“إما في السجن أو المنفى”.. المخرج السوري محمد ملص يتحدث للوثائقية

محمد علال

قبل أن يصعد “سلّم إلى دمشق”[i] عام 2013، ليحكي قصة السينمائي السوري الراحل “عمر أميرلاي” (1944-2011)، كان المخرج محمد ملص قد رسم في فيلمه “أحلام المدينة” عام 1984 ملامح المدينة التي أحبها منذ أن كان شابا، حيث قاده الحظ نحو روسيا لدراسة الإخراج السينمائي بـ”معهد غيراسيموف للسينما” العريق الذي تخرج منه عام 1974.

لقد اختار الحظ لابن مدينة “القنيطرة” السورية طريقا مختلفا لمساره المهني، بعد تخرجه من كلية الفلسفة وممارسته لمهنة التدريس لثلاث سنوات (1965-1968)، ففي البداية كانت أمنيته أن يحجز لاسمه مكانا بين رفوف المكتبات كاتبا أو روائيا يسرد الحكايات، وقد توقفت تلك الأحلام صدفة أمام إعلان حكومي بإحدى الجرائد يشير إلى أن الدولة السورية قررت فتح مسابقة لإيفاد مجموعة من السوريين إلى موسكو لدراسة السينما.

يحدثنا ملص (74عاما) في هذا الحوار الذي أجرته “الجزيرة الوثائقية” على هامش مشاركته في الدورة الـثلاثين لأيام قرطاج السينمائية (26 أكتوبر/تشرين الأول إلى 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019)؛ عن سنوات الدراسة في موسكو، وكيف تحوّل إلى مخرج سوري يُصنَّف في خانة المعارضين، حيث لم يهدأ طموحه السينمائي منذ أن قدّم أعماله السينمائية الثلاثة الأولى كمشروع تخرج، ليعود إلى الوطن بروح جديدة، وأحلام مخرج وصاحب مبادئ.

 

  • كيف يتذكر محمد ملص خطواته الأولى نحو عالم السينما، وما الذي جذبك إليه؟

هذا سياق طويل، فقد قضيت حياة في الطفولة كانت بعيدة كل البُعد عن السينما، فقد كنت أصبُّ كل تركيزي على الأدب والفلسفة، وعندما دخلت الجامعة وبدأت الدراسة في قسم الفلسفة، كنتُ أحلم بأن أكون كاتبا أو روائيا، وكنتُ مولعا بفهم العالم المحيط بي، وبالصدفة عثرت على فرصة لم أكن أتخليها ستغير حياتي.

قرأت خبرا في إحدى الجرائد يقول إن الحكومة السورية قررت إيفاد مجموعة من الطلبة في بعثة إلى روسيا لدراسة السينما، تقدمت لهذه الفرصة ولم أكن أعرف في الحقيقة ماذا تعني بالضبط، لكنني كنت أريد الخروج من سوريا، وأن أنطلق في رحلة التعرف على العالم.

كنت قد بلغت من العمر (23 عاما)، وكنت مستمرا في الجامعة بتميز، وفي الوقت نفسه كنت أعمل معلما في المدارس المختلفة في سوريا، أنظر للمستقبل بغموض. وعندما تقدمت للبعثة فوجئت بالعدد الكبير الذي تقدم من أجل الحصول على هذه الفرصة الاستثنائية، وكان الامتحان عبارة عن لقاء مع لجنة الانتقاء التي كانت مكونة من شخصيات مسرحية وسينمائية معروفة في سوريا في ذلك الوقت.

كان الحظ في انتظاري بعدما شعرت بصعوبة إمكانية قبولي، ففي الاختبار لم يُطرح عليّ سوى سؤال واحد: “ما هو آخر فيلم شاهدته، وما هو انطباعك عنه؟”. والصدفة أنني كنت قد شاهدت في ذلك الأسبوع فيلم “الزوجة الثالثة” للمخرج المصري صلاح أبو سيف، فقدمت ملاحظات متعددة عن الفيلم، ثم فوجئت لاحقا بأن وقع اختياري بين الناجحين في البعثة، وكنت الوحيد الموفد للدراسة.

هكذا بدأت رحلتي إلى موسكو تدفعني لأقع في حُبّ السينما، وقد كان الحب شخصيا في بداية الأمر، ولم يكن بأحلام كبيرة ولا أفكار أو مشاريع، فلم أفكر يوما أن أصبح مخرجا أو سينمائيا.

