حدث بالفعل.. ميكانيكي يخطف سفينة حربية من أجل حريته

ما يميّز تجربة المخرج الألباني “أرديت ساديكو” هو تنوّعها وثراؤها وغرابة موضوعاتها الصادمة، ففي فيلمه الوثائقي الجديد “ألكساندر” الذي تدور أحداثه في 11 سبتمبر/ أيلول عام 1990، قام ميكانيكي السفن “ألكساندر غرودا” بواحدة من أكثر المآثر جرأة في تاريخ البشرية الحديث.

فقد خطف سفينة حربية من أجل الحصول على الحرية له ولعائلته ولأناس آخرين قبِلوا بالمضيّ في هذه المغامرة إلى أقصاها، بعد أن طردته البحرية الألبانية من عمله، بسبب الانشقاق عن الحزب الشيوعي الألباني.

“ألكساندر”.. شاب متفتّح يبحث عن فضاء للحرية

مع أن حادثة خطف السفينة الحربية قد وقعت في زمن الرئيس الألباني “رامز علياء”، فإن الأسباب تعود إلى حقبة الرئيس الذي سبقه “أنور خوجة”، وقد وُصِف نظامه الدكتاتوري آنذاك بأنه “الأشدُّ قمعا ودموية في تاريخ أوروبا الحديث”، وقد حكم هذا البلد الصغير بالحديد والنار على مدى أربعين عاما، قضى فيها على غالبية المعارضين لنظامه الشيوعي، ولم يتورّع -وهو مسلم- عن إعلان ألبانيا “أول دولة ملحدة في العالم” سنة 1967، وذلك خلافا لرغبة الغالبية العظمى من الشعب الألباني.

فلا غرابة أن يبحث الشباب المتفتّح عن فضاء جديد للحرية والديمقراطية والعيش الرغيد، فقرّر “ألكساندر” أن يخطف سفينة حربية، كانت راسية في مدينة شكودر عند ضفاف بحيرة سكوتاري التي تربط بين شمال ألبانيا والحدود الصربية الكرواتية (اليوغسلافية سابقا)، وكان “ألكساندر” حينها شابا يافعا، وقد تزوّج من “ماريانا” وأنجبت له سنة 1986 بنتا أسمياها “أنيسة” فملأت حياتهما فرحا وصخبا ومسرّة.

صُورت أحداث الفيلم ووقائعه في أربعة بلدان، وهي ألبانيا والجبل الأسود وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في نيويورك، المدينة التي يقيم فيها “ألكساندر غرودا” مع زوجته “ماريانا” وابنه الذي سوف يُولد هناك.

الاستعادة الذهنية.. تقنية تعيد سرد قصة الفيلم

ارتأى المُخرج “أرديت ساديكو” أن يبني فيلمه الوثائقي وفق تقنية الاستعادة الذهنية، فاختار مناسبة ملائمة، وهي بناء نُصب تذكاري لابنته التي قُتلت على متن السفينة الحربية بعد اختطافها بدقائق قليلة، فقد أُصيبت برصاصة اخترقت صورة الدكتاتور “أنور خوجه”، وأصابتها في رأسها، فسقطت صريعة في الحال.

يبدأ المخرج وكاتب السيناريو بتسليط الضوء على شخصية “ألكساندر” الذي عرفناه مختصا في ميكانيكا السفن، وأكثر من ذلك فهو يعرف أسرار هذه السفينة الحربية، فقد عمل في أروقتها مدة من الزمن، وصار يعرف كل صغيرة وكبيرة فيها بدءا من المحرّك، مرورا بالبطاريات والمغذيات الكهربائية والمدافع الرشّاشة، والبنادق الآلية الموزعة في أرجائها، والزوارق السريعة المدججة هي الأخرى بالرشاشات الآلية، وبعض الأسلحة الخفيفة التي تستعمل عند الضرورة القصوى في حالات الهروب والتسلل التي يقوم بها غالبا الشباب الألبانيون الحالمون بحياة رغيدة وحريّات شخصية وعامة لا تتوفر في ظل النظام القمعي الألباني.

