“رياليتي”.. أساليب ناعمة لخنق الجنود الخارجين عن السرب

بعد انتهاء عملها مترجمةً في هيئة الأمن القومي الأمريكية، تبدو “رياليتي” في شكلها وعاداتها كأي فتاة عادية في عمرها، تتسوق يوم السبت في لباس بسيط، وتسكن بيتا متواضعا، تحب الحيوانات وتسافر وتشارك الصور على شبكات التواصل الاجتماعي، وتعطي أحيانا دروسا في اليوغا، وتنتظر قبولها في القوى الجوية الأمريكية.

لكن ذلك اليوم من بعد ظهر سبت قلب حياتها رأسا على عقب. فحين وصلت “رياليتي” إلى منزلها محمّلة بأكياس التسوق، لم تستطع تجاوز الحديقة الأمامية، فقد اعترض رجلان طريقها بلطف مفتعل، ومنعاها من دخول البيت، وهما يعلنان انتمائهما إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي.

فيلم “رياليتي” (Reality) هو الفيلم الأول للمخرجة الأمريكية “تينا سارتير” (2023)، وقد شاركت في كتابته مع “جيمس دالاس”، ومنذ لحظاته الأولى تسود أجواء إثارة مُعلنة عن رحلة محمَلة بأحجية ومليئة بتساؤلات. ولعلّ السؤال الأول الذي أثاره مشهد كهذا كان عن سرّ اهتمام مكتب التحقيقات الفيدرالي بهذه الشابة الصغيرة، فقد بدت عادية في كل شيء وهي تتهيأ للدخول إلى منزلها الواقع في حيّ سكني هادئ.

مشاهد الفيلم الأولى.. لحظات غامضة ترفع وتيرة التشويق

ترتفع وتيرة الغموض ويزداد تشويش الموقف مع ردود فعل “رياليتي” (الممثلة سيدني سويني) على استفسارات المحققين، إذ لم تبدِ الفتاة ما يدلّ على معرفة بالأمر أو توقّع له، وفي الآن ذاته لا اندهاش به أو ثورة عليه أو مقاومة تجاهه، ولا مشاعر حاسمة أو واضحة، كأنها فتاة بسيطة لا تعرف التصرف تماما أمام موقف كهذا، فتناقضَ سلوكها وتأرجَح بين ارتباك طفيف، واستخفاف عفوي، وبين ابتسامة بريئة أو تقطيب قلق.

“محققان من الـ”إف بي آي” يوقفان رياليتي” قبيل دخولها إلى منزلها

فقد لعبت المخرجة بذكاء كبير على المشاعر، فكانت كل محاولة لتخمين وضع الشابة بين سؤال وآخر وإجابة وأخرى، تبوء بالفشل. ومع فتاة عادية في لحظات الفيلم الأولى إلى أخرى يلفّها غموض متصاعد تدريجيا بعد عدة مشاهد، ترتفع وتيرة التشويق التي يُستهّل الفيلم بها ويداوم عليها على مدى ساعة وعشرين دقيقة.

صور حقيقية للفتاة “رياليتي” من أرشيف التحقيق

الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية لـ”رياليتي وينر” البالغة من العمر 25 عاما، وقد كانت تعمل مترجمة للفارسية والبشتون في شركة متعاقدة مع وكالة الأمن القومي، في فترة شهدت صعود “دونالد ترامب” إلى السلطة. وقد اتُهمت عام 2017 بتسريبها إلى الصحافة تقريرا سريا لوكالة الأمن القومي، يدّعي تلاعب قراصنة روس بالتصويت الإلكتروني لمصلحة “ترامب”، وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات في ولاية جورجيا الأمريكية، لتكون بهذا أول شخص أدين بموجب قانون التجسس تحت رئاسة “دونالد ترامب”.

