“يوجد اليوم تيار من مدرسة سينمائية خلقتها الجزيرة الوثائقية”.. حديث مع مدير الوثائقية

بعد حوالي 17 عاما من انطلاقها، استطاعت قناة الجزيرة الوثائقية أن تصبح رقما صعبا ومؤثرا في عالم الصناعة الوثائقية العربية، فقد توجهت منذ البداية إلى ابتكار حمضها النووي الخاص بها، وإبرازه في أعمالها المنطلقة من الواقع العربي، في سبيل توعية المشاهد العربي، وإثراء المكتبة الوثائقية العربية.

وخلال السنوات تحولت من متابع لدهاليز السينما العالمية إلى لاعب مؤثر ذي حضور في المحافل الدولية، من خلال شبكة ضخمة من صناع الأفلام الذين يعملون تحت لواء الجزيرة الوثائقية، ويحصدون الجوائز في كبريات المهرجانات الدولية، وأنتجت آلاف الساعات من الفرجة المتنوعة المشارب والمضامين والأساليب الفنية.

وقد صنعت وعيا وذائقة فنية لدى المشاهد العربي، فتغيرت النظرة النمطية إلى الأفلام الوثائقية، ولم تعد مجرد أفلام سياحية أو استشراقية، بل أصبحت فنا ينبثق من رحم الثقافة العربية، يستعرض التاريخ العريق ويلامس الواقع المأزوم بتقلباته السياسية والاجتماعية والثقافة، وينطق بمفردات الهوية العربية والإسلامية، فأصبح الوضع مختلفا عما كان عليه في حقبة ما قبل الجزيرة الوثائقية.

واليوم في هذا العالم المتقلب، تواكب الجزيرة الوثائقية منصات العرض الحديثة، لتبقى في مركز الريادة بالعالم العربي، وتواصل نجاحاتها التي وضعت اسمها في سماء الإنتاجات العربية الوثائقية، من خلال شراكاتها القوية مع المنتجين وصناع الأفلام والمهرجانات الدولية، وتكيفها مع أنماط المشاهدة المتجددة.

مدير القناة الوثائقية أحمد محفوظ خلال عرض فيلم الحمراء وابن الخطيب في قطر

في حوار خاص مع مدير الجزيرة الوثائقية أحمد محفوظ، نستعرض تاريخ الوثائقية منذ فجرها الأول، والمحطات التي مرت بها، ويحدثنا عن منجزات القناة في المكتبة الفنية وفي الواقع العربي وإنعاش الهوية، وحصادها في المهرجانات العالمية المختصة، وعن آفاق المستقبل الوثائقي.

  • دشنتم هذه السنة واحدا من أنجح إنتاجاتكم الوثائقية المشتركة، وهو فيلم “الحمراء وابن الخطيب” الذي حظي باهتمام كبير بعد عرضه داخل إسبانيا وفي عدد من الدول العربية، كما حصد فيلم “كذب أبيض” الذي ساهمتم في إنتاجه على جوائز في فرنسا وفي أستراليا وغيرهما. هلّا حدثتمونا عن الوصفة الخاصة التي استطاعت من خلالها قناة الجزيرة الوثائقية الوصول إلى منصات التتويج في كبرى المحافل الدولية؟

بعد انطلاق الجزيرة الوثائقية في 1 يناير عام 2007، واشتغالها على تكوين قاعدة كبيرة من المنتجين في العالم العربي، وإعادة تنشيط الذاكرة العربية مرة أخرى عبر توثيقها ووضعها في أفلام، كان لا بد من انطلاقة جديدة في دعم صُنّاع الأفلام الوثائقية؛ لوضعهم على خريطة الإنتاج الوثائقي حول العالم، فاتجهنا نحو الأسواق العالمية للمشاركة فيها، ولمعرفة المواصفات الدولية والعالمية في الإنتاجات ونقلها لتكوّن خبرات متراكمة لدى المنتجين العرب.

بدأنا في دفع المنتجين العرب للولوج إلى غمار الأحداث الثقافية على مستوى العالم، وقد أسفر ذلك عن تراكم في الخبرات، ثم صارت الشركات والإنتاجات تتبارى على الجوائز العالمية، وتتنافس على الجودة العالمية في الإنتاج الوثائقي، وعاد ذلك على قناة الجزيرة الوثائقية بشكل خاص، وعلى الإعلام العربي بشكل عام بالتطوير والاستفادة من الاحتكاك بين منتجي العالم العربي والمنتجين الآخرين على مستوى العالم.

