مها الحاج مُخرجة “حُمّى البحر المتوسط” للوثائقية: “لقد خلقت في فيلمي رجالا قابلين للكسر”

نادرا ما نشاهد فيلما عربيا يُظهر ضعف الرجال وأخطاءهم في الحياة الواقعية، لكن هذا ما قد تفعله امرأة تحترف الكتابة والإخراج عن عالم الرجل المجروح، هذا ما يتحدث عنه فيلم “حمى البحر المتوسط” الذي تخرجه الفلسطينية مها الحاج، وسيُعرض للمرة الأولى في افتتاح مهرجان أيام فلسطين السينمائية في رام الله في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

يتحدث الفيلم عن قصة صديقين يبدو أنهما متناقضان، لكنهما من الداخل يتشابهان بالألم واليأس، ومع ذلك فمن الصعب أن تكتشف ذلك دون أن يتعمق الفيلم على مدار ساعتين، وهما وليد ذو الروح الهادئة، ويشتغل “ربة بيت”، كما يُسمّيه صديقه الجديد مشاكسا، وجلال الأزعر الذي يُفضّل الموسيقى المرتفعة، ويزور نساء أخريات في بيوتهن، ويستلف الأموال من عصابات. في صداقتهما تكتمل الأشياء نوعا ما، فوليد يبحث عن حبكة لرواياته وحياته بعد أن اختفى الإلهام من كليهما، أما جلال فيبحث عن صديق يُساعده في حل مشاكله، وعلى نفس مسافة القرب هما متباعدان أيضا.

هكذا تمشي الأيام بعلاقتهما في خليط من الكوميديا والتفاصيل والتراجيديا وبعض الفانتازيا، وهي مدرسة مها الحاج السينمائية التي تستشعرها في فيلمها الأول “أمور شخصية” (2016)، والثاني “حمى البحر المتوسط” (2022)، إنه ثقل الحبكة وخفّة السرد.

كل هذا تحدثنا به مع المخرجة مها في مقابلة خاصة مع الجزيرة الوثائقية وهي تتحدث بتلقائية وصراحة، دون تحضير أو تنميق، بل بثقة المبدعين السريعة بالعالم حولهم، والكشف عن مكنوناتهم. بالتأكيد سرعان ما يندمون، لكن سأحاول أن لا تفعل مها الحاج ذلك.

  • مها الحاج، هل أنت سعيدة بترشح الفيلم عن فلسطين لاختيارات جائزة الأوسكار الأولية، أم سعيدة أكثر كونه حصل على جائزة أفضل سيناريو في مسابقة “نظرة ما” التي تقام ضمن فعاليات مهرجان كان؟

لكلّ خبر مكانه، جائزة أفضل سيناريو في مسابقة “نظرة ما” كان وقعها جميلا علينا جميعا كفريق، كذلك اختيار فلسطين لفيلمنا كي يمثلها في الأوسكار في الاختيارات الأولية، ولا أستطيع القول إن واحدة أقل من أخرى. هذه البداية فإذا فزنا بالأوسكار مثلا، لحظتها سأقول أين فَرِحنا أكثر.

  • وجدتُ، ويوافقني آخرون ممن قرأت لهم أن لك بصمة خاصة في أفلامك، وهذا حدث سريعا على الرغم من كونهما فيلمين فقط، ما رأيك؟

بالضبط، ربما حين أنجز أفلاما أكثر تتضح أكثر تلك البصمة لأتعرف عليها أنا بنفسي، إلى الآن لا أدري حقيقة هذا الأمر، نعم ربما أحب التفاصيل وأتعمق بها وبالألوان والأفكار، وكذلك هناك فانتازيا، فالفن بدون فانتازيا يصير وثائقيا، لكن لا أستطيع أن أطلق حُكما على نفسي بعد، أو أُسمي مدرسة بعينها.

  • نتحدث عن واقعية وتفاصيل مع فانتازيا، إذن هل نحن أمام سينما واقعية سحرية في أفلامك؟

أحيانا تتحول شدة الواقعية إلى فانتازيا، وحين أُخرج فيلما لا أقرر أن يكون واقعيا أو فانتازيا، فلا أفكر بالأبعاد، فالفن يطلع من محل عفوي، ولا أقصد ما يراه النُقّاد والمحللون والجمهور، وأحيانا أحب أن أقرأ تحليل أفلامي، لكن لا أستطيع أن أسلّم بكونه صحيحا أم خاطئا أو ماذا أقصد بالضبط؟ فلكل متلقٍّ رؤيته، فإن الفيلم عن المخرج مخلوق وكائن يصبح موجودا، وسواء كان تصنيفه واقعيا سحريا، أو وثائقيا أو فانتازيا، فليست مهمة المخرج تصحيح ما يراه الآخرون.

