلادهم بحفاوة وكرم لافتين من قبل هذه الأحزاب نفسها، وهذا ما يؤكد أن خطابها المعادي للهجرة لا يصدر عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تسببها، فإيطاليا تظل في نهاية المطاف منطقة لعبور المهاجرين نحو الشمال، مما يعكس حنينا للحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية، رغم مناهضة الدستور الإيطالي لهذه المبادئ.

فريق العمل.. تشكيلة متعددة الثقافات والجذور

يبدو الفيلم تغريدا خارج السرب، فيحلم بصورة أخرى لإيطاليا المتسامحة المتعددة الثقافات، ولا نجد هذه الدعوة في الخطاب الفيلمي فحسب، فتشكيل فريق العمل يكرّس بدوره هذا التعدد، بدءا بالنجمة الإيطالية ذات الأصول الفلسطينية والكاثوليكية، فالممثلة التي تحمل اسم “صوفيا فيلاني سكيتشلوني” والمولودة في روما في نهاية الثلث الأول من القرن الماضي؛ تحمل لقبها عن والدها بالتبني بعد أن تزوج أمها ذاتَ الأصول الفلسطينية أصيلةَ قرية كفر قرع، ومعلمةَ البيانو.

المخرج الإيطالي “إدواردو بونتي” رفقة أمه بطلة الفيلم صوفيا لورين”

 

أما ابنها المخرج “إدواردو بونتي” فيضيف إلى جنسيته الإيطالية الجنسية السويسرية، و”باباك كريمي” الذي يتقمص شخصية الجزائري “هاميل” هو ممثل وتقني إيراني، أما الطفل “إبراهيما غاي” الذي أدى شخصية “مومو” فهو إيطالي سينغالي الأصل والمولد.

هذا فضلا عن الرواية التي اقتبس منها الفيلم قصته، وهي فرنسية نشرت سنة 1975، وحصلت على جائزة “غونكور” المرموقة.

“حياة السود مهمة”.. صرخة مدوّية في واقعية السينما الإيطالية

يطرح الفيلم القضايا الراهنة والتحديات التي تواجهها المجتمعات الأوروبية عامة، كالهجرة السرية وما ينشأ عنها من ازدهار في تجارة المخدرات وانتشار البغاء وتشرد الأطفال، لكنه يتناولها من زاوية مغايرة تماما لما يسود في وسائل الإعلام الغربية، حيث تبدو بريئة من التعصب ومن التعالي ومحاولة إلغاء الآخر، فيصوّر الطفل “مومو” بين قوتي جذب تسحبه الأولى إلى عالم الفن والحضارة والجمال والخير، ويمثلها التاجر الجزائري المسلم، بينما تأخذه الثانية إلى عالم الجريمة وإلى ترويج المخدرات، ويمثلها الإيطالي “روسبا” الذي يستغل الوضعيات الهشة للمهاجرين الأفارقة.

لقد كان الفيلم صرخة مدوية أن “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter)، وينزل الفيلم أحداثه في مدينة باري الإيطالية الساحلية الواقعة على ضفاف البحر الأدرياتيكي، تلك المدينة التي فتحها المسلمون وأقاموا فيها إمارة إسلامية مستقلة استمر وجودها فترة طويلة من القرن التاسع، بعد أن كانت الأحداث تجري في الرواية في العاصمة الفرنسية باريس.

الملصق الرسمي للفيلم والذي يعكس كيف تتقاطع مصائر أبطاله

 

تبرز من خلال هذا الطرح إذن رغبة الفيلم في مقاربة مسائل الانتماء وما يرافقها من صعوبة في الاندماج وقلق في الهوية على أساس ثقافي حضاري وإنساني، متجاوزا المقاربات التقليدية العنصرية التي تركز على العرق والانتماء الجغرافي.

تجعل هذه العناصر الفيلم امتدادا للسينما الإيطالية المتفاعلة مع الواقع منذ موجة واقعيتها الجديدة التي أعلن ميلادها مع “روسيليني” في فيلمه “روما مدينة مفتوحة” (Roma Città Aperta)، وخرجت بالكاميرا من الأستوديوهات إلى الشارع، وإلى قضاياه الحارقة، إلى موجتها الثالثة التي تتخذ من تقلبات السياسة وجرائم المافيا خلفية لأفلامها، فتحاول أن تستدعي الصدام القائم بين الديانتين اليهودية والإسلامية، وتدفع بالكاميرا إلى شوارع المدينة، ولفضح ما يحدث في أوكار الجريمة.

لكن هل تكفي النية الحسنة وحدها؟

حامية الطفولة.. صورة إيجابية تنسفها النظرة العنصرية

لا يشفع نبل الفكرة للأعمال الفنية في عالم السينما ما لم تكن المعالجة ناجحة، فاستدعاء الفيلم للنزاع اليهودي الإسلامي بدا مسقطا أجوف لا يعبّر عن موقف أو يدافع عن فكرة بعينها، كما أن بناء الشخصيات لم يخلُ من هنات، فقد جعل العجوز “روزا” أما حاضنة لأطفال أبرياء، لكنه في الوقت نفسه جعلها تتبنى فكرة عنصرية مدارها أن الشر والفساد فطريان تتوارثهما بعض الأعراق.

هذا ما نسف صورتها الإيجابية التي اكتسبتها من حماية الطفولة المهددة، ولا بد أن المتفرج سيفتقد في أداء الممثلة “صوفيا لورين” تلك الحيوية التي عهدها لديها زمانا. صحيح أن الدور غير الأدوار السابقة، وأن مرض “روزا” وشيخوختها يفرضان عليها إيقاعا مختلفا عن أفلام الإثارة زمن الصبا والشباب، لكن حضورها على الشاشة لم يكن مؤثرا، فكثيرا ما تراجع أمام الأداء المقنع للطفل “إبراهيما غاي”.

فضلا عن ذلك جاء تحوّل الطفل “مومو” من العنف والتمرّد إلى البطل الإيجابي سريعا غير مبرر دراميا.