“تراجيديا النفايات الإلكترونية”.. تجارة قاتلة ترعاها الدول وتموّلها جيوب المستهلكين

لاهتمامها ودراستها الأكاديمية للعلوم والآثار، انطبعت في أعمال المخرجة الإسبانية “كوسيما دانوريتزير” نزعةُ البحث العلمي، لدرجة أن أفلامها صارت موضعا للنقاش حول مقدار تحمُّل الوثائقي جرعاتٍ زائدة من التفكير التجريبي في المجال الإبداعي، وتجلّى ذلك بوضوح بعد منجزها الرائع “مؤامرة ضد المصباح” (The Light Bulb Conspiracy).

فقد برهنت فيه على السلوك المتعمَّد لشركات إنتاج المصابيح الضوئية المنزلية لتقصير أعمارها، مما يستدعي استبدالها بأخرى جديدة ندفع ثمنها راضين، لتذهب نقودنا إلى جيوب الأغنياء الذين يُقدّمون لنا بضائع على حافة الموت، بدلا من منتَجات معافاة طويلة العمر، كما تقره العلاقة السوية بين المنتِج والمستهلك!

وقتها استقبل الفيلم بحفاوة نقدية، لأهميته ودقة المنهج العلمي الذي اتبعته المخرجة في ملاحقة موضوع في غاية الصعوبة، بحاجة للحد المعقول من الوعي العلمي لرصد تفاصيله. هذا التوصيف نفسه قد يستدعي مناقشة دور كاتب السيناريو وصاحب فكرة الوثائقي، إذ تنحصر المهمة عليهما، بحسب بعض المختصين في نظرية صناعة الفيلم الوثائقي، ويبقى على المخرج تصوير وتقديم الفكرة في إطارها التقني السينمائي.

في فيلمها الجديد “تراجيديا النفايات الإلكترونية” (The E-Waste Tragedy) تظهر النزعة العلمية نفسها، وربما هي وحدها تسهم في الرد على المنادين بتجريد المخرج من علميته والارتهان لفنيته، لأننا إزاء عمل ينطلق من موضوع في منتهى العلمية، ويبحث في جانب يشغل بال العالم كله، ونعني به الصناعة الإلكترونية وما تقدمه من خير للبشرية، في نفس الوقت الذي تسبب فيه نفاياتها -التي لا نعرف في أي أرض ستدفن- مآسي وويلات لشعوب وقارات فقيرة، وهذا ما حاولت التوصل إليه في منجزها السينمائي المذهل، وقد تطلب منها الأمر معرفة جيدة بصناعة الأجهزة الإلكترونية والبحث عن مصير المنتهي الصلاحية منها.

نفايات غانا.. تتبع حاسوب قادم من جامعة بريطانية

يبدأ وثائقي “كوسيما” من السؤال عن مصير الأجهزة الإلكترونية المستخدمة، ورغباتنا غير المحدودة لشراء غيرها باستمرار، وبعد عرضه الموسع لحجم الاستهلاك الشخصي والمؤسساتي يذهب إلى غانا، حيث يعمل الناشط “مايك أناني” على مشروع يهدف إلى محاسبة الدول المصدرة للمخلفات الإلكترونية إلى بلاده بطرق غير شرعية، ومحاولة إيقافها من خلال معرفة بلد المنشأ للأجهزة الواصلة إلى القارة الأفريقية، ولا سيما نيجيريا التي تُعدّ -مع بلاده- الأكثر استقبالا للنفايات في العالم، والأكثر تضررا بالسموم القادمة التي تصل إلى مواطنيها وتتسبب في موتهم.

من بقايا النفايات الإلكترونية، صنعت اليابان ميداليات الألعاب الأولمبية سنة 2020

يذهب “مايك” إلى مدينة ليدز البريطانية، بعد أن وجد أن رقم تسجيل أحد الحواسيب القديمة يعود لإحدى جامعاتها، وأراد معرفة الطريقة التي وصل بها، وقد كان الاستغراب سيد الموقف عند إدارة الجامعة، فأقرّت بملكيتها له، وأنها سلمته إلى شركة محلية مختصة بالتخلص من النفايات الإلكترونية، لكن “مايك” لم يجد عنوان الشركة، لأنها أغلقت مكاتبها، مما دفع الوثائقي لإكمال رحلته والبحث عن سر اختفائها، وكيف يمكن حصر المسؤول عن التجارة غير الشرعية إذا كان التملص من المحاسبة القانونية بهذه السهولة؛ التجارة سرا، ثم بيع النفايات الممنوعة إلى دول خارج الحدود، ثم إغلاق الشركة.