لقد حصدنا الكثير خلال 10 سنوات من التجارب والخوض في غمار هذه الأحداث الثقافية، مثل مهرجان “إدفا” و”كان” في المستوى الوثائقي، و”هوت دوكس” في كندا، و”ساني سايد” و” شيفيلد” و”لايبتزغ” وغيرها الكثير، ومهرجان الجزيرة سابقا، ومهرجان “الجزيرة بلقان” حاليا. كل ذلك هو ثمرة يمكن أن تقطف من خلال الجوائز التي يحصل عليها المنتجون العرب، وتحصل عليها الأفلام التي تشارك الجزيرة الوثائقية فيها.

وليس المهم الجوائز التي نحصدها بقدر عرض أفلامنا وتجاربنا والرؤى الخاصة بالمنتجين العرب، فنحن في منطقة تحمل الكثير من الثقافة والحراك، وهناك تفاعل كبير من العالم العربي، فلا بد من الجدل بين ثقافتنا وبين ما نمر به من أحداث، وبين الثقافة العالمية والدولية، وذلك من خلال عرض الأفلام الوثائقية على شاشات المهرجانات الكبرى.

كان من ضمن هذه الثمرات فيلمان كبيران أُنتجا بالمشاركة مع الجزيرة الوثائقية بقدر مهم على المستوى المادي، وعلى مستوى الضبط التحريري، وتعد هذه مسؤولية كبرى لقناة الجزيرة الوثائقية. الفيلم الأول “الحمراء وابن الخطيب” للمنتجة الإسبانية “إزابيلا فرنانديز”، يتحدث عن لسان الدين ابن الخطيب، وعلاقته بقصر الحمراء وعن بناء هذا القصر، وعن كون ابن الخطيب شخصية مؤثرة مهمة، والفيلم الثاني “كذب أبيض” للمنتجة المغربية أسماء المدير التي حصد فيلمها الكثير من الجوائز، وما زال يحصد المزيد. ويعد الفيلمان من كنوز الثقافة العربية بشكل أو بآخر، ولذلك كانت الجزيرة الوثائقية سباقة لأن تكون فيهما.

يصوّر فيلم ” الحمراء وابن الخطيب” فترة مهمة من فترات الحضارة الإسلامية في الأندلس، وهي فترة لم نعرف الكثير عنها ونودّ المعرفة عنها أكثر، وإن لم نتحدث نحن عن هذه الثقافة وهذه الفترات فمن سيتحدث؟

أما فيلم “كذب أبيض” فقد حصد جائزة مهمة في مهرجان “كان” 2023، حيث أقام مسابقة خاصة بالنقاد، فحظي الفيلم بقدر كبير جدا من المشاهدة والإعجاب، لأنه فيلم ذاتي يتحدث عن فترة مهمة جدا في تاريخ المغرب.

مدير قناة الجزيرة الوثائقية أحمد محفوظ
  • لنبدأ الحكاية من البداية، ما هي الجهود التي بذلتها الجزيرة الوثائقية في السنوات الماضية للانتقال إلى الإنتاجات المشتركة مع صناع الأفلام العالميين؟ ما هي الفوائد والتحديات التي واجهتها القناة في هذه العملية؟ وكيف نجحتم؟

وضعت الجزيرة الوثائقية صناعة الأفلام الوثائقية في الوطن العربي نصب عينيها، ولهذه الصناعة مفردات يجب دعمها وتقويتها، لأن ذلك يدعم شاشة الجزيرة الوثائقية، وهذا الدعم لم يشمل المال والمادة فحسب، بل شمل المشاهد أيضا، ففي ما قبل الجزيرة الوثائقية لم يكن المشاهد على هذه الدرجة من التذوق للأفلام الوثائقية، وكان تصوره ضيقا عن الأفلام الوثائقية، فقد انحصر هذا التصور في الأفلام السياحية أو الأفلام التي يمكن القول إنها موجّهة، أو الجريدة السينمائية الناطقة في بعض الأوقات، أو التأثر بالقنوات الإخبارية في عمل ما يسمى (Current Affairs) أو الأحداث الجارية أو الأحداث السياسية التي تخدم الأجندة التحريرية والأجندة الإخبارية.

