“الفتاة التي هربت”.. مراهقة حادة الذكاء تواجه نفسها وعدوها

القصة أقرب إلى قصص الرعب الخيالية بتفاصيلها الغريبة. فتاة شابة في ربيعها الخامس عشر، يختطفها رجل غريب في هدوء تام، وينقلها في سيارته إلى منزله، حيث يعتدي عليها مرات عدة، لكنها تتمكن بفضل ذكائها وقوة إرادتها من الهرب والإبلاغ عنه والمساعدة في تعقبه.

هذه القصة الحقيقية يتناولها بكل تفاصيلها وكما حدثت فصولها في الواقع، فيلم أمريكي من نوع الدراما الوثائقية (الدوكيو- دراما) بعنوان: “الفتاة التي هربت.. قصة كارا روبنسون” (The Girl Who Escaped: The Kara Robinson Story) الذي أخرجته الأمريكية “سيمون ستوك”، وقد عرض قبل فترة ولقي اهتماما كبيرا من جانب الجمهور وأجهزة الإعلام، بسبب شهرة القصة الحقيقية التي وقعت في عام 2002، وما يكشف عنه الفيلم من تفاصيل جديدة في مسار الأحداث.

كتبت سيناريو الفيلم “هايلي هاريس”، ويقوم على ما روته بطلة القصة “كارا روبنسون” نفسها، ولذا فالفيلم يتابع التفاصيل المثيرة، في سياق قريب من أفلام الإثارة البوليسية والتحقيق، ولكنه من وجهة نظر “كارا”.

أي أننا بعد المشاهد الأولى التي نراها من خلال نظرة “موضوعية”، نتابع ما يجرى من عيني “كارا”، ونشعر بمشاعرها وتأثرها وكيف عاشت التجربة، فالمخرجة -جعلتنا نحن المشاهدين- ندخل معها “الصندوق” الذي وضعها في داخله المختطف داخل سيارته، ثم نحبس معها داخل صندوق السيارة.

“إذا صرخت سأطلق الرصاص عليك”

نحن الآن في مدينة كولومبيا عاصمة ولاية كارولينا الشمالية. و”كارا” (تؤدي دورها الممثلة كاتي دوغلاس) هي ابنة 15 عاما، وتقضي عطلة نهاية الأسبوع مع صديقتها “جيس” (الممثلة صوفي كاريير) في منزلها. وفي الصباح، تتصل بأمها “ديبرا روبنسون” التي تعمل موظفة في شركة ما، وتخبرها بأنها ستذهب مع صديقتها إلى البحيرة، وأنها سوف تتأخر قليلا.

وبينما تذهب “جيس” للاستحمام، تخرج “كارا” لتروي النباتات المنتشرة في المساحة الخضراء أمام المنزل، فتلمح سيارة سوداء تقترب، ثم تتوقف ويخرج منها رجل ثلاثيني يبدو عاديا تماما، فيقول لها إنه يوزّع بعض أوراق الدعاية، ثم يسألها: هل والداك في المنزل؟ تجيبه: هذا ليس منزلي بل منزل صديقتي. ثم يعود ويسألها في برود تام: وهل والدا صديقتك في المنزل؟ فتجيب: كلا، أمها ليست في المنزل الآن.

لأول وهلة بدا سلوك “كارا” سلوكا تلقائيا، فهي لم تجد نفسها في حاجة إلى المراوغة أو الامتناع عن الإجابة، لأنها لم تجد الأمر مريبا. ولكن من الواضح أن الرجل أراد أن يتأكد من أنه لن يلاحقه أحد.

بعد ذلك مباشرة يقترب منها ويطلب منها حمل حزمة من أوراق الدعاية، لكنه يفاجئها ويضع مسدسا في رقبتها، ويطلب منها أن تسير معه في هدوء إلى سيارته قائلا “إذا صرخت سأطلق الرصاص عليك!”، ثم يأمرها أن تدخل في صندوق وضعه فوق المقعد الخلفي للسيارة.