 

  • كيف عدتَ إلى سوريا سينمائيا شابا بأفكار مختلفة، ترفض الانخراط في مشروع الدولة السينمائي، وتريد أن تكون مختلفا؟

خلال الدراسة أُتيحت لي الفرصة للتعرف على تاريخ السينما العالمية، وقد وقعت في غرام العديد من الأفلام التي لم أنسها حتى اليوم، وقد اكتشفت في نفسي قدرة على الاحتفاظ في ذاكرتي بالصور بطريقة تدهشني أحيانا.

وُفقتُ خلال الدراسة في الأفلام التي أخرجتها، وهي ثلاثة أفلام قصيرة حرفية. بعدها عدت إلى سوريا مخرجا، وبدأتُ حكاية جديدة مع العودة في السنوات الأولى في سوريا، ولم يكن التحدي كيف أنجز الفيلم الأول الطويل، وإنما إدراك هذا البلد وواقعه ومعايشته سينمائيا، فلم أتمكن من تحقيق الفيلم الذي أريده بتلك الصورة إلا بعد 11 عاما من التخرج.

لدي مشروعي السينمائي الذي أريده أن يتحقق، ولو تحقق هذا المشروع ستكفّ عذابات السينما عن تعذيبي، لأنني لا أعتبر تحقيق الفيلم هو الطموح الكبير بالنسبة لي، وإنما علاقتي بالمشروع الذي أريد تحقيقه، وإلى أي مدى سأشعر بأن النتيجة هي خلاصة المشروع.

إن علاقتي بالإخراج هي نوعٌ من العذاب، خاصة في البلدان العربية وأخص بالذكر سوريا، وذلك للظروف الرقابية والتقنية والإمكانات الضئيلة المتاحة. لهذا أقول إنني أملك مشروعا سينمائيا، وعندما أحققه أريد أن تتحول علاقتي بالسينما إلى علاقة مشاهدة ومتعة، وليست علاقة تحقيق مشروع.

لقطة من فيلم “فتح أبواب السينما” الذي يحتفي بمسيرة المخرج السوري محمد ملص

 

  • هل كان من السهل عليك إقناع محيطك السينمائي في سوريا بمشروعك المختلف والجديد؟

حظيتْ أفلامي الأولى باستقبال حارّ في سوريـا، وهو الأمر الذي جعلني أشعر براحة وخوف، فأنا أقول دائما “إن مشاهدة السينما متعة، لكن تحقيقها في الدول العربية هو عذاب، وهو عذاب لم يتغير في الدول العربية منذ السبعينيات حتى اليوم”.

كلما نضجت فكرة مشروع سينمائي بدأت الصعوبات والمشاكل، وشخصيا لم أكن يوما مهتما بعامل الوقت بقدر اهتمامي بالفكرة، لهذا أنا لستُ مهتما بأن أنجز الفيلم في زمن قياسي، فلو بقيتُ سنوات بلا عمل سأواصل البحث عن مشروعي، وهو بالنسبة لي التحدي الحقيقي. أريد أن أكون سينمائيا محترفا فقط، لا مجرد مخرج يُحقق ما يُطرح عليه بحدود أفكار المنتج، فهذا أمر لا يعنيني، ولم أرهن نفسي يوما بالميزانيات الضخمة للأفلام.

  • هل تعرضتَ للرقابة وما نوعها؟

حصل ذلك عدة مرات، ومنها أن اقتُرحت علي العديد من الأفلام لكنها لأنها لم تتقاطع مع ما أسعى له، وفي الحقيقة هذا نوع أصنفه في خانة “الرقابة القبلية”، التي تأتي عندما تقترح الدولة على الفنان شكلا معينا من الإبداع، وعلى المخرج رؤية معينة قبل الإخراج.

الجميع في سوريا يعرف أنني مختلف، وذلك منذ أن قدمت فيلمي الأول، حينها اتضح لدى الجميع بأنني مخرج صاحب أهداف يسعى إلى تأسيس “سينما المؤلف”، وهي سينما لم تكن معروفة في ذلك الزمان، ولم أكن يوما أريد التباهي بلقب المخرج، بل كنت أرفض المشاريع التي لا أؤمن بها، أو تلك التي لا أسعى إلى تحقيقها ضمن مشروعي السينمائي.