وفرت الجزيرة الوثائقية مناخا أكثر تنوعا، فأتاحت للمشاهد العربي أن يتعرف على أنواع مختلفة من الأفلام الوثائقية، وأصبح لدينا الجمهور كما لدينا الميزانيات، وصارت الجزيرة الوثائقية صانعا ومنتجا، وليست مانحا أو ممولا فقط، فتعمل هي أيضا على الإنتاج، فصارت عنصرا صانعا للفيلم نفسه، ومن ضمن الأهداف التي عملت عليها الجزيرة الوثائقية دعم المنتج العربي، فهو من يملأ الشاشة بالأفلام ذات الدرجة العالية من الجودة.

فقد أصبحت لدينا اليوم هذه القاعدة التي أغرت كثيرا من القنوات المختلفة للسباق على الاستحواذ على قدر من هذا الجمهور الذي صنعته الجزيرة الوثائقية، بل والأكثر من ذلك، الاستحواذ على قاعدة المنتجين العرب الذين صنعتهم الجزيرة الوثائقية في العالم العربي.

أما بخصوص التحديات، فإن تحديات الإنتاج المشترك من ضمن التجارب المهمة التي عملت عليها الجزيرة الوثائقية، وهو ليس عرفا جديدا، لكنه كان دائما من الشمال إلى الجنوب، وتحديدا من فرنسا على العالم العربي، وتأثر شمال أفريقيا أيضا بهذا الأمر، حيث كان لهم سياسة تحريرية خاصة.

أما الجزيرة الوثائقية فقد حررت فكرة الإنتاج المشترك من هذه السيطرة، وأصبح للإنتاج المشترك ما يحفظ للمنتج العربي أو للصانع العربي أو صانع الأفلام الوثائقية العربي قدرا من الخصوصية وحرية التعبير وليس أجندة مقيدة، وهذا أحالنا إلى تحديات، من أهمها فكرة الانضباط التحريري، وتعني أن الصانع إذا دخل في الإنتاج المشترك فهو لا يملك كل الحقوق، بل يدخل في قدر معين من الإنتاج، وبالتالي فليست لديه السيطرة الكاملة.

لذلك أقول للمعنيين بالإنتاج الوثائقي، لا يجب ليّ ذراع الأمور، بل يجب رؤية ما إذا كان يتوافق مع أجندتنا التحريرية، فأذكر أن أحد الأعمال التي تحدثت عن تاريخ أفغانستان كانت مع إحدى الشركات الألمانية الكبرى، بالتعاون مع المنتج المشارك “زيدي إف” و”آرتيكن”، وهو عمل ضخم جدا، لكن اكتشفنا أن النص والرواية كانا من زاوية واحدة فقط، وهي الزاوية الأوروبية ولم يكن هناك أي طرف آخر لا من الزاوية الأفغانية ولا من الزاوية العربية، مع أنهم كانوا شهودا في ذلك الوقت، وما حدث في أفغانستان ما زال مؤثرا في العلاقة السياسية بين الغرب “المسيحي” والشرق “الإسلامي”.

فلا نريد أن نوجه الأمور نحو توجيهات معينة، بل نريد أن نضفي الرواية الأخرى من الموضوع. فأعطت الجزيرة الوثائقية جزءا من الانضباط التحريري من خلال خبراتها في هذا الأمر، وكان هذا تحديا كبيرا خصوصا أن السياسات التحريرية في العالم موجهة اتجاها واضحا، سواء على مستوى التغيرات الاجتماعية أو السياسية، وسواء على سيطرة الإنتاج الموجه أو المدفوع لتوجهات تحريرية معينة.

صورة تجمع مدير القناة مع الفنان العالمي عمرو واكد
  • هل هناك نسخة معينة من الإنتاج المشترك مخصصة للجزيرة الوثائقية؟

الإنتاج المشترك هو أحد الوسائل التي تتخذها الجزيرة الوثائقية لرفع جودة الإنتاج في بعض الأوقات، بسبب المشاركة مع كثير من المنتجين وكثير من الشركات العالمية الأخرى. ولا يوجد حد معين لهذا الأمر إلا أنه عندما نرى فيلما أو مشروعا نستطيع أن نكون منتجا مشاركا فيه نأخذه فورا، خصوصا إذا كان يتوافق مع السياسة التحريرية.