“معاهدة بازل”.. حبر على ورق وأرباح ضخمة في أوروبا

استنادا لـ”معاهدة بازل” الموقعة عام 1989، فإن النفايات الإلكترونية ينبغي ألا تخرج من حدود الدول المستخدمة لها، وأن يتخلص منها داخل الدولة نفسها، ووقّعت على المعاهدة 195 دولة، وقد أضافت دول الاتحاد الأوروبي قوانين جديدة فرضت غرامات على الدول في حال تسريبها أو نقلها النفايات إلى مناطق خارجية، ووضعت قيمة مضافة على الأسعار، تتضمن تغطية لتكاليف التخلص منها وتدويرها بشكل صحي لا يضرّ بالإنسان أو البيئة.

هذا على الورق، أما على الأرض فقد كشف الوثائقي ثغرات كبيرة في تطبيق هذا القانون، لا تتناسب مع ما يدخل الاتحاد الأوروبي من أموال مضافة بفضل القانون، وتصل قيمتها إلى أربعة مليارات يورو سنويا، وبالمقابل تخسر الدول المصنّعة كثيرا من احتياطاتها من الذهب والنحاس المستخدم في الأجهزة، وكانت تأمل أن يعاد تدويرها من خلال إعادة الأجهزة المستخدمة إليها ثانية. خسارة مالية وأرباح متبادلة للدول الغنية، بينما يموت الناس في الدول الفقيرة، فلا يصل إليهم سوى أجهزة بالية ومواد كيميائية تُدمّر حياتهم وبيئتهم.

كيف يمكن إعادة إنتاج ومداورة الأجهزة المنتهية الصلاحية؟

للتحرّي عن سبب اختفاء الأجهزة الإلكترونية وطرق تهريبها إلى خارج البلدان الغنية رافق الوثائقي خبيرة إسبانية وزّعت 16 جهازا مختلفا، على عدة وحدات استلام رسمية للأجهزة المستخدمة، ووضعت داخلها رادارا سريا يشير إلى حركتها. النتيجة التي توصلت إليها مذهلة؛ أربعة أجهزة  فقط وصلت إلى أمكنة صحيحة، والباقي أي 75 % اختفى، وبعد التحرّي وجدوا أن قسما منها قد وصل إلى نيجيريا وآسيا، ولا سيما الصين وهونغ كونغ.

فوضى الموانئ الأوروبية.. بيئة خصبة لتجارة مافيا النفايات

قررت المخرجة متابعة الرحلة حتى النهاية، ووضعت خطة محكمة بمساعدة خبراء أمريكيين وآسيويين للوصول إلى المناطق “الحرة”، لإعادة إنتاج ومداورة الأجهزة المنتهية الصلاحية، ولكن قبلها ظهرت مسألة أثارها أحد الباحثين الاجتماعيين، تتعلّق بظاهرة سرقة الأجهزة القديمة من مراكز التخزين الرسمية في إسبانيا، مما دفعها لملاحقة الموضوع وتصوير اللصوص وهم يسرقون ويلوذون بالفرار.

وقد ذهبت في هذا القسم من فيلمها إلى الجانب الاجتماعي، لتكتشف أن نسبة البطالة العالية التي تبلغ حوالي 50% من نسبة الشباب القادر على العمل تدفع بعضهم لسرقة الدولة، وبيع الأجهزة للفقراء مثلهم مقابل مبالغ بسيطة، ولكن على خطهم دخلت عصابات التهريب، فأخذت على عاتقها شراء المسروق وتهريبه خارج البلاد.

لقد اكتشفت “كوسيما” أنه في عام 2011 دفن أكثر من مليون ثلاجة قديمة تحت الأرض، وتسبب طمرها بعد أخذ الصالح من معداتها الأصلية في فضيحة بيئية هي الأكبر في العالم.

يمكن استخراج كميات كبيرة من المعادن الثمينة من النفايات الإلكترونية

أوصل الجانب الاجتماعي الفيلم إلى فرنسا، حيث تكشف الشرطة ألاعيب عصابات تهريب، اتخذت لنفسها أسماء شركات تخزين عادية، ولكن في حقيقتها كانت تمثل محطات عالمية تصل إليها النفايات الإلكترونية من كافة أنحاء العالم، ولا سيما أمريكا، وتقوم بدورها في ترحيلها عن طريق بلجيكا إلى آسيا وأفريقيا.

تبين المخرجة في التسجيلات السرية قلة الرقابة السائدة في الموانئ الأوروبية، وفي بروكسل كشفت عن إهمال وقلّة إمكانيات، مما يشجع المهربين على اتخاذها مركزا لنقل مسروقاتهم التي تصل إليهم بشكل أساسي من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية التي لم توقّع على معاهدات التخلص من النفايات، فمنحت نفسها حرية نقل الأجهزة الإلكترونية القديمة وغير الصالحة إلى خارج حدودها، عبر مؤسسات خيرية كثيرٌ منها مزيف، وغرضه الحصول على “الذهب الإلكتروني”، وإعادة بيعه مقابل مبالغ كبيرة.

