الشعاب المرجانية.. مدن تحت البحر تموج بالحياة والأحياء

تجربة سينمائية جريئة تقود المشاهد في مغامرة سحرية عبر المحيطات لفهم الحياة تحت الماء، ذلك العالم الواسع الذي يغطي ثلثي مساحة كوكب الأرض، ويحمل بين طياته العديد من أشكال الحياة المختلفة.

جزء لا يمكن إغفاله من سحر الطبيعة الخلاب يسكن في أعماق هذا العالم، يكسو كوكبنا باللون الأزرق للناظر من الفضاء البعيد.

في هذه الحلقة من سلسلة حلقات “كوكبنا الأزرق” التي تبثها الجزيرة الوثائقية، نتعرف على جزء مهم من ملحمته، يحمل عنوان “الشعاب المرجانية”.

المثلث المرجاني.. تنافس على السكن والطعام والأزواج

هناك في ركن بعيد من جنوب شرقي آسيا يقع المثلث المرجاني، وهو مجموعة تضم أغنى الشعاب المرجانية في العالم؛ مدن تحت البحر تموج بسكانها الذين يتنافسون فيها على السكن والغذاء، وحتى على الأزواج أيضا.

ورغم التنافس الشديد، فإن هذا المكان من العالم تحت سطح البحر مليء أيضا بالفرص، فهذا الحبار الذي يتميز بقدرته على اصطياد السرطانات الصغيرة منها بسهولة، أما الأكبر حجما فغالبا ما يشكل افتراسها مغامرة بسبب مخالبها القوية.

الحبار.. صياد السرطان المتخصص

يحتوي جلد الحبار على نحو مليون خلية صبغية، وهذه الخلية لها قدرة على إنتاج أنماط لونية لا حصر لها، وهذا ما يربك السرطان ويسهل اصطياده. لكن أسماك القرش تبقى سيدة المكان.

ويبني المرجان لنفسه مساكن من الحجر الكلسي في المياه الضحلة الشفافة في المناطق الاستوائية. ورغم أن الشعب المرجانية تحتل مساحة أقل من واحد بالألف من مساحة المحيطات فإنها تعد موئلا لربع الأجناس البحرية.

إنها هياكل منوعة ومعقدة للغاية، وتوفر المساكن للمقيمين من الأجنحة الفاخرة إلى غرف الشوارع الخلفية.

الهامور والأخطبوط.. تعاون على الإيقاع بالفريسة

تلاحق كاميرا الفيلم أسماك الهامور المرجانية في الحيد المرجاني العظيم بأستراليا، وتعتمد هذه الأسماك في غذائها على الأسماك الصغيرة، لكن ربما يتعذر صيدها عندما تكون مختبئة في الشقوق.

وهنا يرسم الفيلم علاقة تعاون وشراكة بين الهامور ومنافسه في المكان الأخطبوط، الذي بإمكانه الوصول إلى الفريسة وهي في الشقوق الضيقة.

يدل الأخطبوط منافسه على مكان السمك في الشقوق فيحاول الآخر اصطيادها فتهرب منه لتقع فريسة للهامور الذي يتربص بها خارج الشقوق.

سمك الهامور يستغل قدرات الأخطبوط في طرد السمك من بين شقوق الشعاب المرجانية لتصبح طعاما له

يحصل الأخطبوط على فريسة أحيانا ويفوز بها الهامور أحيانا أخرى، وهذا يحقق نجاحا في مدينة الشعاب.

وحتى المرجان نفسه يعتمد على الشراكة، لكنها شراكة أكثر حميمية بكثير، إذ إن الشعاب عبارة عن مستعمرات تضم حيوانات شبه زهرية وزوائد بعضها بحجم حبات الرمل تعيش داخل أنسجة الزوائد كخلايا أشبه بالخلايا النباتية لا ترى بالعين المجردة.