فهذا ما يعطي الجزيرة الوثائقية حمضها النووي الخاص بها، والشخصية الخاصة بها، فلا يمكن أن تعطي الأفلام المشتراة لأي قناة شخصيتها وقدرها الخاص بها، وكذلك الإنتاج المشترك فهو محدود، يحدك بقدر المشاركة في الميزانية الكلية للإنتاج.

  • تعاونت الجزيرة الوثائقية مع عدة مهرجانات سينمائية بارزة، مثل مهرجان “كان” السينمائي ومهرجان “ساني سايد” ومهرجان “إدفا”. ما هي طبيعة هذه الشراكات، وماذا حققت القناة من خلالها؟

منذ أن توجهت الجزيرة الوثائقية لحضور المهرجانات الوثائقية العالمية كان لها هدف من ذلك، وكانت لها نظرة تاريخية بعيدة، فقد كانت في السابق تحضر متابعة ومشاهدة، ترى فقط ما هي الموضات الجديدة في الإنتاج العالمي من خلال هذه المهرجانات الكبرى، فلكل مهرجان اهتمامه الخاص ومساحة خاصة يعمل عليها، فهناك الأوروبي والآسيوي والأمريكي، أما الجنوب فإنه ما زال يعاني، وأعني بالجنوب الوطن العربي وأفريقيا.

تطور حضور الجزيرة الوثائقية من مجرد مُشاهد إلى رقم ثابت وفاعل في كل ما ذكرنا من المهرجانات، فأصبحت اليوم مشاركا أساسيا في مهرجان “إدفا” الذي تجمع فيه المنتجين العرب، وتعد الجزيرة الوثائقية أول قناة تهتم بالأفلام الوثائقية العربية، وتدعم المنتجين العرب من خلال تجميعهم في هذا المهرجان، ومن خلال إعطائهم توجهاتها التحريرية في السنة المقبلة، وإعطاء نبذة عما سبق في العام الماضي وعما هو آتٍ، وتقوم بمقابلات شخصية لمتابعة المنتجين والمخرجين، وتتابع المشروعات التي ترى أنه من الممكن التقاطها من هذا الزخم في المهرجان.

يعد هذا الملتقى الأساسي أضخم الملتقيات على المستوى الوثائقي، يُختار فيه عدد من المشروعات وتُطرح على الخبراء الذين يقدمون نقدهم للفيلم أو يطرحون نقاطا لدعمه، أو يعملون معه في إنتاج مشترك، وهذا ما جعل الجزيرة الوثائقية قبلة الإنتاج الوثائقي في العالم العربي، وأصبح مهرجان “إدفا” يبدي الرغبة في التعاون معنا ويطلب منا منتجين وصناعا ليحضروا هذا الملتقى الأساسي.

انطبق هذا على مهرجان “إدفا” في أمستردام، ومهرجان “كان” لإنتاج الأفلام الوثائقية، وينطبق أيضا على “هوت دوكس” في كندا، وعلى “ساني سايد” في فرنسا، وعلى أندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين واليابان، فكل هذه الدول تقيم أحداثا ثقافية ضخمة جدا تشارك فيها الجزيرة عضوا فاعلا في الحدث، ومشاركا ومهتما بالتقاط المشروعات الهامة.

تستفيد الجزيرة الوثائقية من هذا الأمر في رفع جودة المنتج الذي يُطرح على المشاهد العربي على قناة الجزيرة الوثائقية، ودعم المنتج العربي بوضعه على خريطة الإنتاج العربية المتطورة، فيكون حاضرا في الحدث ومشاركا فيه، وأصبح فريق الجزيرة الوثائقية من أهم فرق الإنتاج في العالم العربي، سواء في الأسماء أو الخبرات، وذلك الأمر مهم جدا في مستوى الصناعة، وبصفتنا قناة الجزيرة الوثائقية فإن ذلك يعود علينا بالجودة والإنتاج، فكلما زادت هذه الخبرات استفاد المشاهد العربي من رؤية محتوى عالٍ وقيّم يحترم ثقافته وتفاعله مع هذه الشاشة.