  • هذا القدر من الكلاسيكية الذي استمر ساعتين وسط ما يجول في العالم من أفلام تحمل قوالب درامية سردية غرائبية الآن، ولغة سينمائية مستحدثة يتفنن في صنعها المخرجون والمخرجات؛ ألا ترين أنه مغامرة كبيرة؟

في فيلم “حمى البحر المتوسط”، يعاني وليد من اكتئاب، فلم أجد معه سوى اللغة السينمائية الكلاسيكية لقول ذلك، فلا يمكن أن نسرد القصة بطريقة أخرى، والأهم هنا ليست الغرائبية أو اتباع موضة حديثة بالسينما لمجرد استعراض ذلك، بل الصدق مع العمل الفني والمشاعر والقصة.

* وكيف جاءت القصة إليك؟

لا توجد قصة لم تُقَل، كل القصص قيلت من قبل؛ الحب والحياة والموت والسجن والحرب والغضب، كل القصص، إلى درجة أن الحياة غدت تناصا مكررا، فالقصص هي ذاتها منذ بداية العصور، لذلك من المهم الرجوع لذواتنا كقصة أصلية لن يرويها سوى الفنان، فيُخرج لمسته الخاصة أو قصته المخبأة.

الهدف من فيلمي منذ البداية ليس تجاريا أو أن “يُكسّر الدنيا”، وبالأساس ليست هناك رسالة أيضا معينة، بل مجرد صوت أريد أن يصل، أو كلمة أريد قولها ويسمعها الآخرون، فالشهرة برأيي تُبعدنا عن الفن الحقيقي، فإما أن يكون لديك صوت جميل وتغني، أو لا ولن تغني، لحظتها إذا أصريت على الغناء دون صوت ومن أجل الشهرة لن يكون هذا فنا، وهذا ينطبق على الأفلام، فإذا لم تكن لديك قصة قوية آتية من مكان قوي بداخلك فلن يكون هناك فيلم قوي، لذلك فالغرائبية والشهرة لن تصنعا سينما قوية.

بطلا فيلم “حُمّى البحر المتوسط” الممثل أشرف فرح والممثل عامر حليحل
  • ماذا إذا كانت قصة قوية مُقدَّمة بلغة سينمائية ليست كلاسيكية، وهذا رأيناه في أفلام كثيرة مثل “بابل” (2006)، وفيلم “كراش” (2004)، وفيلم” تحت الجلد” (2013)، وغيرها كثير حتى على المستوى العربي، مثل أفلام إيليا سليمان، أو ما قدمه المخرج الراحل يوسف شاهين؟

نعم أتفق معك أن هناك مخرجين لا يفضلون السرد الكلاسيكي، وهذا أمر طبيعي طبقا لرؤية المخرج، طالما أن لديه شغفا وحبكة قوية يقولها بطريقة مغايرة، كلامي كان واضحا منذ البداية، فالقصد أن لا يكون الهدف هو التقنية بحد ذاتها قبل القصة، ومن المهم أن نتذكر أن السرد الكلاسيكي ليس عيبا أيضا، فالفيلم الناجح كما أراه هو الذي يحضره المتابع بشغف، وتبقى تفاصيله عالقة في القلب والرأس، بغض النظر عن ما إذا كان بلغة سينمائية تقليدية أم حداثية.

أما إذا ذهبت وشاهدت الفيلم ولم يعشش في القلب، فلا أرى أنه ناجح، وهذا ينطبق على كل الأفلام، بالنهاية يشعر به المُشاهد كما شعر به صانعه وهو يُصوّره، وإذا لم تنتقل هذه المشاعر فهناك مشكلة ما، ومن المهم أن يخدم التحرير النهائي للفيلم القصة، وإلا فإن الفيلم كله سيتجه إلى ما لا يتوقعه المخرج.

أنا شعرت بفيلمي دون حاجة إلى فلسفة الأمور والتكنيك، وجدت أنه يجب أن يكون على صورته التي خرج بها، فالقصة نفسها كلها فلسفة تتحدث عن الحياة والموت والاكتئاب.

  • لكن حتى فيلمك أنت لم يكن كلاسيكيا مئة بالمئة، لقد بدأ بمشهد فنتازيا وانتهى به تقريبا. أليس كذلك؟

نعم أتفق معك، لكن ليس متعمدا، بل هو مسار السيناريو والحكاية، أعني أنني لم أنتهِ من الفيلم ثم قررت أن أضع هذه المشاهد لأضيف الغرائبية والحداثة على فيلمي.