في النهار حيث الشمس ساطعة في المناطق الاستوائية، تتزود هذه الخلايا الزوائد بما يصل إلى 90% من غذائها، وعند الظلام تستخدم الزوائد مجساتها لالتقاط الجسيمات السابحة في الماء وتتغذى عليها.

كما تتمكن هذه المجسات من استخراج كربونات الكالسيوم من مياه البحر، وتستخدمها في بناء مساكن حجرية، ويمكن لهذه المستعمرات المرجانية أن تستمر في النمو لمئات أو آلاف السنين، ويمكنها تشييد هياكل بحجم منزل كامل.

الحيد المرجاني.. مدينة بمساحة 2300 كيلومتر

الحيد المرجاني العظيم هو أكبر المدن المرجانية، ويمتد بمساحة 2300 كم بمحاذاة سواحل شمالي شرق أستراليا، ولا يتوقف النشاط في الشعب المرجانية أبدا.

فمثلا، تبدأ نوبة العمل النهارية عند الفجر مصحوبة بأغاني البحر التي وضعتها الأسماك والروبيان وغيرها من سكان الشعاب المرجانية. وفي المقابل، تقوم الحيوانات الكانسة مثل خيار البحر بإعادة تدوير مخلفات الآخرين. أما أسماك الببغان فإنها تقضم قطعا من المرجان وتمضغه لتستخرج محتوياته، وتفرز الباقي على شكل رمال.

أسماك الجراحيات السوداء تقوم بتنظيف أجساد السلاحف الخضراء والتقاط الطحالب من فوقها

ثم تنتقل الكاميرا إلى السلاحف الخضراء في بورنيو، التي تزور باستمرار مجموعة معينة من المرجان، وتقطع هذه السلاحف مسافات طويلة بمحاذاة الشعب المرجانية. وبعد رحلة طويلة، تصل إلى صخرة في قمتها تجويف، حيث تعيش أسماك البيني والجراحيات التي تقوم بتنظيف الزوار والتقاط الطحالب وما تجده من الطفيليات والجلد الميت على أجسادها.

ويتشكل طابور من الزبائن، ويتنازعون للحصول على هذه الخدمة، وبهذه العملية تحصل الأسماك المنظفة على الغذاء، بينما يتخلص الزبائن من المنغصات.

على ضفاف البحر الأحمر.. يابسة قفر وشعاب حية مزدهرة

على سواحل البحر الأحمر، تكون اليابسة حارة وجافة وتخلو في أغلب الأحيان من وجود كائنات حية. لكن على العكس من ذلك، فإن الشعاب المرجانية مزدهرة بشكل لافت في هذا البحر، ولا تقل الحياة ازدهارا فيها عن الغابات الاستوائية.

الدلافين ذات الأنف القاروري

فبعض الحيوانات تزور الشعاب للراحة والاسترخاء، مثل الدلافين ذات الأنف القاروري، فبعد ليلة من جمع الغذاء في البحر، تغرق الدلافين البالغة وصغارها في النوم، بينما يتحرك المراهقون في استكشاف المكان واختراع بعض الألعاب المسلية التي تساعد في الوقت نفسه على اكتساب قيمة التعاون والمرونة التي سيحتاجونها للصيد في عرض البحر.

لكل شعاب مرجانية حدود واضحة تشكل جدران المدينة، وتقع المنحدرات في الجزء الخارجي منها، وهي تحمي المدينة من أمواج المحيط خلال عملية المد والجزر.

جزر البهاما.. وحش بحري عملاق يُغرق البحارة

هنا في جزر البهاما، يؤدي اندفاع الماء إلى حدوث ظاهرة غريبة، حيث يتداول البحارة حكايات عن وحش بحري عملاق يكمن داخل الشعاب ويسحب البحارة إلى مصيرهم المحتوم، لكن في الحقيقة ما هي إلا دوامة تشكلت بفعل تدفق الماء في الكهوف المرجانية العميقة.