أحمد محفوظ مع المخرج البوسني سردان ساريناك أثناء استلامه جائزة الجزيرة الوثائقية عن مشروعه “سينما تحت الحصار”
  • ما الذي حققته الجزيرة الوثائقية في تعاونها المشترك مع الجزيرة بلقان؟

مهرجان الجزيرة بلقان أحد أهم مهرجانات شبكة الجزيرة، تقوم عليه إدارة قناة الجزيرة بلقان في سراييفو، وهو يدخل الآن عامه السادس، وعملت فيه بتطور ملحوظ ودعم للأفلام الوثائقية التلفزيونية، ويقصد بالتلفزيونية التي لا يزيد طولها عن 50 دقيقة، وإخبارية في نفس الوقت، لكن تطور الأمر مع الوقت إلى قبول المهرجان بعض الأفلام الأخرى التي تسمى فيلم مؤلِف.

دخلت الجزيرة الوثائقية مهرجان الجزيرة بلقان بناء على طلبهم، لذلك لا بد أن تكون الجزيرة الوثائقية فاعلة بشكل أو بآخر، بحكم الخبرات المتراكمة الموجودة في الأحداث الثقافية والعالمية، فلا بد من التفكير ماذا يمكن أن نستفيد من خلال إطار المهرجان الموجود في سراييفو، وكيف يمكن أن نصنع أيام صناعة الأفلام الوثائقية تحت مظلة هذا المهرجان.

وقد انبثقت من رحم ذلك مبادرة أيام الوثائقية لصناعة الشراكات والإنتاج، فيطرح فيها المنتجون عددا من الأفكار والمشروعات التي تطرح على خبراء صناعة الأفلام الوثائقية، ويدار النقاش حول هذه الأفلام، وحول مدى إمكانية أن تحظى بفكرة دعم أو بيع، ثم التسويق والتوزيع.

كان العام المنصرم في 2022 الانطلاقة الأولى لهذه الأيام، وقد كانت ناجحة جدا، اشترك فيها عدد من المنتجين من البلقان ومن أوروبا، وسلطنا الضوء على منطقة وسط آسيا كأذربيجان وأوزبكستان، لأن فيها زخما على مستوى التاريخ السينمائي وعلى مستوى التغير في المنطقة، فهذا التغير سواء كان سياسيا أو إعلاميا أو غيره، فإنه من المهم أن يكون حاضرا على الشاشات الوثائقية، وكان عدد المشاركين 50 مشاركا من الخبراء وممثلي شركات التسويق الكبرى في عالم الإنتاج الوثائقي.

  • يمكنكم أن تشرحوا لنا أهمية استثمار الجزيرة الوثائقية في المواهب الجديدة في صناعة الفيلم الوثائقي في العالم العربي؟ ما هي المبادرات والبرامج التي قمتم بتنفيذها في هذا الصدد؟

لا يمكن أن تقوم أي صناعة من دون صانع ماهر، فكلما كان العمل فنيا عالي الجودة بقي لفترات زمنية أطول، ذلك ما وضعته الجزيرة الوثائقية نصب عينيها، فلا يمكن أن نقدم أفلاما وثائقية أو نطورها بدون وجود الصانع الماهر أو المنتج، فهو العنصر الأهم، لذلك فإنه لا بد من أخذ الكثير من الآليات حتى تكون قاعدة من المنتجين والمخرجين المستقلين في العالم العربي.

ولقد كانت الفترة التي نشطت فيها قناة الجزيرة الوثائقية فترة اتجاه المنتجين نحو الإعلانات كأعمال تجارية أيسر وأسهل وأكثر فائدة ماليا، والمسلسلات الدرامية والأفلام الوثائقية التي كانت أقرب للأفلام الإعلانية.

فكيف يمكن جذب الصانع إلى نوعية الأفلام الوثائقية الطويلة، مع أن عائدها أقل من عائد الإعلانات، وتحتاج بحثا طويلا عن المعلومات، وبالتالي كان على الجزيرة الوثائقية أخذ بعض الاعتبارات لجذب هذه القاعدة من المنتجين ليتشاركوا في عمل أفلام وثائقية مرة أخرى، وإعادة الاعتبار لها، وهذا ما نجحت فيه الجزيرة الوثائقية بشكل كبير جدا.

