“تحرير سيلفيا بارالديني”.. قصة امرأة من زمن الكفاح النبيل

مشهد بالأبيض والأسود يمكن أن يتكرر في كل بلد، مشهد أمني بوليسي، مخبرون بملابس مدنية يقفون على ناصية أحد الشوارع، هذا يدخن والآخر ينظر في الفراغ، ولكنهم جميعا ينتظرون لحظة قدوم امرأة ما لإلقاء القبض عليها، بينما تكون سيارة وحراس آخرون بانتظارهم، لكي تلقى مصيرها سجنا وعقابا، وأيضا سيرة نضالية تستحق التكريم والتشريف.

إنه المشهد الأول من الفيلم الوثائقي “تحرير سيلفيا بارالديني” (Freeing Silva Baraldini) للمخرجة الكندية “مارغو بيلتييه”، الذي طاف على عدة مهرجانات، حاصدا عددا من الجوائز والاهتمام الكبير.

ما نلبث أن نتنقل في دراما وثائقية عاصفة مع سيرة حياة ورحلة المناضلة اليسارية الأمريكية “سيلفيا بارالديني” التي ملأت الدنيا وشغلت الناس لجرأتها ومساندتها كفاح المضطهدين في أنحاء العالم، وخاصة كفاح السود في الولايات المتحدة، إبان صعود حركات الاحتجاج والتجمعات اليسارية، لا سيما تلك التي اتجهت للدفاع عن حقوق السود والمناداة بالمساواة والعدالة الاجتماعية، ابتداء من مطلع الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات، وهو العصر الذهبي لتلك التيارات التي تزامنت أيضا مع سطوع نجم التيارات النسائية وحركات تحرر المرأة المطالبة بحقوق وقوانين أكثر عدلا.

حركة الفهود السود.. نقطة تحول في الحرب ضد العنصرية

يحتشد الفيلم بتفاصيل رحلة شاقة خاضتها “سيلفيا” في صعودها العاصف مع تيارات الثوار والمحتجين، وتصيبك الدهشة وأنت تراقب حجم التضحيات والتحديات والصعوبات التي واجهتها تلك الحركات الديمقراطية، فقد واجهتها السلطات بشراسة في عدة ولايات.

وكانت مفارز “أف بي آي” أكثر بطشا بالناشطين، إذ ألقت بهم في السجون ولاحقتهم بلا هوادة، واستخدمت كل أشكال السطوة والعنف وصولا إلى التعذيب النفسي والجسدي، حتى أن “سيلفيا” التي ما زالت حية ترزق تعلق على تلك الغطرسة والهمجية وأشكال الترويع النفسي، بأنها كانت تجارب أنتجت القصص المأساوية لسجن غوانتانامو، فهو ليس إلا تراكما للخبرة في اضطهاد الناشطين والحقوقيين وثوار اليسار والمنادين بالحريات المدنية وحقوق السود في حياة أفضل.

المخرجة الكندية “مارغو بيلتييه”

كانت ولادة “حركة الفهود السود” (Black Panther Party) في منتصف الستينيات من القرن الماضي بمثابة نقطة تحول مركزية في هذه الحركات الثورية الناشطة التي سرعان ما وجدت “سيلفيا” فيها مناخها الخصب، بعدما اكتسبت هذه الحركة مساندين وأعضاء، واتخذت شكلا تنظيميا بشكل متسارع أوصلها إلى أن ينضوي تحت لوائها عشرات الألوف في الولايات المتحدة.

كما أنها هي التي أطلقت مطالبها من خلال عشرة أهداف أساسية، لا تتعدى جميعها منح السود في المجتمع حقوقهم الأساسية وحرياتهم، والاعتراف بكرامتهم، ومساواتهم في الحقوق المدنية، ومنحهم الحق في السكن والتعليم والرعاية الصحية، والحد من إجبارهم على الخدمة في الجيش لتنفيذ مخططات توسعية وعدوانية.

