زحف الجراد.. وحوش الصحراء التي تلتهم الغطاء النباتي

لطالما ارتبط الجراد الصحراوي في أذهاننا جميعا بالدمار والخراب، إذ تجعل أسراب هذه الحشرة الطائرة الفلاحين والمزارعين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا على محاصيلهم. فمرور هذا النوع الأخطر من الجراد بأعداده الكثيفة كفيل بمحو اللون الأخضر من على الأرض خلال ساعات قليلة، حتى أصبح يطلق عليه “الآفة المهاجرة الأكثر تدميرا للنبات في العالم”.

وقد سُجلت أحدثُ غزواته بشكل متفرق هذه السنة 2023 في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية، وتضررت بسببه بعض المناطق في اليمن هذا الصيف. لكن أزمة الجراد الصحراوي للفترة 2020-2021 تبقى الأسوأ خلال ربع قرن من الزمن، عندما اجتاحت جحافل هائلة من الجراد عشرات الدول الأفريقية والآسيوية، منها كينيا وإثيوبيا والصومال وإريتريا والهند وباكستان وإيران واليمن والسعودية، مخلفة أضرارا كبيرة في المساحات الخضراء، ومهددة الأمن الغذائي لهذه الدول.

وبحسب الأمم المتحدة، فإن سربا من الجراد مكونا من 40 مليون جرادة يمكن أن يلتهم ما يعادل استهلاك 35 ألف شخص من الغذاء في يوم واحد، كما يمكن أن تتضاعف أعداد هذه الحشرات في الطور التجمعي 20 مرة في ثلاثة أشهر، وقد تصل كثافتها إلى 80 مليون جرادة لكل كيلومتر مربع.

فماذا نعرف إذن عن ظاهرة زحف الجراد الصحراوي؟ وكيف تستطيع أسرابه التكاثر بسرعة والهجوم على مساحات شاسعة من الأراضي؟ وما هي الأسباب التي تؤدي إلى انتشاره وتحوله إلى آفة تأتي على كل ما هو أخضر؟ وماهي جوانب الاستفادة الممكنة من هذه الحشرة؟

الجراد الصحراوي.. سليل الجنادب العابر للقارات

تختلف أنواع الجراد بحسب المناطق، ويشير باحثون إلى وجود أكثر من 20 ألف نوع حول العالم. وتمتاز هذه الحشرة المنتمية لصنف الجنادب بقدرات كبيرة على تغيير سلوكها وعاداتها وهجرتها إلى أماكن بعيدة.

لكن الجراد الصحراوي، المسمى علميا “شيستوسيركا غريغاريا” (Schistocerca Gregaria) هو أكثر الأنواع خطورة لقدرته على قطع مسافات طويلة وتزايد أعداده بسرعة، إذ لا تستغرق دورة حياته سوى ثلاثة أسابيع فقط، لتتحول البيضة إلى حشرة كاملة، يمكن أن تعيش لحوالي ثلاثة أشهر.

الجراد الصحراوي يملك أسنانا قوية وحادة وشراهة غير عادية لكل ما هو أخضر

ويستوطن هذا الجراد المميز بلونه البني والأصفر المناطق الجافة وشبه الجافة في أفريقيا والشرق الأدنى وجنوب غرب آسيا، حيث تنزل أقل من 200 ملم من الأمطار سنويا. ويمكنه الهجرة موسميا إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط وربما أبعد من ذلك وصولا إلى إيران وحدود الهند وباكستان.

غزاة الخضرة.. جيوش شرهة تلتهم الحقول والمسطحات

يستطيع الجراد الطيران مع الرياح بسرعة تتراوح ما بين 16-19 كلم في الساعة، قاطعا مسافة تصل إلى 130 كم في اليوم الواحد، ولديه قدرة خاصة على البقاء طائرا لمسافات طويلة، عابرا البحار والوديان. وكثيرا ما يهاجر في أسراب كبيرة قد تمتد لعشرات الكيلومترات المربعة، وغالبا مع يتجاوز عدد الحشرات 40 مليونا في الكيلومتر المربع الواحد.