منذ بداية انطلاق الجزيرة الوثائقية في عام 2007، بدأ العمل فيها 22 منتجا مستقلا وشركة إنتاج، ثم في عام 2010 أصبح عدد العاملين فيها 220 منتجا مستقلا وشركة إنتاج، أما الآن فهناك ما يزيد عن 500 شركة ومنتج مستقل يعملون في الجزيرة الوثائقية، لكن عملهم لم يكن بشكل دائم خصوصا في فترة تقليل الميزانيات، وفترة جائحة كورونا والتأثر الاقتصادي في هذه الفترة. وينتج عن ذلك أن يكون للجزيرة الوثائقية حوالي 3 آلاف ساعة تلفزيونية، ويعد هذا الرقم ضخما جدا في حوالي 17 عاما من بداية الجزيرة.

كانت هناك بعض المبادرات لتطوير الصناعة وتطوير صانعي الأفلام الوثائقية لتدريبهم على نقل الصناعة من الإنتاج المحلي إلى الإنتاج الدولي، وهذا الأمر يحسن الجودة لتصل لجودة عالمية تجعلها أكثر قبولا في المهرجانات، ومن المبادرات الأخرى فكرة تدريب الزملاء من المنتجين والمخرجين على فكرة عمل الملفات التي يمكن أن تدخل إلى المساحات المختلفة على مستوى الإنتاجات الضخمة.

أهم مبادرة قامت بها الجزيرة الوثائقية هي جذب المنتجين إلى العمل في الإنتاجات الوثائقية، مع ضمان وجود ميزانية مقبولة لإنتاج الأفلام، ووجود منتِج داعم من داخل القناة، يوجه الصانع ويتابع معه الفكرة التحريرية، وكل تلك الأمور كانت جاذبة بشكل أو بآخر لزملائنا من المنتجين والمخرجين في العالم العربي.

أحمد محفوظ خلال مشاهدة واحدة من أفلام القناة
  • هل يمكنكم أن تشاركونا ببعض النجاحات البارزة التي تحققت في مجال الفيلم الوثائقي بفضل الاستثمار في المواهب الجديدة؟ هل لديكم أمثلة على أفلام ناجحة أو مبدعين واعدين؟

أهم ما تراعيه قناة الجزيرة الوثائقية هو المنتَج الذي تخرجه للمشاهد، سواء كان المنتج فيلما طويلا أو فيلما قصيرا أو حتى على الشاشات الكبرى في قاعات السينما، فقد حافظت القناة بشكل كبير على صناعة الأفلام الوثائقية، خصوصا أن الفترة التي بدأت فيها القناة كانت فترة ركود، إما لأن الأفلام الوثائقية كانت تحت الأيدي الحاكمة، وبالتالي كانت موجهة توجها معينا، وإما لأنه لم تكن هناك الحاضنة التي تحتضن أفكار المنتجين وتدعمهم حتى ينتجوا، فلم تكن هناك قناة متخصصة في صناعة الأفلام الوثائقية قبل الجزيرة الوثائقية.

ساهم ذلك في إعادة الاعتبار لكثير من مفردات الهوية والثقافة العربية التي كادت أن تندثر وسط موجة من العولمة والتذويب الثقافي، فلحقت الجزيرة الوثائقية بهذه الأمور، واستطاعت أن تضعها على أفلام ستبقى في التاريخ.

يوجد اليوم تيار من مدرسة سينمائية خلقتها الجزيرة الوثائقية في الأفلام الوثائقية، وهذا التيار محافظ اجتماعيا وأخلاقيا وسلوكيا على الشاشة، بخلاف الاتجاه الآخر الذي يدعم تذويب هذه الأصول أو المفردات الاجتماعية والأخلاقية التي تتبناها الوثائقية في العالم العربي والإسلامي حتى الآن، وكل هذه الأمور ساهمت فيها الجزيرة الوثائقية، على المستوى الثقافي والاجتماعي وعلى مستوى الصناعة، وبعضها على مستوى المُشاهد الذي أصبح اليوم يستطيع أن يفرق بين الفيلم الوثائقي وغيره، ويستطيع أن يتذوق في مشاهدته أكثر مما مضى.