تحريك السفينة واعتقال الجنود.. بداية العملية

تتوفر قصة الفيلم على تصعيد درامي يمكن أن نلمسه في أكثر من موضع، فقد نجح “ألكساندر” بفصل السفينة عن عمود الكهرباء الذي كان يغذّيها في تمام الساعة 13:20 بعد الظهر، وربط الزورق السريع إلى جانب السفينة، وأدخل 18 شخصا إلى سطحها، منهم زوجته “ماريانا” وابنته “أنيسة” ذات الأعوام الأربعة، وطلب منهم الذهاب إلى مقدمة السفينة لكي يتفادوا رشقات الأسلحة النارية.

ثم ذهب إلى غرفة المحرّك لكي يشغّله بعد أن قسّم فريقه إلى مجموعتين، نجحت الأولى في السيطرة على القائد واحتجازه، كما أفلحت المجموعة الثانية في السيطرة على الضابط “عبدي خليلي” وجنوده، وأخذوهم رهائن إلى حجرة في مقر القيادة داخل السفينة، فأصبح “ألكساندر غرودا” هو الآمر الناهي.

ألكساندر غرودا يعمل بوابًا في في فنادق ترامب كوربوريشن

لم يفلت من السفينة سوى الطبّاخ الذي ألقى بنفسه إلى البحيرة، وأحد الجنود الذي بدأ بإطلاق النار من بندقية آلية، لكن السفينة كانت تتحرك صوب المياه الإقليمية اليوغسلافية (آنذاك)، الأمر الذي حدّد خيارات الألبان ودفعهم إلى التفكير بتداعيات هذا الحادث لو أنهم استعملوا المروحيات العسكرية، أو قصفوا السفينة بطائرة مقاتلة.

“أخذ روحا واحدة وأنقذ الجميع”.. فاجعة تفسد النشوة

ثمة سيارة شرطة حاولت تدارك الأمر، وبدأ أفرادها يُطلقون الرصاص من بنادق رشاشة وصلت زخّاتها إلى مقدمة السفينة التي لاذ بها المُختطِفون ومن معهم من نساء وأطفال، لكن “ألكساندر” ظل يقود السفينة حتى تجاوز المياه الإقليمية الألبانية، حيث توقف المحرّك، لكنه استطاع إصلاحه بوقت قياسي، وهو يعرف جيدا بأنّ المسافة برمتها لا تستغرق أكثر من 25 دقيقة، ليصل إلى بلده “زوگاي” في الجانب اليوغسلافي.

التقط “ألكساندر” أنفاسه في غرفة القيادة، لكن هذا الشعور بالراحة لم يستمر طويلا، فقد دخل عليه ثلاثة أشخاص مُحطّمين نفسيا، ومعهم “ماريانا” المنكسرة، ليخبروه بأنّ ابنته “أنيسة” قد قتلت إثر إصابتها برصاصة في رأسها، وعلى الرغم من الإحباط الكبير الذي أصابه، فقد قرّر أن يُنهي ما بدأه من مغامرة، ويسلّم نفسه إلى الجانب اليوغسلافي.

لقد شعر “ألكساندر” حينها “بأنّ الله قد أخذ روحا واحدة وأنقذ الجميع”. وعلى الرغم من هيمنة الفكر اليساري لمدة طويلة على الشعب اليوغسلافي، فإنهم كانوا يتمتعون بمساحة أوسع من الحرية، ويتعاطفون مع الشعب الألباني، فلا غرابة أن يُحضروا الطعام والملابس ويقدِّموها للعوائل الألبانية الهاربة، ويتمنون لهم مستقبلا أفضل في البلدان المانحة لحق اللجوء.

“اذهبوا أنتم، أنا لا أريد الذهاب”

تتوسع حركة الشخصيات، فنتعرف على “ماريان”، وهو رجل ألباني مخمور على الدوام، يقترحون عليه اللجوء إلى أستراليا، لكنه لم يسمع بهذا البلد حينما كان عمره 26 عاما، وقد تزوج غير مرة، لكنه لم ينجب أطفالا، فذهب إلى ديار الغربة لوحده وعاش هناك، حيث تعلّم اللغة الإنجليزية، واندمج في المجتمع الجديد.