وثائق الاستخبارات.. أدلة حقيقية تعيد تركيب المشهد

اعتمد الفيلم على وثائق بحوزة مكتب التحقيق الفيدرالي “إف بي آي” (FBI) كانت عبارة عن سيرة للفتاة إضافة إلى تسجيلات صوتية بينها وبين المحققين دامت حوالي ساعة ونصف.

وكانت المخرجة قد اعتمدتها في مسرحية أخرجتها سابقا، ثمّ قررت تحويلها إلى فيلم روائي يبدي اللحظات الحاسمة التي قلبت حياة “رياليتي”، ويكشف الطريقة التي يعتمدها أشخاص للحصول على اعترافات المستجوَبين، وأساليب التواصل بين الطرفين في جلسات التحقيق.

محققون يفتشون كل صغيرة وكبيرة في بيت “رياليتي”

وقد سعى الفيلم لإعادة تركيب حقيقة ما جرى، من خلال التسجيلات التي أصرّ على الاستعانة بها بين حين وآخر ضمن المشاهد، وعلى الرغم من أن ذلك شوّش استقبال الفيلم بعض الأحيان، فقد قوّى من أثر الاستجواب وعرّف بأجوائه، بما احتواه من تلعثم في الكلام ونوبات سعال، أو ضحك شديد، أو فترات الحرج في الحوار بين المحققين و”رياليتي”.

غرفة التحقيق.. فن التضييق والحصر في الزاوية

مع تطور الحوار في الفيلم بين المحقق الرئيسي (الممثل جوش هاميلتون)، تظهر تدريجيا تناقضات شخصية “رياليتي” وخفاياها، غرابتها وجوانبها المظلمة، وأيضا طرافتها، وروح دعابة لديها سرعان ما تعتذر عنه أمام محققين لم ينتبها له أو لم يهتما به. كما يكشف الحوار عن ثقافتها، وأنها كانت في أفغانستان في القوات الجوية الأمريكية، وعن اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، وخلال تفتيش بيتها تظهر لوحة لآية الكرسي.

خلال تفتيش بيت “رياليتي” تظهر لوحة لآية الكرسي ومصحف

وبعد بداية في مكان خارجي مفتوح (الحديقة)، ينتقل التصوير إلى مكان مغلق بالكامل، تعبيرا عن تضييق المجال أكثر فأكثر أمام المتهمة، وكأنه تمهيد لعزلها التدريجي، وإغلاق السبل أمامها، وحصرها في زاوية لا تستطيع الخروج منها.

وساهم في صناعة المشهد تأثيث الغرفة المختارة للتحقيق في بيتها (مهجورة مغبّرة في خلفية المنزل)، وحركة المحققين الجسدية عبر اختيار مواجهتها وقوفا طوال المدة، وتنقلاتهما بين دنو وابتعاد، مما أدى إلى الضغط على الضحية وإنهاكها، ودفعها تدريجيا بشكل تلقائي باتجاه الحائط، بعد أن كان الثلاثة في وسط الغرفة.

تعابير لغة الجسد ونغمة النطق.. كلام بين السطور

لقد أبرزت المخرجة بهذه اللغة البصرية والجسدية المؤثرة محيطَ الفتاة، واقتربت الكاميرا من تعابيرها المتحولة باستمرار، كاشفةً عبر نبرات الصوت وحركات الشفاه والنظرات عن حالتها النفسية خلال خضوعها للاستجواب.

أداء “سيدني سويني” الممثلة الشابة في دور “رياليتي” كان مبهرا، لدرجة تنحفر معها تعابيرها بكافة مستوياتها في الذاكرة

وانطبق الأمر على المحققين أيضا، مع تغير نغمة النطق والتعابير، فظلت تعابيرهما لطيفة مع بعض التصنّع والتظاهر بالإنسانية، كإبداء اهتمام بكلب الفتاة وقطتها، أو التعبير باستمرار عن إعجابهما بثقافتها ومعرفتها المتقنة بالفارسية وغيرها، أو ذكر حوادث من حياتهما لاعطاء الايحاء بأنهما قريبان منها.