ويعني ذلك أن ما قبل الجزيرة الوثائقية طريقة عمل وإنتاج ومشاهدة مختلفة عما بعد الجزيرة الوثائقية، فأصبح هناك تغير في طريقة الإنتاج والعمل والمشاهدة، وهذا الأثر لم يكن آنيا، بل أثرا متراكما شعرت به الأجيال.

  • برأيك، ما الذي يميز الوثائقية اليوم عن بقية القنوات الوثائقية الصاعدة؟ ولماذا على الجمهور مشاهدة أفلامكم؟

غيّرت المنصات طريقة المشاهدة اليوم، فأصبح المشاهد عنصرا رئيسا في تحديد ما يشاهد وما لا يشاهد، ولم يعد الأمر كما في التلفاز التقليدي، بل صار بإمكانه تحديد ما يريد أن يراه في الوقت الذي يريده، فالمُشاهد العربي اليوم يستطيع أن يرى الجزيرة الوثائقية على أي منصة يريدها، فالذي يجذب المشاهد لهذا العمل أو ذاك هو الأمر الذي تريد الجزيرة الوثائقية أن تقترب منه.

أرى أن الجودة والخصوصية هما ما يمكن أن يجذب المشاهد لرؤية شاشة الجزيرة الوثائقية أو المنصات التي تعرض أعمال الجزيرة الوثائقية، والمسألة ليست سهلة، خاصة مع الزخم الموجود الآن، فقد أصبح لدينا خليط من الأنواع والأنماط المختلفة في الإنتاجات، فظهر في الوقت الحالي ما يسمى “يوتيوبر” ينافس شركات الإنتاج، فلا بد من تغيير السلوك لجذب المشاهد بما لا يتنافى مع السياسة التحريرية الخاصة بالجزيرة الوثائقية.

فكرة نمط تغير المشاهدين وتغير توقعات الجمهور هي إشكالية كبيرة، فلا يمكن السيطرة على هذا الأمر حاليا، فقد أصبح المشاهد أكثر تذوقا وتمردا، وهذا يحتاج كثيرا من الدراسات لمعرفة كيف يتغير هذا الجمهور، فمنصة كمنصة “تيكتوك” مثلا تعد منصة حاضنة للشخص الصانع.

غيرت منصة اليوتيوب أيضا في نمط المُشاهد ونمط استهلاك عينه، لدرجة أنني اكتشفت أن أحد الـ”يوتيوبر” يصنع فيلما بإيقاع خاص في الصور أو الموسيقى، وعندما أتابع هذا الفيلم كنت أشعر بأنه يطول في بعض الأحيان، لأن نمط مشاهدتي قد تغير. وفي السابق عندما درست السينما، كان لدي كفرا بيِّنا إذا أخطأ أحدهم في قواعد السينما، أما الآن فأنا أقبل كسر قواعد الخط الوهمي، وخط النظر وغيرها من القواعد، فلا بد أن نعرف أن هناك تغيرات كبيرة ليس على المستوى الأخلاقي فحسب، بل حتى على المستوى الفني.

مشاركة القناة الوثائقية في النسخة الأولى من أيام الجزيرة الوثائقية في سراييفو
  • في ظل هذا التغير في نمط المشاهد، ماذا تقول لصناع الأفلام الجدد؟

يجدر بصناع الأفلام الجدد تحديد رسالة هذه الصناعة ونوعية الأفكار التي تريد طرحها وكيف ستطرحها، فلو أراد أحد السفر إلى بريطانيا مثلا فلا بد أن يتقن الإنجليزية حتى يستطيع أن يتعامل مع الإنجليز، وكذلك الأمر بالنسبة للصانع، فهو يتعامل مع كاميرا وأدوات لها لغة لا بد أن يتقنها.