يملك هذا الجراد الصحراوي أسنانا قوية وحادة وشراهة غير عادية لكل ما هو أخضر، سواء كانت مسطحات خضراء أو أشجارا أو محاصيل القطن والذرة والقمح والشعير والأرز وغيرها، وتستطيع الحشرة الواحدة التهام طعام بمقدار وزنها كل يوم، ويمكن لطن متري واحد فقط من الجراد الصحراوي أن يلتهم في اليوم الواحد طعاما يكفي لإشباع 2500 إنسان من المحاصيل الزراعية.

عودة الجراد.. ضربات قوية في شرق وغرب العالم

عادت آفة الجراد الصحراوي إلى الواجهة مجددا مع بداية صيف هذه السنة 2023، بعد أن اجتاح مناطق في اليمن، واستهدف خصوصا عددا من الحقول الزراعية في العاصمة صنعاء بمجموعات هائلة قادمة من محافظة الجوف.

وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) في الثالث من يوليو/تموز 2023، عن إبلاغها بظهور الجراد الصحراوي الناضج وغير الناضج المعزول في المناطق المتوسطة من اليمن، وسط مخاوف من ضرره الكبير على المحاصيل المتأثرة أصلا بتقلبات الأحوال الجوية، بين موجة جفاف في عدة أقاليم، وسيول وفيضانات ضربت مناطق أخرى.

أسراب الجراد المنتشرة في اليمن خلال العام 2023 بحسب منظمة “فاو” المتخصصة برصد هجرة الجراد

وتضررت قبل ذلك أيضا في شهر مايو/أيار2023، مناطق في المغرب قريبة من واد درعة بإقليم طاطا في جنوب شرق المغرب، بعد هجمات جحافل من الجراد، واجهتها السلطات والمصالح المختصة برش الأدوية والمبيدات، مما حدَّ من انتشار هذه الحشرة بشكل كبير، علما أن أعدادها كانت محدودة هذه المرة مقارنة بالسنوات السابقة.

وسُجلت هجمات الجراد أيضا في الولايات المتحدة في شهر يونيو/حزيران 2023، وأحدث فوضى عارمة في ولاية نيفادا الأمريكية، وتجاوزت أضراره الجانب الفلاحي إلى الضرر البيئي، من خلال الرائحة الكريهة التي يفرزها، إضافة إلى تسببه في بعض الحوادث بسبب انزلاق المركبات على الطرق السريعة التي وصل إليها الجراد.

جراد العصر الحديث.. خسائر ضخمة تهدد الأمن الغذائي

عاشت البشرية على مر التاريخ موجات اجتياح كبيرة للجراد، وأشارت إلى أضراره وآثاره المدمرة عدة حضارات متعاقبة، فقد سجل الفراعنة مثلا ذلك في مخطوطاتهم، كما جاءت على ذكره بعض الكتب السماوية، واعتُبر في القران الكريم جنديا من جنود الله أُرسل عقابا للعصاة والكافرين ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (سورة الأعراف 133).

أثناء غزوها الكثيف، يمكن لأكثر من 40 مليون جرادة أن تتواجد في كيلومتر مربع واحد

وفي العصر الحديث سجلت خلال القرن الماضي لوحده عشر موجات كبرى لانتشار الجراد سميت بالأوبئة. وحدثت زيادات غير متوقعة في حدة هذه الموجات في ثلاثة مواسم هي 1986-1989، و1992-1993، و1996-1998.

وتقدر منظمة الغذاء والزراعة “الفاو” عدد المتضررين من تفشي الجراد بين 2003-2005 بأكثر من ثمانية ملايين شخص في غرب أفريقيا، بعد أن قضى على محاصيل الحبوب ودمر حوالي 90% من البقوليات والمراعي، مخلّفا خسائر بلغت قيمتها 2.5 مليار دولار وفقا للأمم المتحدة.

آخر الموجات.. زحف يضرب أفريقيا والجزيرة العربية

كان الزحف الكبير للجراد في موسم 2020-2021 آخر موجة كبرى يعيشها حتى الآن كوكب الأرض، واعتبرت الأسوأ في الألفية الجديدة، واستهدفت بالأساس دول شرق أفريقيا، مثل كينيا وإثيوبيا والصومال والسودان، وأجزاء من شبه الجزيرة العربية وانتشرت في إيران والعراق وباكستان والهند. وقد قدر حجم سرب واحد من هذا الجراد في كينيا بثلاثة أضعاف حجم مدينة نيويورك الأمريكية.