لقطة للمخرج محمد ملص في حديقة منزله، حيث يُعد أبرز مؤسسي سينما المؤلف في العالم العربي

 

  • رغم ما عرفته السينما من تطور فإنك بقيت وفيا لأسلوبك القديم في الطرح السينمائي، هل يعني ذلك أنك لم تحقق مشروعك السينمائي الكامل بعد؟

في الحقيقة يجب أن نعترف بأن السبعينيات عصر، ونحن اليوم أمام عصر جديد ليس على الصعيد السينمائي فقط، بل على كافة الأصعدة، خاصة الوسائط التقنية والاتصال. يجب أن لا نسحب العصر القديم معنا، بل يجب أن ننتقل من تجربتنا للتعايش مع معطيات العصر الجديد سواء في السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد أو أشكال الاستغلال المختلفة.

نحن اليوم لسنا في عصر الصراع ضد الإمبريالية (Imperialism)، بقدر ما نحن في صراعٍ مع “الليبرالية الجديدة” (Neoliberalism)، بمعنى الاستثمار السياسي وغياب الحراك الاجتماعي المُسيّس.

أنا مع الحراك الاجتماعي الذي يسعى إلى لقمة العيش، لكن الحراك السياسي الذي يسعى إلى تغيير البنى السياسية هو السائد حاليا، فاليوم نحن نعيش خارج الأحزاب وخارج الحركات الاجتماعية، وأحيانا خارج المدرسة الثقافية والرؤية الثقافية، وتلك القاعدة تقودنا إلى ضرورة الاهتمام بمبدأ ثابت هو “يجب علينا النظر إلى العصر الجديد بشكل مختلف”.

السينما اليوم تختلف عن السينما التي كنا نحققها في القرن الماضي، نحن أمام ثراءٍ بصري كبير يخلق متفرجا لم يعد يحتاج إلى كل تلك الشروحات الكلاسيكية التي كانت تشكل محور السينما في السابق، فالمشاهد اليوم يملك المقدرة على فهم أكبر في معايشة السينما، واستيعاب اللغة السينمائية البصرية.

لقد قررت الانتماء إلى لغة العصر منذ أن أخرجت فيلم “سلّم إلى دمشق” عام 2013، دون أن أخون الماضي، فأنا أحب أن أميل إلى تلك اللغة السينمائية الحقيقية التي يتلقاها الشباب بسهولة، ليس بالمعنى الذي تُروّجه له هوليود، وإنما بمعنى “سينما المؤلف”، والسينما التي تسعى إلى ترسيخ القيم الثقافية.

السينما العربية -للأسف- لا تنتمي إلى العصر، فكيف يمكن القول مثلا إن السينما السورية تنتمي إلى العصر وتاريخها في الإنتاج السينمائي قد لا يتجاوز مئة فيلم عبر المئة عام؟ والأمر نفسه للعديد من الدول العربية. هذه البلدان تأسست على واقع سينمائي مختلف أساسه المعاناة، تماما كما يحدث في العراق الذي عانى كثيرا رغم وجود قامات سينمائية كبيرة، لكن الأنظمة كانت تقمع الثقافة وتلغي السؤال الثقافي.

نواجه اليوم جيلا عاش وتربى وتثقف بثقافة الديكتاتور الذي لا يُفرّق بين نفسه وبين الحياة، فالدكتاتور يعتبر نفسه هو الحياة، وهو الذي يمنح الفرصة للبشر. وهذه هي القضية الحقيقية التي يجب أن تعالجها السينما العربية، ولا يجب أن تكون الأفلام مرآة للدكتاتور الذي لا يسأل إلا نفسه فقط ولا يرى غيره إطلاقا، وإنما يسأل الآخرين الطاعة والخنوع.

 

  • هل تعتبر نفسك معارضا للنظام الحاكم أم صاحب مبدأ؟

أنا “سينمائي صاحب مبدأ”، لكن المبدأ الأساسي الذي أؤمن به وأضع حياتي من أجله هو أن أقول “لا” لما هو قائم، كائنا من كان هذا القائم، فأنا أسعى لتطوير نفسي كمثقف، فليس هناك فارق بين المثقف العضوي كما يقول الفيلسوف “أنطوان غرامشي”، وبين الرفض والمقاومة والتغيير، فالمثقف الذي لا يحمل سؤال الثقافة سيحمل سؤال الديكتاتور في الأخير. لذلك حين تسألني “هل أنا معارض أم صاحب مبدأ؟”، فأنا أرى أن الاثنين شيء واحد، وأحدهما يندمغ في الآخر، ودور المثقف أن يقول “لا”.

