“حكايات البحر في عكّا”.. أقدام عربية صامدة في المدينة صمود الحجر

على مصطبة مقهى عتيق، حيث تحطّ أمواج بحر عكّا رحالها، يلتقي مجموعة من الصيادين العرب، يحتسون القهوة ويبثّون همومهم، يتحدثون عن الطقس، والرياح القوية التي منعتهم من الصيد بالأمس، ويمنُّون أنفسهم بطقس مشمس وبحر هادئ، وصيد وفير، ووجبة قد مرّ عليهم زمن لم يذوقوها.

كانت كاميرا الجزيرة الوثائقية حاضرة معهم، فسجّلت أحاديث أهل عكا من العرب الفلسطينيين، وعايشت همومهم وآلامهم وآمالهم، ورصدت محاولات التضييق عليهم، وضغوط السلطات الإسرائيلية عليهم من أجل ترحيلهم، واستمعت إلى قصص صمودهم الأسطوري على أرضهم وتشبثهم بمدينتهم، وصاغت كلَّ ذلك فيلما عرضته على شاشتها بعنوان “حكايات البحر في عكا”.

لقد سرقوا منا طفولتنا”.. حكايات من عكّا تأسرها الذكريات

يقول أبو أدهم، وهو صياد من عكا: للصيد مواسم، ولا يتوفر السمك في كل الأشهر، وحين يكون فلا ينتشر إلا بالليل، وفي أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني يكون الطقس متقلبا جدا، وربما تهب في بعض الأيام عواصف هوجاء ورياح شديدة، لذا فعلينا أن نستمع إلى نشرة الطقس أولا قبل الشروع في رحلة الصيد، ثم ننشر شباكنا ليلا ونجمعها بما قسم الله لنا فيها من رزق في الصباح.

عكا.. المدينة التي ظلت عصية على الغزاة، وانكسرت على أسوارها جيوش نابليون

في صغرنا كنا ننزل إلى الميناء، فنغسل قوارب الصيد “الشختورة”، وننظفها من مياه البحر، ونساعد الصيادين في جمع السمك من الشِّباك، وننال من الصيادين بعض النقود، نشتري بها حاجاتنا أو نصرفها كما نشاء، حتى كبرنا وصرنا نتحمل مسؤولية عائلاتنا، ونعمل في الصيد لنجني قوتنا وقت أهلنا.

أبو أدهم، صياد من عكا، يشكو ظلم السلطات الإسرائيلية للصيادين وتضييقها عليهم

ويحدثنا حمّودة الجارحي، وهو أحد التجار في عكا عن حياته العملية منذ الطفولة، فيقول: أذكر أنني حين كنت ابن 6 سنوات، كنت أذهب إلى ورشات إصلاح السيارات، أجمع مخلَّفات قطع النحاس ثم أصهرها وأبيعها. وحين بلغت 7 سنوات تطوَّرت الحال وصرت أجلب البهارات من سوق “طمرة” على بُعد 20 كيلومترا من هنا، وأبيعها في أكياس صغيرة إلى نساء الحيّ.

الفنّان وليد القشّاش يصنع نموذجا لبوابة عكا التاريخية حفاظا على تاريخها العربي المقاوم

وحين بلغتُ 8 سنوات اشتريت أول مخزن من تاجر يهودي، وبعدها اشتريت سيارة محلية الصنع، وصرت أذهب بها إلى سوق غزة، وأشتري الأدوات المنزلية وأواني الطبخ المصنوعة من الألمنيوم، وأضعها في المخزن، ثم أوزعها على إخوتي وأخواتي، فيبيعونها في السوق المحلي.

أما الفنّان وليد القشّاش فيقول: كانت طفولتي مثل جميع أقراني، تعج بالحياة والمرح، فكنا نحب الألعاب الجماعية، ونركض حفاة في أزقّة عكا القديمة، ونرسم سيناريوهات حياتنا في المستقبل، وقد أحببت الفن منذ صغري كحبّي لعكا التي أعطتني كل شيء، وأنا مدين لها طوال حياتي، وسأكرِّس فني وإبداعي لخدمتها.

خير فودة، فنّان ومؤسس فرقة “ولّعت” للفنون والتراث

وقد التقى الفيلم خير فودة، وهو فنّان ومؤسس فرقة “ولّعت”، فقال: آتي إلى هذا المكان في كل سنة لأتذكر أيام الطفولة، فأنا أذكر أنني قفزت من فوق أسوار عكا إلى البحر وأنا ابن 10 سنين، يومها كان الناس يصفوننا بالأطفال المجانين، وقد كنا كذلك؛ مجانين بحب عكا وأسوارها وبحرها، نحب أرضها وسماءها وبحرها، فلم نجد من وسائل الترفيه سوى القفز عن أسوارها، فقد تركَنا المسؤولون عن المدينة بلا حدائق أو متنزهات، لقد سرقوا منا طفولتنا.

كنيس في حي العرب.. محاولات يائسة لتهجير السكان

يتحدث الفنان وليد القشاش عن الضغوط الإسرائيلية على السكان العرب قائلا: تعمل حكومات إسرائيل المتعاقبة على تغيير الطابع العربي لمدينة عكا، ومحاولة تهجير السكان العرب بسياسات التضييق المختلفة. وأنا من هذا المكان -مدخل عكا الجنوبي- أحاول بما أوتيت من جهد أن أحافظ على طابعها العربي الكنعاني، وقد شيدتُ هذه البوابة لتكون رمزا لصمودنا في مدينتنا، وشاهدا على مكانة عكا القديمة، حين كانت مدخلا لقوافل التجارة من الجنوب باتجاه برّ الشام.