واحدة من خرائط هجرة الجراد التي رصدتها منظمة الفاو في أحد أشهر سنة 2020

وخلال هذه الموجة رفعت منظمة “الفاو” حالة التأهب إلى الدرجة القصوى، ورصدت أكثر من 230 مليون دولار من أجل الاستجابة السريعة القبلية لهذه الأزمة التي تزامنت مع وباء “كوفيد 19” وما رافقه من تعطل الإمدادات وإغلاق حدود الدول.

وقد تسبب هذا الجراد الصحراوي في تعريض أكثر من 42 مليون شخص لخطر انعدام الأمن الغذائي الحاد في عشر دول معنية، بحسب التقرير الدولي حول الأزمات الغذائية لسنة 2020. ورغم الأضرار الهائلة، فقد أفادت “الفاو” أنها استطاعت إنقاذ 720 ألف طن من الحبوب في 10 دول على الأقل.

تغيرات المناخ.. أجواء مثالية للتكاثر في أوكار الجراد

لم تترك التغيرات المناخية أي جانب من الطبيعة فوق هذا الكوكب إلا أثرت عليه، حتى سلوك الجراد ونموه، فقد تغير مع ارتفاع درجات الحرارة، وتعدد الظواهر المتطرفة للطقس كالجفاف والأعاصير، خصوصا عندما تكون مقرونة بالتأثير القوي لظاهرة “النينو” الجوية.

في بعض أسواق السعودية، يعرض الجراد في أكياس للبيع

فمن المعلوم أن الجراد يعيش في فترات الركود في الأراضي الصحراوية القاحلة وشبه القاحلة، وتؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تقصير فترات حضانته ونموه، مما يؤدي إلى زيادة عدد أجيال الجراد في السنة الواحدة. بينما تسبب الرطوبة والأمطار الغزيرة والأعاصير في المقابل تكاثرا استثنائيا للجراد، نتيجة توفيرها التربة الرطبة لوضع بيض الجراد، ودورها في نمو النباتات التي تشكل الغذاء والمأوى الضروريين لنمو هذه الحشرة.

ونجد أن موجة الانتشار الكبرى في 2020 سبقها إعصاران في 2018، وثمانية أعاصير في 2019، بمنطقة القرن الأفريقي التي تشمل جيبوتي وإثيوبيا والصومال وإريتريا، علما أن هذه المنطقة تشهد عادة إعصارا واحدا في السنة على أبعد تقدير، بحسب باحثين في منظمة “الفاو” التابعة للأمم المتحدة.

كما أدت الفيضانات الكبرى الذي شهدها القرن الأفريقي في خريف 2019 إلى توفير ظروف الحرارة والرطوبة المثالية لتكاثر الجراد وتضاعف أعداده.

استخدام التكنولوجيا.. سلاح جديد لوأد الجراد في مهده

طوّر الإنسان مع مرور السنوات قدراته على استباق موجات انتشار الجراد بأيام أو حتى أشهر قبل بداية نشاطه وهجرته. وبفضل التجارب السابقة، ودراسة سلوك الحشرة، وظروف تكاثرها ونموها، أصبح التنبؤ بالجراد واقعا، رغم أن التغيرات المناخية فرضت اليوم تحديات جديدة في كيفية مراقبة نشاطه. وقد مكن الإنذار المبكر والاستجابة السريعة من الحد من موجات الانتشار الكبير للجراد الصحراوي والتهديد الذي يشكله على المناطق الزراعية.

مختص يعاين جرادة من جرادات الصحراء

وقد بدأ اللجوء إلى الأقمار الصناعية في إطار تعاون بين علماء من وكالة الفضاء الأوروبية “إيسا”، وخبراء مكافحة الجراد الصحراوي في منظمة “الفاو”، وتُمكّن المعلومات التي توفرها هذه التكنولوجيات الجديدة من التنبؤ بالظروف المواتية لتشكل أسراب هذا الجراد على الأرض كرطوبة التربة والغطاء النباتي، مما يساعد في زيادة وقت الإنذار المبكر بما يصل إلى شهرين أو ثلاثة أشهر.

