“ولد من الجنة”.. قروي بريء يقع ضحية صراعات السلطة والسياسة في الأزهر

رغب بإنجاز فيلم عن الأزهر، فهو ابن مهاجر وجدّاه كانا من الدلتا، وجدّه درس في الأزهر نهاية الثلاثينيات. وفي مخيلته باتت حكايا الجدين شبيهة الأساطير. حين كان يقرأ يوما رواية “اسم الوردة” للإيطالي “أمبرتو إيكو” التي نُشرت عام 1980 (هي تساؤلات فلسفية حول حقيقة الأشياء في معالجة بوليسية مثيرة تحقق في جرائم قتل بأحد أديرة إيطاليا في القرن 14) تساءلَ عن إمكانية قيامه بإثارة أفكار مماثلة لما فعلت الرواية، عن العلاقة بين الدّين والفن مثلا، لكن في دينه هو. فكّر كذلك بأن العرب هم أبطال فن الحكاية، وقد رووا في الماضي قصصا مثل “كليلة ودمنة”، فلمَ لا نفعل ذلك اليوم؟ هل هو بسبب الرقابة الذاتية؟

حين قرر فيما بعد كتابة نص سينمائي حول الأزهر، كان فيلمه الروائي الثالث “ولد من الجنة” (2022) الذي أهّله لنيل جائزة السيناريو في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الماضي 2022.

قد يعود سبب نيل الجائزة هو جرأة السيناريو، أو جدّة موضوعه واقترابه من مكان لم يكن يوما مسرحا لأحداث على النحو الذي بدتْ عليه. صحيح أن الأزهر باعتباره صرحا دينيا وجامعيا كثيرا ما ظهر في أفلام عربية، لكنه لم يكن يوما محطّ اهتمام فيلم بأكمله يدور حول صراعات سياسية ودينية تحكمه، كما فعل في هذا الفيلم المخرج المصري السويدي طارق صالح.

وفاة الإمام الأكبر.. قروي بسيط في قلب صراع الخلافة

يبدي “ولد من الجنة” من خلال مسيرة الشاب آدم (الممثل الفلسطيني توفيق برهوم) صراعات السلطتين السياسية والدينية.

هذا الشاب القروي البسيط المنجذب نحو المعرفة والكتب، والعامل في صيد السمك مع أبيه، يُقبَل للدراسة في جامعة الأزهر المرموقة في القاهرة، وفي يومه الأول يتوفى فجأة الإمام الأكبر، ليجد آدم نفسه عن غير قصد ودون أدنى رغبة في قلب نزاعات لا هوادة فيها على السلطة بين نخب دينية وسياسية في البلاد، دون أن يخلو الأمر من جرائم قتل.

كان اهتمام الفيلم مركزا على هذه الصراعات وسلوك السلطة السياسية وذراعها القوية “مباحث أمن الدولة” في التأثير على مجريات الأوضاع في هذا الموقع الحساس، أكثر من اهتمامه بالنقاش الديني الذي يفرضه مكان كهذا، وسيكون آدم وسيلة من وسائل المباحث الكثيرة للتجسس في الأزهر. لقد كان مرشحا مثاليا لطيبة قلبه وخبرته القليلة ووضعه الاجتماعي الهشّ، وكلها عناصر تسمح بسيطرة كاملة عليه، وتبعد شكوك الآخرين عنه.

كان آدم يعيش في القرية حياة موزّعة بين الصلاة في المسجد وبين الصيد مع والده، وكان يمكن أن تستمر هكذا هادئة ساكنة، فقد انقلبت الأحوال مع حصوله على المنحة الدراسية في القاهرة، ففي مدينة كهذه تعجّ بالناس والمؤامرات، لم يعد ممكنا متابعة حياته البسيطة بين الدراسة والصلاة كما أمل أن تكون.

آدم.. جاسوس لمصلحة المباحث المصرية

مع قدومه في وقت حرج فرغ فيه مركز إمام الأزهر، لم يكن ممكنا أن تمرّ الأمور بسلام وهدوء، فالمركز أثار طمع الجميع من معتدلين وإسلاميين، كما أن الدولة التي تريد فرض مرشحها.

بات آدم رغما عنه جاسوسا داخل الجامعة لمصلحة مفتش المباحث (الممثل اللبناني السويدي فارس فارس)، في سعي من السلطة السياسية للتدخل وإيصال موال لها إلى الرئاسة.