هروب “أسيتا شاكور”.. ملاحقات أمنية وأحكام قاسية

شهدت الولايات المتحدة بعد ذلك شكلا جديدا وغير مسبوق من الاحتجاجات والرفض الشعبي واحتشاد حركات السود، حين أُعلن عن ما كان يعرف بدولة أفريقيا الجديدة في العام 1971 بولاية المسيسيبي، فتحولت إلى تحدّ جديد آخر للسلطات، لكنه انتهى بحملات ملاحقة شرسة واشتباكات عنيفة رافقها سقوط قتلى وجرحى، وأما القيادات فقد حكم على سبعة منهم أحكاما قاسية.

واتسعت القصة إلى تظاهرات يرصدها الفيلم في كم كبير من الوثائق التي تعكس تفجُّر تلك الحقبة وما شهدته من تحولات، ثم بدأت حملات التصفية لقادة تلك الحركات، سواء بالاعتقال أو بالوفاة تحت ظروف غامضة، وكان عدم الإجابة على أسئلة المحققين كافيا لإدانة أي شخص يلقى القبض عليه، واتهامه بعدم التعاون، وأنه يتستر على حركات تخريبية خطيرة.

هروب “أسيتا” ناشطة الحقوق المدنية من سجن نيوجيرسي إلى كوبا

كان هذا الحادث سببا في إدانة “سيلفيا” بالسجن للمساهمة في تهريب مجرمة خطيرة في عرف السلطات، وليست ناشطة حقوق مدنية فحسب، لكن صدمة الولايات المتحدة الكبرى هي أن “أسيتا” وصلت إلى كوبا، وطلبت اللجوء السياسي، وأصبحت أستاذة جامعية في هافانا، وهذا هو ما أطار صواب السلطات الأمريكية، فحكموا على “سيلفيا” وآخرين أحكاما قاسية بالسجن.

تقويض السلم الأهلي.. أربعون عاما من السجن المشدد

ينتقل بنا الفيلم إلى انخراط “سيلفيا” في مرحلة أخرى من مراحل نضالها، وهي انضمامها إلى حركة البورتوريكيين المطالبين أيضا بالحريات والحقوق المدنية الأساسية، وقد انتهى بهم المطاف إلى سجن 8 ناشطين نالوا أحكاما مختلفة بالسجن.

وأما “سيلفيا” فهي تنال أحكاما إضافية تجعلها عنصرا خطرا يقوض السلم الأهلي كما أعلنت حيثيات الحكم، ولهذا فقد خضعت لظروف تحقيق واعتقال مشددة وإجراءات احترازية غير مسبوقة، انتهت بالحكم عليها بالسجن المشدد 40 عاما عن عدة تهم، منها مقاومة السلطات، والتعاون مع عناصر الجريمة المنظمة، والمساعدة في تهريب سجينة، والسطو المسلح لغرض السرقة.

بطلة الفيلم المناضلة اليسارية الأمريكية “سيلفيا بارالديني” بين الاعتقال والحرية

بعد هذه الحملات الشرسة وخفوت نجم اليسار ومناضليه الذين كانت نهاياتهم السجون، بدأت السلطات تجري تحرياتها لتتأكد أن القسم الأكبر من عمليات الملاحقة والاعتقال كانت تجري من دون إذن قضائي، وكانت تنفذ مباشرة بأوامر من إدارات “أف بي آي”، وفي سبتمبر/أيلول 1982 كانت نهاية “سيلفيا بارالديني” في السجن، وبداية رحلتها مع المعتقلات، إذ كان يراد لها تحطيمها نفسيا.

ولذلك ظلت السلطات تتنقل بها من سجن الى آخر، من سجن نيويورك إلى سجن ماريانا ثم سجن الإصلاح التابع للسلطات الفدرالية، لينتهي بها المطاف في سجن ليكسنتون الرهيب الذي سيظهر فيما بعد أنه كان مخصصا لسجناء الرأي والسجناء السياسيين، وهو السجن الوحيد في الولايات المتحدة المختص بهذا النوع من السجناء، وقد أغلق فيما بعد في العام 1988 تحت وطأة مطالبة المنظمات الحقوقية.