رحلة الصندوق.. نفَس لاهث وعيون تلتقط التفاصيل

المدهش أن الفتاة كانت تستجيب من دون أي مقاومة أو اعتراض، لكن عقلها ظل يعمل باستمرار، وسوف تثبت لنا أن العقل اليقظ الذي يحتفظ بكل ما يمر به، حتى ما يبدو أنها تفاصيل صغيرة لا قيمة لها، إذ ستساعد فيما بعد في الإيقاع بهذا الشخص الذي سيتضح أنه قاتل بالتسلسل أو “سفاح”، لكننا حتى الآن لا نعرف عنه شيئا ولا نعرف دافعه، فنحن مثل “كارا” تماما نستقبل الأحداث ونحن معها، تحت تأثير الصدمة.

تدخل “كارا” الصندوق ثم تتحرك السيارة، وتبدأ في إحصاء عدد الدورات التي تقوم بها السيارة، وتنصت إلى الموسيقى التي يستمع إليها الرجل الغامض من مذياع السيارة وتحفظ نوعها ومصدرها، وتردد على نفسها ما يجب أن تفعله، وأنها يجب أن تنجو.

وتشير اللقطات القريبة لوجهها وعينيها إلى أننا سنرى ما يحدث منذ تلك اللحظة من وجهة نظرها، فهي تتلصص من فتحة الصندوق على الرجل، وتحاول معرفة الطريق الذي يسلكه، لكنها على الرغم من ذلك تشعر أيضا بالرعب، وتلهث بصوت مرتفع.

إبلاغ الشرطة.. تكاسل متعمد في اختفاء المراهقات

أسلوب القطع المتوازي بين حديثين يقعان في وقت واحد، هو الذي سيسود الفيلم بعد ذلك، أي أننا سننتقل إلى الجانب الآخر الذي لا نراه من وجهة نظر “كارا”، بل كما يريدنا صناع الفيلم أن نراه قبل أن نعود إلى “كارا” في محنتها، فسنرى أولا كيف تكتشف “جيس” غياب صديقتها، وتفشل في العثور عليها، ثم تتصل بوالدتها، التي تصاب بالفزع وتتصل بطليقها والد “كارا”، ثم بصديق “كارا”.

ونظل ننتقل بين ما يحدث لـ”كارا” وبين تداعيات حادث اختفائها، فقد أبلغت الأم الشرطة، لكنها أهملت الأمر في البداية وتصورت أن الفتاة مثل أي مراهقة غابت عن المنزل لأي نزوة كانت، ثم لا بد أن تعود، فكل ما يفعله ضابط الشرطة المناوب للأم عندما تذهب للإبلاغ عن اختفاء ابنتها، هو أن يطلب منها العودة إلى منزلها والبقاء بجوار الهاتف، لأن ابنتها يمكن أن تتصل.

ولا يفلح احتجاج الأم في دفع الشرطة لبذل جهد حقيقي في البحث عنها، إلى أن يتسرب الأمر إلى أجهزة الإعلام، وبعد أن يبدأ الأصدقاء حملة للبحث عن الفتاة الغائبة.

منزل القواعد.. فتاة ضئيلة أمام وحش ضخم الجثة

عندما تصل السيارة إلى منزل المجرم الخاطف، يقيد يديها ورجليها، ثم يضع قفلا على فمها لكي يمنعها من الحركة أو الصياح لطلب النجدة ولفت أنظار الجيران، ثم يدخلها الى المنزل. ويملي عليها “القواعد”، وهي أولا أنه سيحمل المسدس دائما، وثانيا يجب أن تناديه دائما “دادي” أي أبي، وثالثا ستنصت لكل ما يقوله وتستجيب له دون مناقشة، وإن أرادت أي شيء يجب أن تطلب الإذن، وإن خالفت إحدى هذه القواعد فسوف تترتب على ذلك عواقب وخيمة.

أما زاوية التصوير فتجعل الفتاة تبدو ضئيلة للغاية وهي تجلس فوق الفراش أمام هذا الرجل الضخم الجثة، الفارع الطول، وهي تتطلع إليه وتستمع إلى ما يقوله في رعب، خصوصا وأن المخرجة اختارت ممثلة قصيرة ضئيلة الحجم.

ومن أجل تصوير ما يدور داخل عقل “كارا” في تلك اللحظات القاسية، تستخدم المخرجة أسلوب الانتقال من الواقع إلى المتخيل. فالفتاة تفكر في الفرار، وتردد على نفسها: “اهربي الآن.. انجي بنفسك”.