والثقافة من الأمور المهمة جدا، فلا بد أن تحيط بما يحدث حولك من تغيرات في السياسة والدين والثقافة وغيرها، ولا يجب أن يمر عليك يوم إلا وقد شاهدت فيه شيئا يثري ثقافتك البصرية، أو قرأت شيئا يثري ثقافتك العامة، وهذه القراءة لا تكون عبر منصات التواصل الاجتماعي فحسب، فهذه قراءات عابرة، والقراءة المطلوبة هي قراءة الأدب بأنواعه، من الكتب التي تثري الثقافة في الفلسفة وعلم النفس وغيرها.

وكل هذه الأمور لا تسمن ولا تغني من أن يكون صانع السينما مطورا لذاته ومطورا لما هو حوله، فتفاعله سيكون هو ديدن موضوعاته وديدن أفكاره التي يعرضها على المشاهد فيتفاعل ويؤثر فيه.

  • هل يوجد نقص مجال الوثائقيات لم يلتفت إليه صناع الأفلام العرب؟

إن موضوعات الأفلام الوثائقية لا تنتهي، فمع كل لحظة هناك موضوعات وثائقية جديدة، لكن المهم هو من يستطيع أن يراها، ومن يستطيع أن يطرحها برؤية مختلفة أو جديدة، فكل هذه الأمور هي أمور تحكم قيمة الموضوع وقيمة المنتج الوثائقي.

فالمواضيع كثيرة جدا خاصة في المنطقة التي نحن فيها، لأن المنطقة العربية لها تاريخ ضخم جدا لم نستطع الإحاطة به كله روايةً، ولنا حاضر متدفق متحرك خصوصا في فترة الثورات وما بعدها، فلم تهدأ المنطقة بعدها على المستوى السياسي والأخلاقي والاجتماعي والثقافي، فأين الأفلام الوثائقية من كل هذه التغيرات والتفاعلات؟

مدير الجزيرة الوثائقية أحمد محفوظ وفريق قسم الإنتاج بالقناة يلتقي بالمنتجة مي عودة في منتدى إدفا
  • إلى أين تتجه قناة الجزيرة الوثائقية اليوم؟

تتفاعل الجزيرة الوثائقية مع كل ما ذكرنا من تطورات، سواء على مستوى التطورات التقنية، أو على المستوى الرقمي، أو على مستوى تغير منصات العرض، فبعد شاشة السينما أصبحت هناك شاشة التلفاز ثم شاشة الهاتف وشاشات الإنترنت، واستطاعت الجزيرة الوثائقية أن تتفاعل مع كل ذلك، لكن هل استطاعت أن تستفيد من كل هذه التغيرات؟ أظن أنها ما زالت لديها إشكالية في تحويل المنتج الوثائقي إلى منتج قابل للمشاهدة على شاشة الهاتف، فنحن في إطار حركي مع هذه التطورات والتغيرات التقنية والتكنولوجية.

ومما تذهب إليه الجزيرة الوثائقية أيضا فكرة تثبيت رؤية الجزيرة الوثائقية وثباتها على رؤيتها في مسألة أنها الحاضنة العربية الكبرى، بوصفها قناة لدعم الإنتاج الوثائقي في العالم العربي ودعم مفردات الثقافة العربية، فما زالت هي الكبيرة في هذا المجال، وما زالت لديها فرصة لتحافظ على ريادتها.

وأتمنى أن نتوجه في الفترة القادمة إلى الولوج بشكل أكبر إلى الصناعة الدولية والصناعة العالمية، فنحن نقدم منتجا ثقافيا، وهذا المنتج الثقافي يحتاج إلى حوار وإلى جدل بيننا وبين الأنماط الثقافية الأخرى على مستوى الأفكار، وأتمنى أن تحافظ الجزيرة الوثائقية على مكانتها في المنطقة، وسينعكس ذلك بشكل كبير على المشاهد العربي وعلى نمط مشاهدته، وتقديم وجبة ثقافية سينمائية متكاملة.

لقد بدأت الجزيرة الوثائقية فكرةً لا مشروعا تجاريا فقط، وأتمنى أن تظل فكرة حية من خلالها يمكننا المحافظة على الصناعة أو هذا الفن، فن السينما الوثائقية، وأن نحافظ فيها على بعض مفردات الهوية العربية الإسلامية.

وقناة الجزيرة الوثائقية فكرة وليست فقط مجرد قناة، والأفكار كلما صدقت وصدق الناس المؤمنون بها استمرت وأصبحت أطول عمرا.