أما في جزر المالديف، فتجلب التيارات المائية كميات من الأغذية المجهرية الطازجة من عرض المحيط، وتزود هذه التيارات البحيرة المرجانية هناك بكميات كبيرة من العوالق التي يسيل لها لعاب عمالقة المحيط “أسماك شيطان البحر” التي يبلغ اتساع جناحيها 3 أمتار، حيث تُبقي هذه الكائنات البحرية أفواهها مفتوحة لتلتقط أكبر كمية من العوالق، كما تصنع دوامة بحرية خاصة بها لتزيد تركيز غذائها في الماء، ويوصف سلوكها هذا بـ”إعصار شياطين البحر”.

“أسماك شيطان البحر” التي تُبقي أفواهها مفتوحة لتلتقط أكبر كمية من العوالق

وتتميز الجزر المحمية من الشعاب بالأمن والسلام، ففي هذه الضواحي يستطيع الكائن الذي يرغب في الابتعاد عن الضجيج أن ينعم بالهدوء، لكن لا مكان للاختباء.

كما يصبح هذا المكان خطرا في الليل حيث تتجول المفترسات الليلية مثل سمكة التنين الموجودة عند أطراف الشعاب، لكن دودة البوبيت تحوّل الصياد إلى فريسة، فهي ضخمة ومفترسة، ولديها فك حاد كالخنجر. أما الدودة البحرية، فتنتمي إلى سلالة تجاوز عمرها 400 مليون سنة، ويبلغ طولها مترا، كما أنها تستشعر الروائح وتحس بالحركة.

ومع بزوغ الفجر تعود الشعاب المرجانية أكثر أمانا، إذ تتمكن أسماك الأبرميز من مشاهدة دودة البوبيت وتصبح أكثر شجاعة. فبدلا من الانسحاب من المكان فإنها تتعاون في النفخ على الرمال التي تغطي الدودة، مما يفقد الدودة المفترسة ميزة المباغتة، وبذلك تتمكن الأسماك من جمع غذائها، لكن عليها أن تكون حذرة ولا تنسى أن البوبيت لا تزال في الجوار.

أسماك المهرج.. الأنثى تحكم والذكر يعمل

توفر السهول الرملية في الخارج إقامة آمنة لبعض الكائنات البحرية، مثل أسماك المهرج. وقد ارتبط هذا النوع بعلاقة طيبة مع الشقائق البحرية المرجانية، فعلى الرغم من أن الزوائد في هذه الشقائق يمكن أن تكون قاتلة، فإن أسماك المهرج تتمتع بمناعة ضد سُمها، وفي المقابل تنظف هذه الأسماك الشقائق من المخلفات.

وتتجول الكاميرا مع إحدى عائلات هذا النوع من الأسماك حيث تعثر على مسكن مناسب. وبما أن الأسرة تخضع في هذا النوع من الأسماك لحكم الأنثى الكبيرة، فإن على الذكر الصغير أن يثبت جدارته بالعمل دون كلل في إزالة المخلفات وتولي سائر الأعمال.

أسماك المهرج ترتبط بعلاقة طيبة مع الشقائق البحرية المرجانية حيث تضع بيوضها على سطح صلب قربها

لكن التحدي الأكبر هو أن يجد مكانا آمنا لتضع الزعيمة فيه بيوضها، ويشترط أن يكون سطحا صلبا. وبعد عدة محاولات بحث، يجد الذكر المكان المناسب وتضع الأنثى بيوضها ويثبت الذكر أنه جدير بتلقيح هذه البيوض والحفاظ عليها حتى تفقس بعد 10 أيام.

الهامور الرخامي.. مخاطرة الذكور للحصول على الإناث

تبذل حيوانات الشعب المرجانية جهدها لتمنح صغارها بداية جيدة في الحياة، ويظهر هذا جليا في الشعاب الأكثر بعدا في العالم في بولونيزيا الفرنسية جنوب المحيط الهادئ، فبعض هذه الشعاب لا تزال بكرا بفضل عزلتها.