  • شعرت أن هناك بعض شبَه بشخصيات غسان كنفاني في بعض قصصه القصيرة ومسرحياته، مثل عدم المبالاة والسخرية من أن تغيير العالم مستحيل، مثلا حضرتني وأنا أشاهده قصة “عالم ليس لنا”، ومسرحية “الباب والشيء”.

مجرد مصادفة، وإذ كان ذلك قد وقع فعلا فهذا شيء جميل، فالشخصيات وليدة المحيط وليست من الفضاء، وبالتأكيد استلهمت من الناس الذين حولي، فشخصية وليد مثلا تشبه جزءا من شخصيات أعرفها ومني أنا شخصيا، وكذلك هناك جلال وعدم مبالاته، وهي بالتأكيد ليست شخصيات فلسطينية بطلة ووطنية، بل هي شخصيات مطفية ومكسورة.

  • مع ذلك كانت هناك بعض الأحاديث الكلاسيكية عن الوطن وفلسطين، مثلا حين أجاب على أسئلة الطبيبة الإسرائيلية حول مرض ابنه، كان يوجد كليشيه وطني في حوار وليد معها؟

نعم صحيح، في النهاية هو فلسطيني جاء من الواقع المتناقض إذ يعيش في حيفا، بالتأكيد ابتعدت عن شخصية الفلسطيني النمطية، لكن هناك واقعية، لذلك يجب أن يحافظ على هوية أولاده، كأن شخصية وليد تقول أنا فلسطيني لكنني مكتئب، ويحاول أن يُغير بأشياء صغيرة قبل الاستسلام، بينما الشخصيات النمطية ترفع شعارات وتشارك في مظاهرات وتقاوم وتناضل، أنا كسرتها، فهو “لا بطل”، ويعمل ليس كي يكون “لا بطل”، بل لأنه إنسان، وهو إنسان ضعيف وقابل للكسر.

الشخصية الأخرى جلال عكسه تماما في كل شيء، وتعمقت صداقتهما بسبب هذه التناقضات، لكن الاثنين في النهاية مهزومان، ويبكيان كلما بعثرتهما الحياة.

لقطة من فيلم “حُمّى البحر المتوسط” لبطليه عامر حليحل بدور وليد، وأشرف فرح بدور جلال
  • اسم الفيلم “حمى البحر المتوسط” هو بالأصل مرض يصيب مجموعات عرقية ذات أصول متوسطية، منهم يهود أو عرب وأرمن، هل كان هذا مقصودا حين اخترت الاسم؟

صحيح، وأردت القول إن هذه الشعوب مُصابة وتعاني من عدة أمراض، هناك المرئي والمحسوس الذي تعالجه بالدواء، وهناك أمراض غير مرئية لا نشعر بها ولا نفحصها وتوصلنا للموت. مثلا نلاحظ قوة جلال طوال الوقت، لكن نكتشف أنه الأبعد عن هذه القوة، بينما وليد يعترف بهزيمته، وهكذا الصراع في الفيلم حتى تكون النهاية المفاجأة.

  • ألم تغلب شخصية جلال التي أدى دورها الممثل أشرف فرح حين ظهرت على شخصية وليد التي أداها عامر حليحل؟

كلاهما مبهران، وكل واحد له شخصيته، ربما لدينا ممثل أدى دور شخص له طاقة ضعيفة ومكتئب، مقابل آخر طاقته قوية، لكن هذا ليس معناه أن هناك ممثل أفضل من آخر، بل لعب عامر دور المكتئب بطريقة ممتازة وأثّر على المُشاهد، ومن خلاله عرف الناس كيف يبدو المكتئب عاديا لكنه يعيش في عالم من الظلام، بينما مثَّل جلال دور الحيوي صاحب المشاكل والضوضاء، وكل ممثل منهما له تاريخه في التمثيل، وقد أعطوني ما أردت وأكثر في الفيلم.

  • هل استغرق الفيلم مدة طويلة في تصويره؟

بالعكس، انتهينا في شهرين، بدأنا في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021، وانتهينا في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وكان عدد أيام التصوير بين حيفا وقبرص 25 يوما، وفي أبريل/نيسان ذهبنا إلى مهرجان “كان”، وحصلنا على جائزة “نظرة ما” لأفضل سيناريو، وقد كتبته على امتداد عدة سنوات.

