“سعادة عابرة”.. يوميات الحب والحرب والحياة في القرى الكردية النائية

يجمع فيلم “سعادة عابرة” (Transient Happiness) للمخرج العراقي الكردي سينا محمد بين التقنيتين الروائية والوثائقية، ومرد ذلك إلى انغماسه في إنجاز عدد من الأفلام الوثائقية، بذل فيها جهدا كبيرا لمحاذاة الكمال، أو مُعانقته في أفضل الأحوال.

كما أن هذا الفيلم (67 دقيقة) مستوحى من سيرته الذاتية والأُسَرية إلى حدٍ كبير، فهو يوثق أكثر مما يروي، وهو من “الجيل الأول الذي ينظر إلى الحياة ويحب أن يصنع عنها فيلما”، ويثبت هذا نزعته التوثيقية التي يركز فيها على مجموعة من القضايا الرئيسية والفرعية، منها الحُب والزواج، والمشاعر المكبوتة، والصحة والموت، والحياة الريفية، والحرب والتهريب، وما إلى ذلك من موضوعات شديدة الأهمية لدى سكان القرى والأرياف النائية المحصورة في المثلث العراقي التركي الإيراني، ويستوطنه الكرد الخلص الذين يعمل جلهم في الزراعة وتهريب البضائع إلى إيران على وجه التحديد.

وقد شارك هذا الفيلم بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي، ونال جائزة أفضل فيلم، وجائزة أفضل ممثلة عن دور بطلته پروين رجبي.

بناء الفيلم.. أبطال غير محترفين وقصة غير مرسومة

يقول مخرج الفيلم سينا محمد، إن فيلمه لا يعتمد على سيناريو حقيقي متكامل، فليس بين يديه أكثر من عشر صفحات هي “أشبه بمخطط تفصيلي”، وهو يصور تلك الصفحات العشر، وحينما يصادف مشاهد واقعية جديدة يصورها ويضيفها إلى متن الفيلم.

كما هو الحال في مشهد النساء الثلاث اللواتي يتحاورن في موضوعات الحُب والعمل والعلاقات الزوجية، أو مشهد “الكولبار” (حمّالو الأمتعة) الذين يهربون البضائع إلى إيران مقابل مبالغ بخسة، مع أنهم يتعرضون لأخطار جمة، قد تصل إلى حد الموت أو الإصابة البليغة.

بروين خان تودع زوجها القصاب صباح كل يوم لترعى الأغنام وتدير شؤون البيت حتى يعود

ووفق هذه الرؤية التوثيقية، يشيّد المُخرج فيلمه من دون ادعاء تحطيم الثوابت والاشتراطات الفنية، مثل إلغاء السيناريو، أو تفادي المونتاج، أو إهمال بعض المؤثرات السمعية والبصرية، كما أنه لم يختر ممثلين محترفين لأداء شخصيات الفيلم، بل اختار أشخاصا عاديين، منهم الرجل المُسن صالح باري وزوجته بروين رجبي، اللذين تناصفا البطولة، وأديا دوريهما بسلاسة وعذوبة يُغبطان عليها حقا.

وقد فازت بروين بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي عام 2023، لأنها أحاطت بدورها وأعطته حقه بالتمام والكمال، حتى صدّقها غالبية من شاهدها في هذا الفيلم الواقعي بامتياز. كما فاز المخرج سينا محمد بجائزة أفضل فيلم “عربي” مع أنه فيلم كردي بامتياز.

شيخوخة الحب.. إهمال عاطفي يفتح باب الأمراض والمشاكل

تتكئ قصة الفيلم على قضيتين رئيسيتين هما الحُب والحرب، ومعهما قضايا أخرى أشرنا إليها سلفا. وقد أحب الزوجان بعضهما حينما كانا شابين يافعين، لكنهما يصبحان بعد العمر المديد ضحية للكبر وفريسة للأمراض الطارئة والمزمنة، فلا غرابة أن يفتر هذا الحُب وتخفت حدته وحماسته مع مرور الزمن.

فها هي ذي الزوجة بروين خان تربي الخراف، وتقوم بكل الأعمال المنزلية من طبخ وغسل وتنظيف، في حين ينقل الزوج القصاب أغنامه على دراجته النارية، ثم يذبحها ويبيع لحومها لأبناء القرى المجاورة في عمل دائب يتكرر غير مرة على مدار النهار.

