غزو فضائي في قرية أمازيغية.. المخرجة المغربية صوفيا علوي تتحدث للوثائقية

حاورها: أيوب واوجا

“الإيمان بقصتك أقوى من أي انتقادات، ورغبتك في حكاية ما كتبته عبر السينما سينتصر لا محالة على عدم اقتناع الناس به، أنا مخرجة الفيلم، وفي الوقت نفسه منتجته من الجانب المغربي، لذلك كان من السهل أن أُقنع نفسي بالسيناريو رغم غرابته”.

بهذا الجواب المرح تُفسر لنا المخرجة المغربية صوفيا علوي (29 عاما) كيف نجحت في جلب التمويل لفيلمها القصير “لا يهم إن نفقت البهائم”. وهو فيلم أمازيغي قصير (22 دقيقة) تأهل مؤخرا لمسابقة الأوسكار في صنف الأفلام القصيرة، وذلك بعد فوزه بالجائزة الكبرى لمهرجان “صندانس”، وترشحه لجائزة “سيزار” كأفضل فيلم قصير لعام 2021 قبل أن تعود هذا الأسبوع لإصدار فيلمها الطويل بعنوان “حيوان” (Animalia) الذي اقتبسته من فيلمها الأول.

يحكي الفيلم الأول عن قصة كائنات فضائية تغزو قرية صغيرة بالأطلس الصغير، لتكسر رتابة العيش وقوالب الحياة المجهزة سلفا؛ أن تولد وتدرس في المسجد، ثم تتزوج بعد بلوغك.

الفيلم محاولة للتمرد على الرضوخ للتكرار والعيش وفق إملاءات الغير تحت ذريعة الحِكمة، وذلك ما يظهر من خلال الحوار الافتتاحي بين بطل الفيلم عبد الله، والأب المنتهي بنتيجة مفادها القبول بالقدر والانطواء وسط أسلوب حياة مُعد سلفا غير قابل للكسر. يرضخ عبد الله لما قاله الأب، ويقرر الذهاب للسوق لشراء علف البهائم، وقبل الذهاب يفتح هاتفه ويتطلع لصور دراجات نارية تبدو بسيطة، لكنها أقصى طموحات وإرهاصات تمرده.

حاولت صوفيا علوي من خلال عملها صُنع فيلم خيال علمي بتعقيداته وخدعه البصرية الهوليودية، لكن دون انفصال عن خصائص المغرب. وهنا تُقربنا صوفيا أكثر من رؤيتها في هذا الحوار الذي أجرته معها الجزيرة الوثائقية.

 

  • نعلم أنكِ عشت فترة في الصين بسبب عمل والدك في السفارة المغربية ببكين، كيف أثّرت معيشتك في آسيا على عملك السينمائي؟

كان العيش في آسيا في تلك المرحلة من حياتي تجربة عظيمة، لأنني عشت في مجتمع يتكون نسيجه من جنسيات مختلفة، فكان لي أصدقاء من مختلف الجنسيات، ذلك ما جعلني أحتكّ مع ثقافات مختلفة.

أما الصين في تلك الفترة فكانت بلدا منفتحا نسبيا عمّا نراه الآن، كنا نسافر للقرى والدول القريبة، وكنتُ دائما ما أحمل كاميرتي معي وأوثق اللحظة، لذلك فقد ساعدني العيش في آسيا على تطوير إبداعي، إذ كنت هناك في مرحلة دهشة واكتشاف دائمين.

  • نلاحظ أن فيلمك “لا يهم إن نفقت البهائم” مزج بين الواقعية والخيال العلمي، مع لمسة من أسلوب الكوري الجنوبي “بون جون هو”، فهل تأثرت أعمالك به، وبالسينما الكورية بشكل عام؟

أحب السينما الكورية، لكنني قبل كل شيء مُحبة للسينما العالمية عموما، فكوني مواطنة مغربية فرنسية عاشت في الصين، فأنا مهتمة بسؤال الكونية وسينما العالم، ولا أفضل أن يقع تصنيفي في أسلوب محدد دون آخر، لذلك أفضل التجريب والخلط بين العوالم.