الألباني الذي لجأ إلى بلد لم يسمع به من قبل

كما نتعرّف على “برانكو” الذي يرافق “ألكساندر” إلى مقبرة الكنيسة، لينقلوا رفات أنيسة التي دُفنت في الجانب اليوغسلافي من البحيرة. كما نلتقي بعدد من أصدقاء “ألكساندر” ومعارفه وأقربائه الذين يعبِّرون عن وجهات نظرهم بحادث اختطاف السفينة والهروب إلى الحرية، حتى أن بعضهم عد عملية الاختطاف حدثا وطنيا يتجاوز حدود المصلحة الذاتية والأُسرية.

تروي الأم “ماريانا” من طرفها الحادث المُفجع الذي هزّ العائلة وقلبها رأسا على عقب، فقد طلبت من ابنتها أنيسة أكثر من مرة أن تأتي وتجلس في حضنها، لكنها لم تستمع إلى أمها، وكانت تتحرك على متن السفينة الحربية، حتى أُصيبت بتلك الرصاصة المشؤومة التي اخترقت صورة الرئيس أنور خوجة واستقرت في رأسها وأودت بحياتها في الحال.

وكأنّ لسان حالها يقول “اذهبوا أنتم، أنا لا أريد الذهاب”. ومما فاقم أمر الوالدة المفجوعة أنها كانت حبلى بابنها في شهرها السادس، ومن الصعوبة بمكان أن ترى ابنتها جثة مسجّاة على طاولة لمدة ساعة وعشرين دقيقة، قبل أن تُدفن في مقبرة كنيسة مجاورة لمكان الحدث.

جثث المهاجرين.. أهداف للجيش الألباني في شباك الصيادين

لم يرصّع المخرج الألباني “أرديت ساديكو” فيلمه بلغة تعبوية وشعارات رنّانة تُدين النظام الدكتاتوري المتسلّط على الشعب الألباني، بل كان يُوحي بقسوة النظام واستبداده من خلال بعض الإشارات والقصص التي تدور أحداثها على الحدود الألبانية.

فقد أخرجت الجهات المعنية 27 جثة من بحيرة سكوتاري، كلهم من الشباب الذين لم ينجحوا في عبور الحدود، وكانوا أهدافا واهنة للجيش الألباني وحرس الحدود، فأطلقوا عليهم النار بدماء باردة، ثم وُجدت جثثهم في شباك الصيادين الألبان الذين كانت تتقطّع نياط قلوبهم حُزنا على هذه المَشاهد المؤلمة، من شباب كانوا يحلمون بحياة اقتصادية أفضل، ورئة جديدة يتنفسّون بها هواء الحرية العذب.

تعترف الغالبية العظمى من الشعب الألباني بفرحها لانهيار المنظومة الاشتراكية، بل إن كثيرين منهم يعدون “غورباتشوف” شخصا عظيما. وقد ذكر أحدهم بأنه قرأ مقالا قي صحيفة “بيلد” الألمانية حين نشرت مقالا يحمل عنوان “شكرا غوربي”، ويتمحور حول فكرةٍ مفادُها أنه “لولا ما قام به غورباتشوف لكان لدينا نفس القادة الذين اعتدنا عليهم سابقا”، أي لولا سياسة البيريسترويكا “إعادة الهيكلة” والغلاسنوست “الشفّافية” لما تبدّل شيء في المنظومة الشيوعية.

أطلال الثكنة.. موقع غطته الأعشاب واستوطنته الأبقار

يسترجع “ألكساندر” ذكرياته في غالبية المناطق التي وطأها على مشارف البحيرة، وخاصة ممر الجنود المفضي إلى ملاجئ الرصد والمراقبة، والأنوار الكشّافة التي تفضّ عتمة الليل، وأعمدة الكهرباء التي تزود السفن بالطاقة الكهربائية.

ماريانا التي فقدت فلذة كبدها ولم تنسَ حادثة قتل ابنتها البكر أنيسة

لقد تغيّرت أشياء كثيرة بعد مرور 32 سنة، فالبناية التي كانت تضم غرف الضباط والجنود أصبحت خالية الآن، وبدل المدافع والبنادق الآلية الرشاشة نلمح بعض الأبقار ترعى في الأراضي الخضراء التي غطّت أعشابها الطويلة مواضع الجنود وخنادقهم الشقيّة، كما تحولت الثكنة برمتها إلى منْحل كبير يدر بالخير الوفير على مالكيه.