الممثل الفلسطيني توفيق برهوم الذي قام بدور آدم

في أروقة وساحات الأزهر تبدأ قصة بوليسية مشوّقة يندد فيها الفيلم بمهارة بالسياسيين الفاسدين والمخادعين الدينيين والمنافقين في الدين، ويستنكر تدخلات نظام مخابراتي عنيف وفاسد، ويوضح أساليب السلطة الشمولية في ممارسة الضغوط على الأفراد والهيئات.

سيكون آدم العائد إلى قريته والناجي بمعجزة من القتل غير آدم التي غادرها، لقد تعلم الشاب القروي دروسا كثيرة في وقت قصير.

القاهرة.. سحر الشرق المُلحّ على التصوير فيها

عُرض الفيلم في معهد العالم العربي بباريس، قبل أن يخرج في اليوم التالي في الصالات الفرنسية، مصحوبا بدعاية واسعة، وبعنوان أكثر لفتا للانتباه “مؤامرة القاهرة”، فوجود القاهرة في أي عنوان يثير في مخيلة الغربيين سحر الشرق، وهو أكثر جذبا لجمهور فرنسي.

حصل ذلك أيضا في فيلمه السابق “القاهرة السرية” (2017)، وعنوانه العربي هو “حادثة هيلتون النيل”، وقد استوحي من قصة مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي على يد رجل أمن، بتحريض من رجل أعمال مصري.

لكن القاهرة هذه المدينة الساحرة التي كانت مسرح أحداث هذين الفيلمين لطارق صالح، لم تظهر إلا في مشاهد خارجية مصوّرة بكاميرا محمولة، لتبدو في عملية توليف وكأن الأبطال يتحركون فيها، بينما هم إما في المغرب أو الأردن أو تركيا.

لقد فرضت استحالة تصوير الفيلمين في القاهرة على المخرج اللجوء إلى هذا الأسلوب. هذا الأمر يثير فضولا ويدفع لطرح سؤال على طارق صالح المولود في استوكهولم عام 1972 من أب مصري وأمّ سويدية، فلماذا بعد مرور خمس سنوات على فيلمه “القاهرة السرية” يعود في “مؤامرة القاهرة” إلى القاهرة من جديد؟ ما نوع العلاقة التي تربطه بهذه المدينة؟ ولمَ هذا الإلحاح على مكان يستحيل عليه التصوير فيه؟

جهّز فريق عمل فيلم “القاهرة السرية” إستوديو في المدينة، لكن الأمن المصري أغلقه قبل بدء التصوير بثلاثة أيام، مما أجبر المخرج على الانتقال إلى المغرب، كما اتجه في فيلمه الأخير إلى تركيا، وكان جامع السلطان أحمد بديلا عن الأزهر.

نسأل طارق صالح في نقاش سريع بعد عرض الفيلم في معهد العالم العربي بباريس، ثم تابعناه عبر إرسال الأسئلة فيما بعد عبر البريد الإلكتروني. هذا ما أتجنبه منه في العادة، لكن ضيق وقته وبرنامجه المكثّف الموّزع على يومين فقط، والمكرّس بالطبع للصحافة الفرنسية فقط؛ فرض هذا الوضع.

هو أيضا لم يكن يشعر بالرغبة حقا بالحديث عن فيلمه لصحافة عربية قبل أن يُعرض فيلمه في بلد عربي وتتاح رؤيته لجمهور عربي (فيما بعد كان مهرجان مراكش الأخير أو مكان عرض في الفيلم). وهذه إجابات طارق صالح المرسلة.

لا تزال القاهرة نوع من هوس أو شغف لديك على ما يبدو، لماذا هذا الإلحاح على التصوير فيها، فيما أنت ممنوع من السلطات هناك بالقيام بذلك؟

أحبّ مصر، وعائلتي كانت مستقرة في المنصورة، أما أنا فإن مكاني المفضل على وجه هذه الأرض هو الإسكندرية، لكن المطاف دائما ما ينتهي بي في القاهرة. لعل هذا عائد إلى اهتمامي بالسلطة، وهذه مركزها القاهرة.

  • حاولت عدم إثارة الحساسيات الدينية في الفيلم، وبدا أنه يهتم بالسلوك “السيئ” لرجال الدين والسلطة السياسية، أكثر من اهتمامه بإثارة قضايا الدين. هل لهذا علاقة بتجنب إثارة حساسيات، وهل ترى أن الفيلم يشكل حساسية ما للناس في العالم العربي والإسلامي؟

لا أرى أن فيلمي مثير للجدل من وجهة نظر دينية، فالمسلم لا يؤمن بقدسية المخلوق، وبالتالي حتى لو لبس الإنسان رداء أو زيّا دينيا، فهذا لا يحميه ولا يجعل إمكانية كونه منافقا مستحيلة. قد يحاول رجال في السلطة الادعاء بأن في الفيلم نوعا من الهجوم على العرب، لكن سؤالي لهم هو لماذا لا تحظرون أفلام هوليود التي تصورنا على أننا أقل شأنا؟ أظن أنهم لا يهتمون بهذا الأمر، فهو لا يتحدى على نحو جديّ الوضع الراهن.