بطل الفيلم عبد الله الذي يقرر الذهاب للسوق لشراء علف البهائم، علما بأن أقصى طموحاته وتمرده هو الحصول على دراجة نارية

 

  • بالرغم من أن فيلمك يُصنّف في خانة أعمال الخيال العلمي، فإن الجانب التوثيقي يظهر بشكل واضح في الفيلم من خلال تصوير المعيشة اليومية للفلاح المغربي، فلماذا اخترتِ أن تُضيفي مخلوقات فضائية للمغرب العميق؟

الاختيارات التوثيقية في فيلمي جاءت لأنني أردت العمل مع شخوص من القرية، دون أن تكون لهم خبرة سابقة في التمثيل، وهذا ما أعطى للفيلم جمالا واقعيا.

أن تصنع فيلما يعني أن تُغامر وأن تُجرب، لقد كان مُهما بالنسبة لي أن ألتقي بالناس في القرية، أن أتقرب من معاناتهم اليومية وأن أقتحم عوالمهم الخفية عنّا نحن سكان المدن، وقد وفر لي الاقتراب منهم ما يمكن أن أصفه بالمادة الحقيقية.

وفي نفس الوقت لم أرغب في تصوير وثائقي عن معاناة سكان الأطلس، بل أردت اكتشاف ما الذي سيقع عند الجمع بين نقيضين، أي العيش اليومي لسكان الأطلس وغزو الفضائيين.

جاء الجانب التوثيقي من الفيلم لموازنة الخيال العلمي بالواقع، فبالرغم من أنه فيلم حول الكائنات الفضائية، إلا أنه يحكي عن عالمنا الحقيقي. لم أرغب في تصوير فيلم خيال علمي بأسلوب أمريكي، بل أردتُ جلب العناصر الخيالية والتعامل معها بمقاربة مغربية.

قرية إملشيل المغربية التي اختارتها المخرجة للتصوير فيها نظرا لأنها بمثابة أستوديو تصوير طبيعي

 

  • لماذا اخترت إملشيل (قرية بوسط المغرب) بالضبط دون باقي المناطق بالمغرب؟ هل كان الاختيار مُرتبطا بتضاريس المنطقة التي تخدم تخيلاتك للفيلم؟ أم أن الاختيار أعمق من ذلك؟

اخترت قرية إملشيل لأنني أردت موقعا يتناسق مع السيناريو الذي كتبت، فإملشيل منطقة خلّابة وفّرت لي ما تخيلته عندما كنت أكتب السيناريو. وأردت لفيلمي أن يكون وسيلة لمساءلة الذات عن معنى الحياة وعن رغد العيش، لذلك وجدت في إملشيل ضالتي.

منطقة إملشيل هي بمثابة أستوديو تصوير طبيعي ذي مساحات شاسعة تسمح للكاميرا بالتقاط إطارات موسعة مليئة بالأسئلة عن معنى الحياة وقيمة الفرد وسط مجتمعه.

  • لماذا اخترتِ اللغة الأمازيغية كلغة الفيلم الرئيسية؟ وهل هذا نابع من أنك ترين بأن الفيلم الأمازيغي مهمش في الوسط الفني المغربي، أم أن لذلك اعتبارات أخرى؟

اخترت الأمازيغية كلغة لفيلمي لكوني أرى أنها لغة مهمشة في الوسط الفني المغربي، لذلك ارتأيت أن أردّ الاعتبار لجمالية هذه اللغة، وأيضا لأن المغرب في الأصل بلد أمازيغي، غير أن كثيرا منا ينسون ذلك.

الفتاة الأمازيغية “إيطو” التي نجحت في تحرير نفسها من ضغوطات المجتمع واستطاعت تحرير ذاتها

 

  • من خلال تحليل فيلمك، يبدو أنك تحاولين تسليط الضوء على العادات والتقاليد القديمة في المجتمع المغربي، وتربطين المخلوقات القادمة بالتحرر والحداثة، فهل هذا صحيح؟ ولماذا اخترت إذن التعبير عن أفكارك بهذه الطريقة الحديثة على السينما المغربية؟

الفيلم انتقاد للطرق الأحادية في التفكير والعيش، لكنه ليس انتقادا للتقاليد المغربية، فهي تقاليد جميلة وغنية، بل الفيلم نقد لطرق التفكير المتزمتة والإملاءات التي نتلقاها من الآخرين الكبار حول كيفية العيش.