الزوجة بروين خان بعد أن أفنت عمرها في العمل في بيتها، أمست تفتقد الحب والحنان

وتتراجع صحة بروين خان، لا بسبب الأمراض العابرة أو كبر السن، بل نتيجة لإهمال زوجها لها، وقد فحصتها إحدى الخبيرات وتأكدت من أن سُرتها لا تعاني من شدٍ عضلي. وفي مَشهد آخر نراها تساعد زوجها في ترميم سقف إحدى الغرف، لكن زوجها لا يكف عن انتقادها، فالطين الذي صنعه بالأمس بيده يفتقر إلى الجودة المطلوبة، ويطلب منها أن تضيف إليه المزيد من القش، كي يتماسك ويصبح أكثر قوة.

ثم تبدأ بالتذمر والتشكي من أن عمل البيت لا ينتهي، “وأنها مريضة وعلى وشك الموت”. بل إنها تتمنى أن يجلب شخصا آخرَ يؤدي عنها هذا العمل الشاق، لكن الزوج يُلقي اللوم على كبر السن وما يجلب معه من المشاكل الصحية.

ولا تجد الزوجة حرجا في القول إنها لا تبدل نفسها بأربعين فتاة جميلة، وكأنها تشير من طرف غير خفي إلى أن كلمات الحُب تفعل الأعاجيب، لو أنه استعاد لمحات بسيطة من علاقتهما العاطفية التي كانت متقدة في سنوات الزواج الأولى، قبل أن تخفت وتفقد بريقها الرومانسي الجميل.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الحادثة أيضا مستقاة من قصة حقيقية لوالدة المخرج الذي اصطحب أمه إلى طبيب جيد في مدينة أخرى، ولم ينصحها إلا بالقليل من الراحة، لكنها “شعرتْ بتحسن كبير وأحست بأنها أصغر سنا مما هي عليه في ذلك الوقت. فالحب هو العلاج السحري الذي يمنح المريض طاقة إيجابية لا حدود لها.

شريط “سعادة عابرة” ليس فيلما وإنما هو “حياة حقيقية”

أراد سينا محمد أن يقول إن شريط “سعادة عابرة” ليس فيلما وإنما هو “حياة حقيقية” فقد قام ببناء منزل ريفي لعائلة كردية، وزرع حقول دوار الشمس، وظل يسقيها لمدة تسعة أشهر حتى تنمو لكي يصور أحداث فيلمه الواقعي بامتياز. وثمة إحساس مُرهف بأن قريتهم سوف تتعرض للقصف بعد أن تعرضت القرى المجاورة ونالت نصيبها من الدمار والتخريب، فلا غرابة أن يذهب زوجها ويشتري لها بعض الأدوية التي تحتاجها سواء بسبب المرض أو الشيخوخة أو الإهمال العاطفي.

الزوجة منهكة نفسيا ربما بسبب المرض أو الشيخوخة أو الإهمال العاطفي

ويتناول المخرج ثيمة جانبية تتعلق بـ “الكولبار” الذين يهربون الأجهزة الإليكترونية والسجائر والأقمشة إلى إيران ويتقاضون أجورا زهيدة لا تتناسب مع المخاطر الجمة التي يواجهونها، وقد تصل إلى حد الموت أو الإصابة أو السجن. حيث يتعالق المخرج مع بعض الأخبار التي تتحدث عن خمس جثث من الكولبار عثر عليها في شمال شرقي كردستان حيث تتكرر مثل هذه الحوادث المفجعة بين آونة وأخرى.

لا تنسى بروين خان تنبيه زوجها لشراء بعض حاجات المنزل، لكنه ما إن يعود متعبا من التنقل والعمل المتواصل حتى يطلب تهيئة السرير والخلود إلى النوم، وكأنه غريب عنها، أو كأن علاقتهما العاطفية قد طُمرت في زوايا النسيان.

“احضنيني”.. جملة سحرية أعادت الصحة للبدن والروح

لا يتأخر المخرج سينا علي في حسم القصة العاطفية، وقد بلغت ذروتها حين مَرضت بروين خان، فقرر زوجها أخذها للطبيب حين ساءت حالتها الصحية وعجزت عن الوقوف على قدميها، فوضعها خلفه على الدراجة النارية، وحملها إلى مستشفى يبعد عن المنزل مسافة بعيدة نسبيا، وقد طلب منها في هذه الرحلة أن تبدل جلستها وتحتضنه من الخلف.

حين حضنته وهو ذاهب بها إلى الطبيب، شعرت الزوجة بعودة صحتها لها

وحين فعلت ذلك شعرت بأنها تستعيد ماضيها العاطفي كله مع هذا الرجل الذي أحبته وأخلصت إليه، عندها فقط شعرت بأن أعراض المرض قد غادرتها إلى الأبد، وطلبت منه أن يعود أدراجه، لأن جملة “احضنيني” كانت كافية لأن تُعيد الصحة لبدنها، والحيوية لروحها التي انتعشت في لحظة الاحتضان.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الحادثة أيضا مستقاة من قصة حقيقية لوالدة المخرج، وكان قد اصطحب أمه إلى طبيب جيد في مدينة أخرى، ولم ينصحها إلا بالقليل من الراحة، لكنها شعرتْ بتحسن كبير وأحست بأنها أصغر سنا مما هي عليه في ذلك الوقت. فالحب هو العلاج السحري الذي يمنح المريض طاقة إيجابية لا حدود لها.

