“زينة زينة”.. صدفة تصنع أغنية مميزة وتنقذ فيلما سينمائيا

أحيانا كثيرة لا تنتصر الصورة النمطية للأشياء والأحداث ولا يقع المُتوقع؛ ويأتي من البعيد البعيد الخارج المحيط المغلق، مما يصبح مركز الدائرة وبؤرة الحدث؛ هذا ليس لغزا ولا أحجية، بل هو ما حدث بالفعل في قصة أغنية “زينه زينه” للكبير الراحل فريد الأطرش.

نتعرف على قصة هذه الأغنية المشوقة وصدفتها الغريبة في هذا الفيلم الوثائقي من إنتاج الجزيرة الوثائقية، من خلال حلقة من سلسلة “حكاية أغنية”.

كساد السينما.. أثقال العدوان الثلاثي على الساحة الفنية

بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 سادت حالة من الكساد الفني والسينمائي في مصر، نتيجةً لتدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية، وانصراف الناس نحو متابعة العدوان وتبعاته على المجتمع المصري بشكل عام، وبالتالي تبعاته على الفنانين والمغنين، وهم جزء من هذا المجتمع.

ومن الطبيعي أن تحيلنا هذه الأحداث إلى صورة كمثال لهذه التبعات، سهرة أصدقاء فنانين مفلسين، يهربون من الوضع القائم بالضحك والكوميديا، تضم فريد الأطرش والمخرج يوسف شاهين وآخرين، ويلتحق بهم كاتب السيناريو أبو السعود الأبياري، لينبثق مشهد كوميدي من مخيلة فريد الأطرش لشاب متأنق ببدلة رسمية يركض في الشارع، فيجتمع حوله الناس متسائلين باستغراب، فيكون جواب الشاب أنه لا يريد أن يتزوج.

بسبب وزن الفيلم الذي جاء ناقصا بـ3 كيلوغرامات، أدخل فريد الأطرش أغنية زينة فكانت مثالية

هنا تبدأ الحكاية بعد ضحك وصخب شارك فيه كل الموجودين، حين يطلب فريد من الأبياري أن يكتب سيناريو فيلم كوميدي غنائي، انطلاقا من هذا المشهد الكوميدي الذي جاء في ذهنه، وهو الذي كان محبا للفن ومغرما بإنتاج الأفلام، إذ شارك في 31 فيلما، كان منها 18 من إنتاجه.

لقاء الكبار.. مصالح مشتركة تجمع باقة من النجوم

كان فريد الأطرش مؤمنا بعبقرية يوسف شاهين في الإخراج، وقد عرض عليه الفكرة في ذات الوقت، إنها مصالح مشتركة يلتقي فيها مطرب وملحن كبير مثل فريد، وكاتب سيناريو فذّ مثل الأبياري، ومن ورائهما مخرج عبقري مثل شاهين.

وتكتمل التوليفة الذكية باختيار شادية بطلةً للفيلم إلى جانب فريد، وبمعية مجموعة لامعة من نجوم الكوميديا، أمثال عبد السلام النابلسي وعبد المنعم إبراهيم وآخرين.

نجوم لامعة شاركت في فيلم “إنت حبيبي” على رأسهم عبد السلام النابلسي وشادية

تجري أمور الفيلم بسرعة غير متوقعة، ويرسل يوسف شاهين نسخة من الفيلم بالحاضنة المعدنية التي تضم شريط الفيلم إلى فريد بصفته المنتج، وكانت مدة الفيلم وضخامته تقاس بوزن هذه الحاضنة التي تصل إلى 24 كغم لأفلام فريد تحديدا، وكان لا يتنازل عن هذا الوزن، لذا تفاجأ بأن الوزن 21 كغم فقط، فاعترض على ذلك بشدة، وطلب من شاهين أن يضيف “اسكتشا” أو أغنية ليكتمل الفيلم.

فريد الأطرش.. لحن حزين لأغنية تغنى في الأفراح

اقترح فريد الأطرش أن يشتغل هو على أغنية يضيفها إلى الفيلم، وطلب من الكاتب محمود فهمي ذلك، وكان قد كتب كلمات أغنية “نورا نورا” لفريد من قبل، فكتب له “زينه زينه”، ولحنها فريد بذكاء العارف على مقام الصبا الحزين الشجي، رغم أنها أغنية تغنى في الأفراح، فيعطيها انطباعا مختلفا جديدا عند المستمع، ويضمنها نوتات مصرية شعبية خفيفة، إضافة إلى تقنيته الشهيرة الخاصة به، وهي إدخال الموال في الأغنية، على غرار مواويل محمد العربي الذي كان يعتبره أستاذه.

زينه زينه زينه.. زينه زينه زينه.. زينه غاليه علينا
زي ضي عينينا.. زينه.. يا زينه.. يا زينه..يا زينه زينه
والله زينه والله تشتهيها العين
لولا خوفي من الله لأقطف الخدين
اللي نورهم خلا حر قلبي ضِلّه
والصحارا جنينه.. زينه والله زينه

ولا يقف فريد عند هذا الحد في التألق، بل يعطي شادية دورا في الأغنية لتردد المذهب فقط، وتقبل شادية بذلك بتواضع الكبار، فتخرج الأغنية لا هي “دويتو” ولا “ديالوغ” ولا هي لمطرب واحد، بل مزيج فني جديد ومميز.

يوسف شاهين.. أغنية متأخرة تنقذ الفيلم من السقوط

جاء دور المخرج العبقري يوسف شاهين بإيجاد حدث ومعادل بصري يستوعب الأغنية في الفيلم، كي لا تبدو مقحمة وخارجة عن الإطار العام للفيلم، فاختار البيئة البدوية النوبية ووجوه النوبيين بتقنية بصرية عالية، فبدت الأغنية كأنها جزء لا يتجزأ من نسيج الفيلم، ولا يمكن فصلها عنه، ولن يصدق أحد أن الأغنية قد كُتبت ولُحّنت وأدرجت في الفيلم بعد انتهاء تصويره تماما.

زينه مالي حيله.. عقلي مني راح
زي صاحب ليله.. والهوا فضاح
له حكاية طويله.. يا أم عين كحيله
انظري راعينا.. زينه والله زينه
زينه وبخت اللي فاز.. بالقرب منك زين
وجهك ده واللا القمر.. زانه سواد العين
يا هل ترا قلبي.. يلقا الفرح امتا وفين

شادية تقبل بمقطع واحد من أغنية “زينه زينه” إلى جانب فريد الأطرش الذي يغني بقية المقاطع

لقد كانت “زينه زينه” تحديا صارخا لفريد في اللحن، ولشاهين في الإخراج، وتمّمت النقص الذي أرّق فريد وأغضبه، علاوة على أنها أضافت جمالا ودعما وقوة وجاذبية للفيلم على عكس المتوقع تماما، وبقيت حتى الآن تستعاد في الأفراح والإذاعات.

لقد جاءت “زينه زينه” من بعيد، من خارج الدائرة، لتنقذ موقفا، فصارت المنقذة للفيلم، ومركز دائرته وبؤرته المضيئة.