الفيلم أيضا عن ضغوطات المجتمع وعن تحرير الذات، وأعتقد أن شخصية الفتاة إيطو (اسم امازيغي نسائي) قد نجحت في تحرير نفسها من الكائنات الفضائية، فالفيلم إذا عن تحرير الذات لكي تجد نفسك، ويمكن تصنيفه أيضا كفيلم روحاني.

  • فيلمك أمازيغي، ونحن نعلم قيمة النساء بالمجتمعات الأمازيغية، فما السبب الذي جعلك تقصين البطلة من المشاهد الأولى وتظهرينها في المشاهد الأخيرة؟

ذلك راجع لكون الفتاة إيطو قد حررت نفسها من سجن الكائنات الفضائية، لكنها لا تزال عالقة، فقد أُجبرت على الزواج باكرا، كما أن البطل عبد الله أيضا فُرض عليه أن يتزوج وينخرط في نمط عيش محدد سلفا، لذلك فالفيلم ليس عن النساء وحدهم أو الرجال، بل عن تحرير الذات.

لقد فضلتُ تصوير البطل الذكر في وضعية ضعف وتوتر، على عكس الفتاة التي صورتها في موضع قوة، لأنني أعتقد أن السينما العربية رسّخت صورة النساء في موضع الضعف والرقة والأنوثة الزائدة، فالسينما المغربية والعربية بحاجة لنموذج فتاة قوية، وأردت أن تكون إيطو هي النموذج.

المتسوّل الذي وصفه الناس دون تدقيق بأنه مجنون، وقام بهذا الدور في فيلم “لا يهم إن نفقت البهائم”

 

  • يبدو واضحا انتقادكِ للتدين، خصوصا في مشهد الأخبار على التلفزيون، وفي المحل وصورة الشيخ الذي يتحدث عن الشيطان مباشرة بعد انتهاء الأخبار، ما تعليقك على الأمر؟

لا أنتقد الدين بقدر ما أنتقد الفكر المتزمت، في بعض الأحيان نجد أنفسنا بعيدين عن الروحانيات والفردانية على حساب الانصهار في الجماعة، أرى بأن العيب يكمن في تعاملنا مع طرق التفكير وليس في إيماننا.

هذا ما نراه في شخصية الأب الذي لا يحاول طرح الأسئلة والتشكيك، فمن الواضح أن الغزو الفضائي حقيقي، لكنه لا يريد الاعتراف ويحاول الإنكار.

الشك بالنسبة لي شيء مهم، فهو يساعدنا على النضج، ويعطينا القدرة على مساءلة المجتمع وهدم البديهيات، لقد أصبح العالم الآن -بسبب ما يقع من وباء ونزاعات- في حاجة ماسّة لإعادة مساءلة نفسه من أجل عالم أفضل.

  • ذكرت سابقا بأن شخصية الرجل المجنون بالفيلم هو شخص مجنون في الواقع، هل هذا الاختيار يُجسّد يأسك في استحالة إيجاد الممثل المثالي للدور، واستنجادك بأول شخص أمامك، أم أن ذلك كان معدا سلفا؟

هو ليس مجنونا بالمعنى الطبي، وإنما هو متسوّل يتجوّل في القرية، فصنّفه السكان دون تدقيق بأنه مجنون، قبل الالتقاء به كانت لدي عدة شخصيات مفترضة للعب الدور، لكن أثناء تفقد مكان التصوير، وبينما كنت في مقهى القرية، اقترب مني متسولا المال، لقد كان يتحدث كأنه من عالم آخر، كان مثاليا لتصوراتي حول الشخصية التي كتبت، ولما طرحت عليه سؤالا حول إيمانه بوجود كائنات فضائية، فقال لي “كل شيء ممكن”، وفي تلك اللحظة أدركت أنه صاحب الدور.