لقطة من فيلم “ولد من الجنة” داخل الأزهر الشريف
  • ذكرت في حواراتك وفي لقائك مع الجمهور أن فكرة الفيلم جاءتك من قراءة رواية “اسم الوردة” لـ”أمبرتو إيكو”، فكيف أصبحت هذا الرواية مشروعا سينمائيا بالنسبة لك؟

أحب طريقة “أمبرتو إيكو” في استخدام هذا النوع الروائي ليبحث ويستقصي العلاقة بين الدين والفن، وأنا بوصفي فنانا تساءلت إن كان بإمكاني فعل ذات الشيء، مع إيماني الخاص (ديني)، ثم قررت أنه نعم يمكنني ذلك.

في الفيلم تظهر القاهرة في صور خارجية، كأن تمرّ الكاميرا على شوارعها الحافلة بلافتات بالعربية، وصور تمجيدية للرئيس من نافذة السيارة التي يركبها البطل آدم. أنت ممنوع من التصوير هناك، كيف عملت للحصول على هذه الصور؟

إنه سرّ المهنة.

  • ثمةُ مشكلة تكمن في لهجة الممثلين بالمصرية، هي غير مقنعة، كما أن المشاهد المصورة في مصر لم تقنع في أن الأحداث مصورة هناك. هذا أثّر على تجاوب البعض مع الفيلم (مشاهد مصري من الجمهور وجّه ملاحظة للمخرج أيضا بهذا الخصوص). لِمَ لمْ تستعن بممثلين مصريين؟

يوجد في الفيلم ممثلون مصريون، وأنا أحبّ الممثلين المصريين. لقد اتصل بي كثيرون ممن أرادوا أن يكونوا في الفيلم، وكان علي أن أفكر فيما إذا كان ذلك سيضر بمسيرتهم المهنية في مصر، بعضهم يتحدث بلهجات لا تصادفنا عادة في التلفزيون والسينما، لقد استخدمت أيضا ممثلين فلسطينيين وسوريين رائعين.

  • وهل تجد فرقا في أسلوب التمثيل بين هؤلاء وبين الممثلين المصريين؟

في التمثيل ليس تماما، إنما في صناعة الأفلام يمكن أن نميز أساليب محلية، لقد كان من دواعي سروري العمل مع ممثلين مصريين مذهلين، أيضا يعجبني الفلسطينيون بشكل خاص، فإن أسلوبهم في التعبير الفني يتمتع بحُريّة كبيرة.

مخرج فيلم “ولد من الجنة” طارق صالح
  • هل توقعت جائزة السيناريو في مهرجان كان، وهل ترى أن حداثة الموضوع لعبت دورا؟

لا تتوقع أن تربح جائزة في مهرجان كان إلا إذا كنت مصابا بنرجسيّة مَرضية، إذا كنتِ تقصدين بحداثة الموضوع أن أحدا لم يشاهد فيلما كهذا من قبل، فعندها يمكنني الموافقة على ذلك، لكنه أيضا نص فريد، وسيكون فريدا حتى لو حدث داخل أمكنة أخرى، مثل “ييل” أو “برينستون” (جامعات أمريكية شهيرة ضخمة وفخمة).

  • نخرج بانطباع بعد الفيلم أن أفضل مكان للعيش بسكينة وسلام هو القرية وليس المدينة. هل هذا نابع من خبرة شخصية؟

عائلتي من قرية فيشا بنا بالدقهلية، أقاربي هناك أنقياء وصادقون للغاية، أما الآن فقد تحوّلت هذه القرية إلى مدينة صغيرة، وأصبح لدى الصغار “إنستغرام” و”تيك توك”، لذلك أظن أن الواقع لم يعد حقا الآن كما كان عليه الحال في فيلمي.

ومن الجدير بالذكر أن المخرج وكاتب السيناريو طارق صالح وُلد في ستوكهولم، وكان ناشرا ومحررا لمجلة، قبل أن يحقق وثائقيا عن “تشي غيفارا” وغوانتانامو، ثم فيلم رسوم متحركة.

فيلمه الروائي الأول “تومي” كان بوليسيا أيضا، لكن باللغة السويدية ومع أبطال من السويد، هذا قبل أن يحقق فيلميه الأخيرين “حادثة هيلتون النيل” و”ولد من الجنة”.