ثم نراها وقد أسرعت بالجري بعيدا، لكن الرجل يعاجلها بإطلاق الرصاص عليها، فستقط على الأرض مضرجة بدمائها، لنكتشف أن هذا المشهد يدور في ذهنها فقط، وأن مجرد إدراكها لما يمكن أن يحدث لها يجعلها تتراجع. وسيتكرر مثل هذه المشاهد التي تدور في الخيال كثيرا فيما بعد خلال المحنة.

الفتاة كارا وهي مقيدة داخل صندوق وضع في السيارة

أريحية الحديث.. صداقة غير متوقعة في عمق الجحيم

تقضي “كارا” 18 ساعة في هذا الجحيم، وتتعرض للاغتصاب مرات عدة كما صرحت هي للشرطة فيما بعد، لكننا لن نرى مثل هذه المشاهد، فالفيلم يكتفي بالإيحاء بما سيحدث عندما يطلب منها الرجل مثلا أن تخلع قميصها، وهنا تظلم الشاشة لبعض الوقت، قبل أن تعود إلى الضوء، ومن دون أي مشاهد يمكن أن تسبب الحرج لصاحبة التجربة الأصلية في حياتها الخاصة.

وستقضي الفتاة 18 ساعة داخل هذا المنزل، وهي ترصد كل صغيرة كبيرة، فتقرأ ما كتبه الرجل غريب الأطوار حد الجنون على باب الثلاجة، من عناوين وأرقام هواتف طبيبه العام وطبيب الأسنان الذي يعالجه، واسم زوجته الثانية التي طلقها وصورتها.

ومع تحكمها في أعصابها ومشاعرها، تكتسب ثقته، لدرجة أنه يقول لها إنه بعد أن ينتهي منها سيتركها تذهب، وهذا ما لا يفعله عادة. لكن لا شيء مؤكد بالطبع، فهي تدرك تماما أنها أمام قاتل مغتصب بارد الأعصاب، مختل نفسيا، مدفوع بقوة شريرة، للاعتداء والاغتصاب والقتل.

هذا التحكم في الأعصاب من جانب “كارا”، وإشعار الرجل بأنها أصبحت صديقة له أكثر من كونها ضحية خائفة مرتعدة، يجعلها تبدأ أيضا في طرح أسئلة عليه يجيب عنها بمنتهى الأريحية والهدوء، ويكشف الكثير عن نفسه، دون أن يعترف بالطبع بجرائمه السابقة التي لن نعرفها إلا بعد ذلك، أي بعد أن تنجح في الفرار.

صورة المجرم الحقيقي ريتشارد إيفونيتز

صندوق القاتل.. ألغاز أعجزت الشرطة منذ سنوات

تنتهز “كارا” فرصة استغراق المختطف في النوم، وتخلص يديها من القيد الذي ربطها به في حافة الفراش، ثم تخلص رجليها، وتتوجه نحو باب المنزل في هدوء تام، وتنتزع المصراع، ثم تجري في الخارج بأقصى ما يمكنها من سرعة، لتستنجد براكبي سيارة، وهما شابان من الأمريكيين الأفارقة يأخذانها إلى مقر الشرطة.

وعلى الفور يتوجه معها الشرطيون إلى المنطقة، ويتوصلون أخيرا إلى مكان منزل الرجل، وسيتضح بعد التفتيش في الصندوق الموضوع تحت الفراش الذي أبلغتهم “كارا” عنه، أن بداخله الكثير من الأوراق والأشياء الغريبة، حيث سيعثرون على قصاصات صحف عن جرائم أخرى مماثلة كانت الشرطة قد عجزت منذ سنوات عن فك طلاسمها.

الآن أصبح القاتل قريبا، وهو “ريتشارد إيفونيتز” (38 سنة)، لكنه فر خشية القبض عليه، وأصبح يتصل بأفراد من عائلته، وستتوصل الشرطة إلى أخته فتشي بمكانه، لكنه يفر من مكانه، وبعد مطاردة طويلة مرهقة مع الشرطة يطلق الرصاص على نفسه وينتحر.