حمالو الأمتعة.. مهرّبون يحملون أرواحهم بين أيديهم

أراد المخرج سينا محمد أن يقول إن فيلم “سعادة عابرة” ليس فيلما بل “حياة حقيقية”، فقد بنى منزلا ريفيا لعائلة كردية، وزرع حقول دوار الشمس، وظل يسقيها 9 أشهر حتى تنمو، لكي يصور أحداث فيلمه الواقعي بامتياز.

وثمة إحساس مُرهف بأن قريتهم سوف تتعرض للقصف، بعد أن قُصفت القرى المجاورة ونالت نصيبها من الدمار والتخريب، فلا غرابة أن يذهب زوجها ويشتري لها بعض الأدوية التي تحتاجها، سواء بسبب المرض أو الشيخوخة أو الإهمال العاطفي.

“الكولبار” الأكراد يهربون الأجهزة الإلكترونية والسجائر والأقمشة إلى إيران

يتناول المخرج قضية جانبية تتعلق بـ”الكولبار” (حمّالو الأمتعة) الذين يهرّبون الأجهزة الإلكترونية والسجائر والأقمشة إلى إيران، ويتقاضون أجورا زهيدة لا تتناسب مع الخطر الكثير الذي يواجههم، وقد يصل إلى حد الموت أو الإصابة أو السجن.

ويورد المخرج أخبارا تتحدث عن 5 جثث من الكولبار، عُثر عليها في شمال شرقي كردستان، وتتكرر مثل هذه الحوادث المفجعة بين آونة وأخرى.

يتعرف المُشاهد على عدد من القرى الكردية الحدودية مثل غوران في منطقة سوما، التي سيدفنون فيها الجثث الخمس بحضور عدد كبير من أهالي القرى المجاورة، مع أن الحكومة وأعضاء البرلمان لم يشاركوا عوائل الضحايا في محَنهم المتواصلة. ولو تأملنا قرية غوران جيدا لوجدنا أنها تتألف من أكثر من ألفي مواطن غالبيتهم عاطلون عن العمل ولا مفر لهم سوى التهريب.

القصف والحرائق.. ظواهر مألوفة تتخلل الحياة اليومية

يتكرر القصف في اليوم الثاني، ويستهدف دكانا على قارعة الطريق، فيذهب ضحيته الحاج كريم وآخرون كانوا معه في تلك اللحظة المشؤومة، علما بأن الموت قد أصبح ظاهرة مألوفة، وأن الكرد يلقون باللائمة على دول الجوار، ومع ذلك فهم مستمرون في العمل، فيسقون المزروعات، ويواصلون الحياة اليومية.

وتستهدف غارة جوية تركية منزلا في مصيف كونا ماسي بمدينة السليمانية، فتصيب أربعة أشخاص، ثم تحرق غارات تركية وإيرانية مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية، وتصيب عددا من الأشخاص والمزارعين الذي كانوا في مكان الحادث.

وثمة معلّم ينتقل إلى الجانب الآخر من البحيرة، ليجلب لتلاميذه دفاتر رسم وأقلاما ملونة، وقد كلف رجلا بجلبها من المدينة، لكن الغارة الجوية التركية كانت أسرع من الجميع، فأحرقت بدنه في ذلك الصباح، ونقلت روحه إلى جوار رب رحيم.

“سعادة عابرة”.. قصة توثق ألوان الحياة القروية الكردية

مع أن القصة السينمائية متصدعة، وليس فيها سيناريو محترف، ويتداخل فيها السرد الروائي بالتوثيق، فإن المخرج سينا محمد استطاع تقديم فيلم يوثق الحياة القروية الكردية البسيطة والمتواضعة، ويستنطق أعماق المواطنين الكرد من مختلف الأجناس والأعمار والخلفيات الثقافية والاجتماعية.

وجدير بالذكر أن سينا محمد من مواليد 1988 بمدينة السليمانية، وقد تخرج في جامعة التنمية البشرية، وهو كاتب وشاعر أيضا، وقد أخرج أكثر من 200 إعلان تلفزيوني، وكتب وأخرج 7 أفلام قصيرة و30 فيلما وثائقيا، منها مشاريع ناجحة مع “بي بي سي” و”ناشيونال جيوغرافيك”.