وتستخدم أيضا بيانات المناخ وتوقعات الأحوال الجوية، في تعقب الجراد ومراقبته والتصدي له، وتستعمل الفرق الميدانية التابعة لمنظمة “الفاو” الحاسب اللوحي “إيلوكاست3” (eLocust3) الخاص بالمنظمة لجمع بيانات هامة حول الجراد الصحراوي، ونقلها إلى مركز قيادة العمليات لدى منظمة الأغذية والزراعة، مما يمكن من رسم خرائط تحركات الجراد، وتحسين قدرات التنبؤ والإنذار المبكر.

وقد ازداد الاعتماد أكثر على هذه التقنيات الحديثة في السنوات الماضية، خصوصا بعد ظهور التأثير السلبي لاستعمال المبيدات ورش المواد الكيميائية المضادة للجراد على الأراضي والمزروعات، كما يُلجأ أيضا إلى المكافحة الحيوية أو البيولوجية التي تبقى آمنة نسبيا بالنسبة للطبيعة والإنسان.

أكل الجراد.. حشرات غنية بالبروتين والدهنيات

إذا كان الجراد يتغذى على قوت البشر، فإن البشر أيضا قد يجعلون الجراد طعاما لهم، على الرغم من أن ذلك لا يمكن أن يكون حلا لخفض أعداده بشكل ملموس. ونجد أن دولا عدة تستهلك الجراد على نطاق واسع خصوصا منها الشعوب الآسيوية، وحتى الدول العربية، كما يعد منذ زمن طويل جزءا من غذاء سكان منطقة جنوب الصحراء الأفريقية. فهذه الحشرة غنية بالبروتين الذي يمثل نحو 62% من جسمها، وأيضا بالدهنيات التي تمثل 17%.

في الوقت الذي يكون فيه كارثة على بعض البشر، يمكن للجراد أن يكون لدى آخرين وجبة شهية

وقد يبدو اليوم أكل الجراد بالنسبة للبعض أمرا غريبا، لكنه قد يصبح عاديا في السنوات المقبلة، خصوصا بعد توصيات منظمة البيئة التابعة للأمم المتحدة باستهلاك الحشرات الغنية بالبروتين التي يمكن أن تكون مصدرا لهذه المادة الموجودة أساسا في لحوم المواشي.

في المقابل لا ينصح دائما بأكل الجراد خلال فترات الانتشار الواسع، لأنه قد يكون تعرض للمبيدات الكيميائية الضارة في مرحلة من مراحل هجرته، مما قد يشكل خطرا على الأشخاص الذي يستهلكون هذه الحشرات الملوثة.

جراد كينيا.. زيوت وأعلاف وأسمدة عضوية

يمكن استغلال الجراد في استخراج أنواع من الزيوت الغنية بالأحماض الدهنية مثل “أوميغا3” المفيد للقلب. وفي هذا الإطار، قام أحد مراكز الأبحاث في العاصمة الكينية نيروبي باستخراج هذا الزيت ذي اللون الداكن من الجراد المجفف والمجروش، بإنتاجية عالية قدرت بلتر واحد لكل 20 كيلوغراما من الجراد الصحراوي.

زيت الجراد غني بالأحماض الدهنية مثل “أوميغا3” المفيد للقلب

ولا تتوقف منافع الجراد عند هذا الحد، ففي كينيا أيضا استطاعت إحدى الجمعيات المحلية -بدعم من الوكالة الدانماركية للتنمية الدولية- حصدَ الجراد وتجفيفه وطحنه، للحصول على مسحوق غني بالبروتين يُتخذ علفا للحيوانات، كما يمكن اتخاذ هذا المسحوق سمادا عضويا بعد إضافة بعض المواد الكيميائية له، إذ يقوي التربة بفضل مادة الآزوت الموجودة في هذه الحشرة، فهي ضئيلة الحجم لكنها ليست بالضرورة عظيمة الضرر.