المجرم يفك قيود كارا بعد أن يدخلها منزله

قوة الذكاء والذاكرة.. أسلحة بسيطة تهزم المعتدي

بعد انتحار المختطف تشعر “كارا” بالإحباط الشديد، فقد ظلت تردد لنفسها أنها يجب أن تجعله يدفع ثمن ما ارتكبه بحقها، لكن رئيس الشرطة يزورها ويشكرها على ما قدمته من مساعدة لهم، فمن دونها لم يكونوا ليعرفوا أبدا كل هذه المعلومات، ولم يكن الجاني ليلقى جزاءه ولو بيده.

لكن كثيرا من المعلومات التي أحاطت بتلك الجريمة، لم تكشف عنها بطلة القصة إلا بعد مرور سنوات طويلة، فقد عاشت لفترة متأثرة كثيرا بقسوة التجربة، لكنها قررت الكشف عن كل التفاصيل، لمساعدة غيرها من الفتيات اللاتي يقعن في مثل هذه المواقف على الصمود، والتحلي بالثقة، والقدرة على هزيمة المعتدي والإيقاع به، وعدم الاستسلام للخوف الذي يشل قدرة المرء على الفعل الإيجابي، وهذه هي ميزة الفيلم ودوره ورسالته.

إن كل شيء مصوغ هنا بدقة شديدة، وبقياس محسوب للقطات والمشاهد حتى لا تنحرف باتجاه المبالغات. صحيح أننا أمام تفاصيل مرعبة، خصوصا ونحن نشاهد برود الرجل وأسئلته الكثيرة عن كل شيء في حياة ضحيته، وتسجيل ما يسمعه من إجابات ومعلومات منها في دفتر بيده (لا نعرف السبب سوى أن يكون نوعا من الهوس بالتدوين)، لكننا أمام دراما واقعية، لا تتجاوز كثيرا ما حدث في أرض الواقع.

كارا تنجح في التخلص من القيود أثناء نوم المجرم وتتمكن من الهرب

“كاتي دوغلاس”.. أداء محترف يوصل فكرة الفيلم

لا شك أن من أهم عوامل نجاح الفيلم في توصيل تلك الصورة القوية المقنعة، أداء الممثلة “كاتي دوغلاس” التي أدت دور “كارا”، فعلى الرغم من حداثة سنها وتجربتها، فإنها أدت الدور بكل دقة وثقة وإقناع، وقد استخدمت صوتها المتهدج في البداية، ثم تدريجيا أصبح صوتها أكثر وضوحا وثباتا، بعد أن اكتسبت الثقة في نفسها ونجحت في تغيير الدفة.

فبعد أن كانت الضحية الخاضعة المرتعدة، تجرأت وجعلت توجه الأسئلة وتحصل على المعلومات، ولولا ذكاؤها وذاكرتها المدهشة، لما أمكنها أن تروي فيما بعد للشرطة كلَّ ما اختزنته في ذهنها، بما في ذلك أرقام هواتف الأطباء الذين يتعامل معهم هذا الشخص المنحرف.

لقد عرفت “كارا” مثلا أن “ريتشارد إيفونيتز” قضى 15 عاما في البحرية الأمريكية تقنيا متخصصا في أجهزة السونار، ثم استقال والتحق بالعمل لحساب شركة لأجهزة ضغط الهواء. وقد عثرت الشرطة على قصاصات وتفاصيل مدونة تربط بينه وبين عدة جرائم مماثلة، منها جريمتا اغتصاب وقتل في عامي 1994 و1995، وفي العام التالي 1996 اختطف فتاة في عامها السادس عشر من حديقة منزلها الأمامية، واكتشفت جثتها فيما بعد، وفي 1997 اختطف فتاتين تبلغان 12 و16 سنة أيضا من الحديقة الأمامية لمنزلهما، واغتصبهما ثم قتلهما، واكتشفت جثتا الفتاتين بعد خمس سنوات.

كارا روبنسون الحقيقة اليوم

لم يساعد الفيلم فقط في تسليط الضوء على جريمة، بل التحذير من تكرار مثل هذه الجرائم. ولذلك لقي كل ما لقيه من اهتمام جماهيري.