سجون إيطاليا.. عودة إلى الوطن واستقبال حاشد في المطار

تروي “سيلفيا” ظروف اعتقالها وهي تتنقل ما بين السجون، وتقول إن تلك السجون كانت تضمن العزل الكامل للسجين عن ما حوله، وممارسة عمليات التعذيب النفسي، ومقاومة العقيدة التي يحملها، والمراقبة طيلة 24 ساعة بالكاميرات، فضلا عن التعرية الكاملة من الملابس بحجة الفحص الروتيني، والغرض هو مزيد من الانكسار والتعذيب النفسي.

وتتحدث عبر مقابلات معها تفيض بالحيوية والثبات على ما تؤمن به، دون أن تفارق البسمة وجهها طيلة الفيلم، وتتنقل عبر محطات حياتها التي ما هي إلا صراع سياسي طويل وكفاح متواصل في سبيل المبادئ التي آمنت بها، حتى تحولت إلى رمز نضالي في إيطاليا ذاتها، بلدها الأصلي، فيتبنى قضيتها اليسار الإيطالي هذه المرة، مما أوجد ضغطا هائلا على الحكومة الإيطالية، لينتهي الأمر بموافقة السلطات الأمريكية على ترحيلها، كي تمضي ما بقي من محكوميتها في إيطاليا ابتداء من العام 1999، وقد استُقبلت في روما استقبالا حافلا، وكانت الشوارع تمتلئ بالمحتفين بعودتها.

بوستر الفيلم “تحرير سيلفيا بارالديني”

تمضي “سيلفيا” مدة من الزمن في سجنها الإيطالي، ثم تصاب بسرطان الثدي، مما يدفع السلطات إلى إخراجها من السجن بعد الجراحة التي أجريت لها، لتكون أسيرة البقاء المنزلي أو الإقامة الجبرية.

ثم يأتي آخر فصل من فصول اعتقالها وعذاباتها الطويلة في العام 2001 عندما أطلق سراحها نهائيا، وهو الحدث الأهم في حياتها الذي أعاد لها حريتها، بعد قرابة ربع قرن من التنقل بين السجون.

زمن الكفاح النبيل.. حقبة من الماضي تنجب مناضلين أشداء

رحلة “سيلفيا بارالديني” رحلة أكثر إنسانية مما يمكن للمرء أن يتصوره، فهي حيثما وجد صوت يرتفع للمناداة بالحقوق المدنية كانت هي في الواجهة، وحيثما كان هنالك كفاح شرس من أجل الشرائح المعرضة للظلم، كانت “سيلفيا” حاضرة بقوة، وتشهد عليها بواكير سنواتها الأولى في الجامعة عندما انخرطت مع الناشطين الثوريين اليساريين المنادين بالحريات المدنية، إنها امرأة من زمن الكفاح النبيل، من أولئك الثوار والمدافعين الحقيقيين عن قيم العدالة والحرية.

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة 1988، احتشد عشرات الألوف من المحتجين مطالبين بترحيل سيلفيا إلى بلدها الأصلي إيطاليا

وقد عالج الفيلم مساحة زمنية عريضة من الحياة السياسية في الولايات المتحدة، حقب سياسية وتحولات اجتماعية كشفت عن حقائق أصبحت اليوم في حكم الماضي، لكنها أعطت صورة بانورامية عن أولئك المدافعين الأشداء عن الحريات المدنية.

كما نجح الفيلم بشكل لافت للنظر في الجمع بين خصائص الفيلم الوثائقي السياسي وبين السيرة الذاتية الشاملة للشخصية وبين التقرير المتكامل، وقدم حصيلة وفيرة من المعلومات والمسح التفصيلي، وعرف بشخصيات ثائرة ربما غابت أسماؤها في زمننا الحاضر.

صورة الوثيقة بالأبيض والأسود بدت نابضة بالحياة، وجعلت مشاهدي الفيلم أكثر تفاعلا مع تلك الشخصيات وأغلبها من الشباب الثوار اليافعين الذين أعطوا قيمة للمبادئ التي آمنوا بها، وهو ما سلطت المخرجة الضوء عليه بتمكن ومهارة. وقد فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة أفلام حقوق الإنسان بمهرجان بغداد السينمائي الدولي الثالث 2011.