  • وهل ألهمك إلى الكتابة شيءٌ بعينه؟

يأتي الإلهام من أي شيء، ممكن أن تجلسي في الشارع وتمرّ بك امرأة غريبة تبنين عليها فيلما كاملا، وتعطينها تاريخا وتفاصيل ليس لها علاقة بها، لكنها أوحت بذلك أو ألهمتك بقصة ما، وغالبا أكتب القصة في رأسي قبل أن أخط الفكرة، وبعدها أكتب ملامح الشخصيات وأعطيها أسماء، وأحيانا أمسك ورقة وقلما وأكتب تسلسل الحوار كاملا ثم الفكرة، وهذا قليل ما يحدث، فأنا أفضل الطريقة الكلاسيكية بالكتابة، لكنني لا أكتب رواية، بل سيناريو فيلم.

  • هل تعتقدين أن كتابة الفيلم الذي تخرجينه سهّلَ عليك مهمة صناعته؟

أُفضل أن أكتب وأخرج الفيلم، وفي يوم ما حين أجد سيناريو جاهزا يقنعني سأخرجه كفيلم، لست مُتزمّتة بهذا الشأن، أو ربما أكتب سيناريو لمخرج أثق به.

الفكرة أنني أكتب وأخرج لأنني أعرف ما أريده، ربما هناك توقعات لدي في البداية تليها خيبات أمل، وقد تكون عندي تصورات معينة حين أكتب السيناريو وأخاف أن أعطيه لمخرج يُغيِّره، وقد يخرجه بطريقٍ مختلفة عما أريد، فإذا أعطيت سيناريو لعشر مخرجين سيكون لديك عشرة أفلام مختلفة، لأن لكل مخرج رؤيته، وأنا أعمل على أن أقلل خيبات الأمل بقدر الإمكان حين أكتب فيلمي.

تفادي الخيبات حين أصنع ما كتبته كفيلم وأترجمه إلى الواقع هو التحدي والمتعة معا، ومع ذلك فلا مفر من الخيبات، فهناك عدة مراحل؛ الأولى إبداع الكتابة، ثم إبداع الإخراج، ثم تحرير الفيلم، وهنا نهدم ونبني الفيلم من جديد، إلى أن أصل إلى نقطة أقول فيها هذا ما أريده.

وحين يجهز كل شيء ونضع الموسيقى، ثم أشاهده أشعر بفجوة، ولا يمكن إلا تقبل النتيجة، فإما أن يقول المخرج “واو”، إنه أفضل مما توقعت، أو ليس هذا ما أردته. في النهاية هو مولودي ويجب أن أحبه كما هو، وممكن أن تكرهي نفسك في تلك اللحظة وتلوميها، خاصة مع كل التوتر خلال المرحلة النهائية من تحريره، ثم ستقولين يجب أن أقبل مولودي.

وأخيرا يأتي الناس ويشاهدونه إذا أحبوه، يذهب الشك عن عملي الخاص، وكي أصل إلى هذه اللحظة أمر بكثير من عدم الاستقرار، فالمخرج لا يستطيع أن يشكر نفسه ويمدحها إلا بعد شعوره بنجاحٍ كبير للفيلم لدى الجمهور. لحظتها يشعر أن ما قام به فن حقيقي وليس تجاريا، وهذا ما يعيدنا إلى نقاشنا منذ البداية. لحظتها لن يهم التكنيك، بل القصة التي حملها الناس معه والمشاعر التي عاشت معهم.

  • سؤال أخير أكرهه لكن لا بد منه، هل رأى البعض أنك أخرجت وكتبت وصنعت الفيلم كرجل، ناحية الرؤية والشخصيات وزوايا القصة؟

لا يضايقني السؤال. كوني امرأة لا يعني أنني مُلزمة بكتابة قصص عن نساء، أو أكتب الأشياء من وجهة نظر نسائية ونسوية، فأنا بوصفي فنانة أعتبر أن لدي حرية كاملة بالتعبير وباختيار الشخصيات والقصص التي أريد أن أرويها.

هنا أحب أن أكتب قصة عن رجلين، وأغوص بعالم وبشخصيات بعيدة عني من ناحية الجنس. لقد جربت وخرجت من القوالب التي تعوّدنا أن نُوضع فيها. لا شيء يمنعني، وأستغرب حين يتوقع مني بعض الناس أن أكتب وأُخرج فقط عن النساء وللنساء، وبقصة فيلم “حمى البحر المتوسط” ابتعدت عن ذلك قدر المستطاع، وخلقت شخصيات رجالية (ليست ذكورية)، بل رجالا قابلين للكسر، شخصيات هشة ومهزوزة وحساسة لأبعد الحدود.