فأسماك الهامور الرخامي تمكنت من التكيف مع الحياة في الشعاب المرجانية، وعندما يصل ذكر الهامور سن البلوغ ويحين موعد زواجه، فإن عليه كي يحصل على أنثى أن يتوجه للجزء الأخطر في الشعاب وهو المنحدر، لكن هذا المكان مزدحم بأسماك القرش الرمادية، والتي يبدو أنها في استراحة مؤقتة.

في الوقت الذي تجتمع فيه أسماك الهامور الرخامي لوضع بيوضها وتخصيبها تجتمع أسماك القرش لتلتهمها

وتظهر الكاميرا اجتماع الآلاف من أسماك الهامور في أرضية البحر، لأن الإناث جاهزة لوضع البيض، ومن يريد الزواج عليه أن يخترق زحام الذكور الآخرين وهم جميعا يسعون للهدف نفسه.

ومع انحسار المد -وهو الوقت المناسب لوضع البيوض وتخصيبها من قبل ذكور الهامور الرخامي- تجتمع أسماك القرش لتبدأ المعركة، وتتجه إناث أسماك الهامور نحو السطح وتطلق البيوض أثناء صعودها للأعلى، فيلحق الذكور بها ويطلقون في الوقت نفسه سوائلهم للتلقيح.

وتبدو أسماك الهامور مستعدة للتضحية بحياتها في سبيل ذلك، فهذه الفرصة الوحيدة، حيث ستنجرف البيوض المخصبة بعيدا عن الأفواه الجائعة لساكني الشعاب المرجانية، فمن الطبيعي أن الغالبية العظمى من مليارات البيوض ستؤكل، لكن القليل منها ستجد شعابا مرجانية أخرى لتستقر فيها.

مستقبل قاتم.. مخاوف من اختفاء الشعاب المرجانية

في الوقت الحاضر، تواجه الشعاب المرجانية تهديدا بسبب حرارة البحار الآخذة في الارتفاع، فإذا ارتفعت الحرارة درجة أو درجتين لبضعة أسابيع فقط، فإن ذلك سيتسبب في تخلص الزوائد من الخلايا شبه النباتية، وعند حدوث ذلك يفقد المرجان لونه ومصدر غذائه الرئيسي. وإذا استمرت درجات الحرارة بالارتفاع فستموت الشعاب المرجانية.

يرجح العلماء أن نصف الشعاب المرجانية في العالم تضررت بسبب فقدان اللون منذ عام 2016، وهذا يشمل ثلثي المرجان في المياه الضحلة في الحيد المرجاني العظيم في أستراليا.

فقد تحولت مدن المرجان المزدهرة إلى أطلال، وتشرد سكانها. وحسب توقعات بعض العلماء فإن الشعاب المرجانية ستصبح من الماضي بحلول نهاية القرن الحالي، وهذا يعتمد على سرعة تسخينها وعلى وتيرة ارتفاع درجة حرارة البحار.

في الحيد المرجاني العظيم بأستراليا، تحولت مدن المرجان المزدهرة إلى أطلال وتشرد سكانها

لكن، هناك بصيص أمل في الكيفية التي يتكاثر بها المرجان، ففي ليلة مميزة من كل عام، يساعد البدر في وقوع حدث استثنائي تتكاثر فيه جميع الشعاب المرجانية بانسجام غير اعتيادي.

فملايين البيوض المخصبة تذهب بعيدا تحملها تيارات المحيط، وليس المرجان وحده الذي يتناسل، بل الكثير من سكان الشعاب المرجانية أيضا. وتندفع مجموعة كبيرة من الصغار على امتداد المحيطات بحثا عن مكان خال لتعيش فيه حياة جديدة.

لا نعرف ما يخفيه المستقبل لبحارنا، لكن الشعاب قادرة على تجديد نفسها، وسيبقى الأمل أن تبقى الشعاب المرجانية على قيد الحياة.