لقد أصر المحققان على معرفة دوافع “رياليتي” في تسريب الوثيقة، وهو السؤال الذي كان يتكرر في الفيلم، أهي مناهضة “ترامب”، أم هو تمسّكها بالديمقراطية وخوفها عليها، أم عدم وطنيتها كما اتهمها البعض، أم أن لها علاقات مع قوى أجنبية؟

أسلوب التحقيق.. توتر وانهيار وحيوية تنعش قصة جامدة

أخرج أسلوبُ التحقيق الفيلمَ ­-بفعالية ومهارة- من كونه مجرد محادثة مصورة طويلة. لقد تعمق في زوايا الاستجواب السرية، مع إشارات للعناصر المخفية في المقتطفات الصوتية بفعل تدخل الرقابة.

وكان إظهار انهيار “رياليتي” التدريجي مثيرا بإتقانه، سواء على صعيد الإخراج في إبداء الأساليب التي يستعملها المحققان، أو تقنيات الاستجواب الهائلة الهادفة إلى التلاعب بالمتهم بأساليب تبدو غير مؤذية، بل أحيانا بريئة وعفوية.

تعابير لطيفة مع بعض التصنّع والتظاهر بالإنسانية أثناء التحقيق مع “رياليتي” 

كانت “رياليتي” تستسلم تدريجيا، وتتظاهر بالنسيان عندما تشعر بأنها محاصرة، ثم تنهار بعصبية وتنتهي بالاعتراف تحت تأثير وسائل الضغط المدروسة نفسيا.

لقد كان أداء “سيدني سويني” الممثلة الشابة في دور “رياليتي” مبهرا، لدرجة تنحفر معها تعابيرها بكافة مستوياتها في الذاكرة، وهذا هو دورها الأول، ويمكن القول إن إبداعها فيه كان عنصرا مهما جدا في فيلم قائم على الحوار في مكان مغلق.

أسرار الدولة العميقة.. عورات يكشفها الخارجون عن السرب

ليس الفيلم مجرد فيلم بوليسي أو محاكاة دقيقة للواقع عن فتاة “ضعفت” مرة، وأرادت تسريب خبر من ملفات سرية استطاعت الوصول إليها ولو بطريقة غير شرعية عبر عملها، فهناك جوانب أخرى يبرزها السيناريو المحكم، لا سيما في حواراته المتعلقة بآلية عمل الحكومة، وإبداء مدى تعقيد العلاقة بين السلطة والاستخبارات من جهة، وبين المواطنين من جهة أخرى، وعمل موظف في هيئة حساسة، وما يخضع له من ضغوط نفسية حين لا تتوافق توجهاته السياسية مع إدارته، أو حين يدرك -بحكم موقعه- أن هناك أشياء مهمة ورئيسية تُخفى عن الشعب.

“رياليتي” كانت مجندة سابقة في أفغانستان تعمل مع القوات الجوية الأمريكية

ويتطرق الفيلم أيضا في مشاهده الأخيرة إلى تأثير الإعلام في مثل هذه القضايا، وكيف يتلاعب بالرأي العام عبر نشره تحليلات عن شخصية “رياليتي”، واتهامها بكراهية أمريكا والميل إلى الشرق الأوسط، على الرغم من قولها إن تمسكها بالديمقراطية كان السبب الأول لفعلتها.

ولا تمنعنا جودة الفيلم فنيا وقدرته على التشويق والإثارة من أن نتساءل عن صحة ما ورد فيه موضوعيا، وهذا بعد انتفاء القضية الأساسية التي بُني عليها، بعد أن نشرت صحف أمريكية زيف الادعاءات حول التلاعب الروسي بالتصويت.

كما يبقى مطروحا التساؤل حول توقيت عرضه حاليا في الصالات الفرنسية والعالمية، أي قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة 2024 بسنة واحدة.