إذا ما تعمقنا في الأمر نجد أن 50 ألف جهاز هاتف محمول عاطل أو قديم يخرج منها كيلو غرام  واحد من الذهب، و10 كيلوغرامات من الفضة قيمتها في السوق حوالي 40 ألف دولار. ثروات ومبالغ جعلت الموانئ التايلاندية والسنغافورية وكرا للمهربين، وتحولت موانئ هونغ كونغ والمناطق الصينية القريبة منها إلى كنوز للتدوير.

مناجم إعادة التدوير.. انتحار بطيء للمزارعين في الصين

في مغامرة خطيرة يدخل فريق عمل “تراجيديا النفايات الإلكترونية” منطقة صينية يعاد تدوير وإنتاج الأجهزة الإلكترونية فيها بطرق بدائية ومضرة بالصحة، فالغازات المتسربة نتيجة عمليات إذابة لوحات الحواسيب والتلفونات المحمولة، حولت المناطق الزراعية ومياه الأنهار القريبة إلى مستودعات لسموم كيميائية.

كما أن الشركات الصينية لإنتاج الأجهزة الإلكترونية وجدت فيها منجماً، تُعيد من خلالها صناعة الألواح الإلكترونية التي ظهر أنها غير مطابقة لمواصفات السلامة العالمية، ويكفي أن تدخل واحدة منها في صناعة إلكترونيات الطائرات أو القطارات، حتى تتسبب في كوارث بشرية، كما أن نوعيتها رديئة ولا تدوم طويلا.

في الصين، أكثر من 95 % من سكان البلاد يشترون الأجهزة القديمة لفقرهم

 يعمل في تلك المناطق جيش كامل ترك الزراعة، واتخذ من عمليات التدوير غير الشرعية مهنة له، ينتحرون خلالها ببطء ويتسببون في الوقت ذاته بقتل آخرين، بينما تجني الشركات الصناعية وأصحابها أرباحاً غير نظيفة، كما هو الحال في غانا التي يعود إليها الوثائقي، ولكن هذه المرة بكاميرات مخفية دخلت الموانئ، لتصور عمليات التهريب والفساد السائدة فيها.

إلكترونيات غانا.. مواد مشعة من باطن الأرض تنبت الأمراض الخبيثة

لا يراقب المفتشون في غانا الحاويات الواصلة للبلاد، ولا يعرفون ما في داخلها، فبالنسبة إلى أغلبيتهم فإن المهم هو الحصول على الرشاوى والسماح لأصحاب الحاويات بإدخالها إلى البلاد، وفي خارج الميناء توثّق “كوسيما” حركة التجارة الناشطة عبر الحاويات، فأكثر من 95 % من سكان البلاد يشترون الأجهزة القديمة لفقرهم، وأكثر من نصفها يرمى في الطرقات بعد مدة قصيرة، لعدم صلاحيته، إذن فالأرض هي المستودع النهائي لها، وهي تموت تدريجيا بسببها.

 يقدم أحد الناشطين البيئيين الغانيين أرقاما مخيفة للإصابة بالأمراض السرطانية، نتيجة دفن النفايات غير الشرعية، ونتيجة تعرُّض الناس لمواد مُشعّة من الأجهزة نفسها، تترك آثارا سيئة على صحتهم وعلى البيئة، كما أن المياه القريبة من الموانئ تحولت إلى مقابر للأسماك والحياة البحرية، بسبب سوء حفظ الحاويات.

صورة بانورامية مخيفة تحاول إعادتها صانعة الوثائقي المدهش من خلال إرجاع الشريط بالعكس (من النهاية إلى البداية)، لتُذكّر المُشاهد بالحقائق السابقة التي تضمنها، وتفضي إلى سؤال منطقي: إذا ظلّت مليارات من البشر تشتري الأجهزة الإلكترونية دون انقطاع، وإذا ظلت الشركات المنتجة تشجعهم على ترك القديمة منها وشراء الجديدة مجاراةً للموضة، وإذا كان المستفيد من نفاياتها هم المهربون والمرتشون، وإذا ظلت الدول الغنية لا تعبأ بمصير مخلفاتها ما دامت تخرج من أراضيها إلى بلاد ثانية، فمن سيوقف هذا الدمار البيئي والبشري؟

للإجابة على الأسئلة المحيرة والعصية على فيلم وثائقي البتّ فيها، تقترح “كوسيما” علينا أن نقلل استهلاكنا من الأجهزة الجديدة، وأن نصلح العاطل منها، بدلاً من رميها وشراء أخرى جديدة لا تختلف عنها كثيرا من حيث الوظيفة. حل سهل قد يسهم في تخفيف المأساة، ولكن حتى نوقفها لا بد للعالم كله من التعاون وترك أنانيته جانبا والتفكير جديا بمستقبل البشرية والأرض والفقراء الذين يعيشون فوقها.