  • لماذا تراجع دور المثقف في الأحداث والعالم العربي، لماذا نلحظ أن هناك شرخا في علاقة المثقف السينمائي العربي بمحيطه؟

أشعر بذلك تماما، لكنني لا أريد إصدار أحكام، فالوضع قد تغيّر والمسؤولية مشتركة، فلم تعد الثقافة وليدة الطبقة المتوسطة، بل أصبحت الثقافة مهمة فردية قائمة على المبادئ الفردية، والسؤال يعود إلى مدى إدراكنا للواقع.

هذه الأنظمة قضت أربعين عاما وهي تحكمنا، فأصبح المثقف العربي إما في السجن أو خارج البلد، وهنا أتذكر حكاية شهيرة، حيث “يُروى أن أحد السجناء ترجّى الحارس في السجن أن يمنحه كتابا، وقد قدّم له اسم الكتاب والمؤلف، فذهب السجان يبحث عن الكتاب فلم يجده في السجن، فعاد إلى السجين وقال له لم أجد الكتاب، لكنني وجدتُ الكاتب في السجن”.

لقطة من فيلم “أحلام المدينة” الذي ناقش فيه المخرج ملص مسألة الوحدة العربية

 

  • إذن أنتَ تُحمّل الأنظمة العربية مسؤولية إفراغ المجتمع من الطبقة المثقفة؟

هذه حقيقة يجب أن لا نتجاهلها حين إبداء الرأي وقراءة الواقع، فكيف تتصور أن يكون شكل المثقف بعد 40 عاما من الحكم تحت الأنظمة الشمولية الديكتاتورية؟ لقد وضعته الأنظمة بين خيارين؛ إما السجن وإما الخروج للارتزاق لدى قوى الثقافة العديدة، خاصة الغربية التي تفرض عليه سؤال الثقافة المحدد وفق وجهة نظرها ومصالحها، وتمنحه مقابل ذلك العيش.

نحن نرى وسائط الإعلام العربية، وكيف أن معظمها أصبحت مأجورة إما للسلطة وإما لجهات أخرى، ونرى الثوّار إما أنهم ثوّار، وإما أنهم مأجورين لقوى أجنبية، ونرى “دور النشر” بهذا السياق، فمعظمها خاضع لإرادة سياسية معينة يحكمها المال، لهذا نحن لسنا ضد الإمبريالية وإنما ضد النيوليبراليزم (الليبرالية الجديدة).

  • أودّ معرفة تفاصيل علاقة محمد ملص بالجزائر؟

الإجابة بالنسبة لي مُغمسة بالمشاعر والمحبة، فمنذ أن كنت طفلا صغيرا في المدرسة كنا نقوم بالمسيرات في دمشق من أجل الجزائر، وأتذكر أول مرة أسمع فيها كلمة “إيفيان” –لم أنسَها منذ خمسين عاما- هذه المدينة الشهيرة بمياهها وطبيعتها نتذكرها كمحطة مفصلية في تاريخ الجزائر.

لم تُتَح لي زيارة الجزائر إلا بعدما أصبحت سينمائيا، وأنا مدين فعلا لسينماتك الجزائر التي منحتني فرصة للتعرف على الجمهور الجزائري، وذلك عندما دعاني بوجمعة كارش إلى الجزائر لعرض أفلامي هناك، حيث دخلت إلى السينماتك ووجدتها أهم متحف عربي للسينما.

علاقتي بالجزائر كعلاقة أيّ سينمائي عربي بها، فهي دائما علاقة حميمية قوية، وأكنّ لدورها الكثير من الاحترام خاصة في السبعينيات، فحين تنهض الجزائر لإنقاذ سينمائي كبير مثل يوسف شاهين وتساعده على إنجاز أفلامه، فهي بذلك ترسل رسائل قوية للعالم.

[i] سلم إلى دمشق، هو فيلم دراما تم إنتاجه في سوريا وصدر في سنة 2013. سيناريو وإخراج محمد ملص.