تضخم الأنا.. مجموعة الأبطال التي تنكرت للقائد

لم تنقطع اتصالات “ألكساندر” بأهله وأصدقائه ومعارفه الكثيرين، فهو كائن اجتماعي بطبعه، ويحب سماع الأخبار الطيبة لأهالي مدينته وبلده بشكل عام، لكنه يشكو من بعض الذين تضخّمت عندهم عقدة الذات المريضة والأنا العليا، فكل واحد من المجموعة التي هربت على متن السفينة الحربية يريد أن يكون بطلا، ولولا الميكانيكي لما تحرّكت السفينة قيد أنملة من المرسى.

ربما يكون “ماريان” الذي طلب حق اللجوء إلى أستراليا هو الشخص المنصف الوحيد بين الـ21 شخصا الذين هربوا على متن السفينة المخطوفة، واعترفوا بالجميل الذي أسداه “ألكساندر” لهم، وغيّر مجرى حياتهم ونقلهم من حياة الذلّ والاستعباد إلى فضاء الحرية، وبحبوحة العيش الرغيد.

وليس من العدل نسيان هذا الجميل، فلولاه لكانوا جميعهم أسرى عند الدكتاتور الألباني، وضحايا للفقر والمجاعة وهواجس الخوف الذي يلاحقهم ليل نهار.

بواب الفندق.. رجل لا تفارقه صورة ابنته بعد 30 عاما

نتعرف على شخصية “برانكو” أيضا، وهو من أقرباء “ألكساندر” ومن بين أصدقائه الحميمين، وقد اصطحبه إلى الضفة اليوغسلافية، وأخذه إلى الكنيسة القديمة التي يبلغ عمرها 400 سنة بالتمام والكمال، وبدأ يبحث عن القبر الذي أودع فيه جثة الضحية “أنيسة”، ثم فتحه وجمع فتات رفاتها الذي لم يبقَ منه شيء يُذكر سوى الجمجمة والشعر، ونقلاه إلى مقبرة العائلة في مدينة شكودر.

ولم يكن النُصب التذكاري للضحية “أنيسة” هو العلامة الفارقة في هذا الفيلم، فثمة كاتب محلي من المدينة ذاتها قد أصدر كتابا وثّق فيه السيرة الذاتية لهذه الطفلة التي فارقت الحياة في مطلع طفولتها، وسلّط الضوء على مجمل الوقائع التي رافقت عملية اختطاف السفينة الحربية.

المخرج الألباني أرديت ساديكو

يختتم المخرج “أرديت ساديكو” فيلمه بلقطات ومَشاهد حيوية جميلة تُظهر “ألكساندر” وهو يعمل بوابا في أحد فنادق “ترامب كوربوريشن” في مدينة نيويورك التي لا تنام، ويمرّ فيها الزمن سريعا مثل البرق الخُلّب. وعلى الرغم من مرور 32 سنة، فإنه لم يستطع حتى الآن تجاوز طيف ابنته الذي نُقش في شاشة ذاكرته، وتشبّث في تلافيف القلب.

“ساديكو”.. أفلام تحصد الجوائز في المهرجانات

بقي أنّ نقول إن “أرديت ساديكو” هو مخرج سينمائي من مدينة شكودر في ألبانيا. وقد بدأ في صناعة الأفلام القصيرة عندما كان مراهقا، وأخرج سبعة أفلام قصيرة، من بينها “باب الأمل” (Dera e Shpresës)، و”حياة خضراء” (Green Life)، و”حرب الأمواج” (The War of Waves) و”الشريط” (Tape).

إضافة إلى خمسة أفلام روائية ووثائقية وهي “الحياة بين المياه” (Life Between the Waters) و”الجبل المفقود” (The Forgotten Mountain) و”لقاء على الهواء” (Encounter in the Air) و”سباحة حرة إلى مونتينيغرو” (Free Style to Montenegro) و”ألكساندر” (Alexander).

حظيت أفلام “ساديكو” بعروض في المهرجانات المحلية والدولية، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ونالت عددا من الجوائز والتنويهات، وذلك بسبب جودتها الفنية وأهمية الموضوعات الاجتماعية التي تعالجها، مثل القمع والاستبداد والهجرة واللجوء والصراع بين الأجيال، والأمراض النفسية والعقلية، ودور وسائل الإعلام في المجتمع المعاصر.