المخرجة المغربية صوفيا علوي التي تأهل مؤخرا فيلمها “لا يهم إن نفقت البهائم” لمسابقة الأوسكار في صنف الأفلام القصيرة

 

  • كيف نجحتِ في إقناع المنتجين بإنتاج فيلم غريب هكذا؟ مخرجة شابة وقرية أمازيغية فارغة تزورها الكائنات الفضائية.. يبدو الأمر غير جذّاب لأي ممول، أليس كذلك؟

أنا المخرجة وفي الوقت نفسه المنتجة من الجانب المغربي (الفيلم إنتاج مشترك فرنسي مغربي)، لذلك كان من السهل إقناع نفسي بالعمل (تضحك)، لقد أردت بشدة أن أحكي القصة التي كتبت، وأعتقد أنك عندما تؤمن بفكرتك إيمانا عميقا فأنت قادر على إقناع أي شخص بها.

  • لقد فزتِ بجائزة مهرجان “صندانس”، فكيف كان وقع هذا التتويج عليك؟

لقد كان شعورا عظيما أن يقع الاختيار على فيلمي من بين آلاف الأعمال المشاركة، ولم أكن أتوقع أن يُتوّج فيلمي لأنها جائزة هائلة، ومستوى المشاركات عالٍ جدا.

لقد تغيّرت حياتي بعد التتويج، لأنه جاء في فترة عملي على تطوير الفيلم لفيلم طويل، فعلمت أنني في الطريق الصحيح، وبأن العمل قد لاقى إعجاب كبار النقاد في لجنة التحكيم، وتحفزت كثيرا بعد تأكدي من أنه يمكن بالفعل العمل على فيلم خيال علمي بلمسة وثائقية.

حاليا أعمل على تطوير فيلمي الطويل بعنوان “بيننا” (Among Us) المبني على فيلمي الأخير، وهو عن الفتاة إيطو التي تذهب في مغامرة للبحث عن زوجها المختفي بسبب حدث غامض.

لقد تحدثنا في البداية عن السينما الكورية الجنوبية وأعمال “بون جون هو”، والمميز في أعمال السينما الكورية أنها أفلام كورية جنوبية ببصمة محلية 100% لكنها عالمية، وهذا هو ما أطمح إليه.

بوستر الفيلم المغربي القصير “لا يهم إن نفقت البهائم” الفائز  بالجائزة الكبرى لمهرجان “صندانس”

 

  • لقد جلبتِ للمغرب واحدة من أهم الجوائز السينمائية، وفي المقابل لم يُتوّج فيلمك في مهرجان السينما الوطنية بالمغرب، هل تعتقدين أنك ظُلمت؟

لا، بل كنت سعيدة بعرض فيلمي بالمغرب. لا يجب أن نهتم بالجوائز بقدر اهتمامنا بعرض أفلامنا للناس وسماع ردود أفعالهم.

  • ما الذي يمكن أن تقوليه عن تأهل فيلمك لمسابقة الأوسكار؟

التأهل للأوسكار بحد ذاته أمر عظيم، الآن انتقل فيلمي لمرحلة الاختيار العالمية التي يشرف عليها أعضاء لجنة الأوسكار، سنرى ما الذي سيقولونه فيما بعد.

  • في النهاية، كسؤال مفتوح أو يمكنك اعتباره فلسفيا، ما الذي حاولت أن تقوليه للعالم عبر فيلمك؟

كصانعة أفلام، فأنا قبل كل شيء أطرح أسئلة وجودية على نفسي، أفلامي هي انعكاس لتساؤلاتي، أنا لا أحاول قول شيء، فأنا لست شخصية مهمة، أنا فقط صوفيا التي تنقل أسئلتها عبر الكاميرا، وتحاول تذكير الناس بأهمية مساءلة الذات، نحن الآن نعيش في مجتمعات تُقدّس العمل على حساب الجانب الروحي، لذلك فأعمالي إنما هي محاولة بسيطة لتحريك أسئلة حول قيمة الحياة.