حارات عكا القديمة.. تهجير شبه قسري لسكانها العرب

ويقول الجارحي حمّودة الجارحي، وهو أحد التجار في عكا: وصلت محاولات اليهود تهجيرنا من دورنا وأسواقنا في عكا، إلى تخصيص أراض دون مقابل خارج المدينة، لكي ننتقل إليها، ولكننا مع ذلك باقون، ولن يغرينا شيء لترك منازلنا، فهذا الحي الذي نسير فيه اسمه “فولفسون”، وأكثر من 90% من سكانه عرب، ومن أجل التنغيص علينا بنَت السلطات الإسرائيلية كنيسا لليهود فيه، لا لشيء إلا لإثارة المشاكل والتوترات.

الوجود العربي أصيل في كل مكان في مدينة عكا

ويقول الفنان خير فودة: كثيرا ما آتي إلى منطقة الفنار، لأتذكر قصص الطرد والتهجير التي كانت تحكيها لي أمي، فأنا أذكر أن اثنين من أخوالي هُجِّرا إلى لبنان، فآتي إلى هنا لأحلم بعودة المهجرين، على نفس المراكب التي هاجروا فيها، ومن هنا كتبت كلمات أغنية “على بال مين ياللي بترقص بالعتمة” لأقول للمحتل ولكل متخاذل أو متعاون أو جبان يحاول أن ينسينا حلم العودة وحق العودة: إنه واهم.

ويقول أبو أدهم: كانت عكا القديمة مكتفية ذاتيا من كل شيء، لا تنقصها المرافق، فيها الأطباء والعيادات والصيدليات، ومرافق الترفيه والنوادي، وأماكن التسلية والمقاهي وورشات الصيانة. واليوم لم يبق شيء من ذلك، إذ تحاول البلديات الإسرائيلية المتعاقبة نزع كل أشكال الحياة عن المدينة، فلا مرافق ولا كهرباء في الشوارع، كل هذا من أجل القضاء على السياحة، والتضييق على العرب من أجل ترك منازلهم.

“ولعت”، فرقة غناء شبابية عكاوية وطنية مقاومة

واليوم أصبحت معظم مناطق الساحل محميات طبيعية يمنع فيها الصيد، وذلك فقط للتضييق على الصيادين العرب، ومحاربتهم في أرزاقهم، وصارت شواطئ البحر الباقية مكبّات للنفايات الصناعية وعرضة للتلوث، حتى قلّ السمك كثيرا وكاد أن يختفي، ولكن يبقى أملنا بالله كبيرا أن غدا سيكون أجمل، وأن الأحوال ستتغير، وسترجع عكا عروس المتوسط كما كانت آلاف السنين من قبل.

ساحل عكا.. صديق حميم تلتهمه شركات السياحة

يقول حمودة الجارحي: كان حلمي منذ سنوات أن يكون منزلي في عكا القديمة نزلا سياحيا أؤجره للسياح القادمين إلى عكا، ولكنه قديم ومتهالك، وأنتم تعلمون أنه ممنوع على العربي في إسرائيل أن يرمّم بيته أو يزيده، وذلك من أجل الضغط على السكان العرب لترك منازلهم، ومع كل هذا التضييق فقد رمّمت البيت وزدته إلى 4 أدوار. ومع كل المخالفات والغرامات المالية والمحاكمات، فقد حققت حلمي وحوّلت بيتي إلى نزل سياحي، واشتريت لزوجتي بيتا جديدا واسعا في عكا الجديدة، وهكذا توسعنا وأصبحتُ أمتلك البيتين، والحمد لله.

الصياد العكاوي أبو أدهم يشير إلى الأماكن التي ستقوم السلطات الإسرائيلية بحجزها ومنعهم من استعمالها

ويتحدث أبو أدهم عن بحر عكا قائلا: البحر صديقي الحميم، آتي إلى هنا في كل يوم، أبثُّ له وهمومي وأسراري، أُفرِّج عن نفسي وأرجع إلى بيتي منشرح الصدر، ثم آتيه من الغد، فهو كاتم أسراري، ولا يمكن أن يبوح بها لأحد، وهو ليس مكانا للصيد فقط، بل أحس أنه يردُّ على مناجاتي ويبادلني الأحاديث، ويحكي لي عن حوريّات البحر وقصص العشاق على شاطئه الآخر البعيد.

لكن السلطات الإسرائيلية تستكثر علينا حتى أحاديث البحر، فهم يوما بعد يوم يقضمون ما بقي لنا من الشاطئ، ويخصصونه لشركات الصيد والسياحة الكبرى، الذين يستطيعون دفع المبالغ الكبيرة لرسوِّ يخوتهم وزوارقهم، أما نحن الفقراء فيدفعوننا إلى المياه الضيقة الضحلة، ويتركون قواربنا الصغيرة عُرضة للغرق والتلف.

أطفال متدربون في فرقة “ولعت” يتعلمون معاني الصمود والمقاومة وحب الوطن

ويقول الفنان خير فودة: أسست فرقة “ولّعت” مع مجموعة من أصدقائي الفنانين، في محاولة منا للتعبير عن همومنا وأمنياتنا، ولردِّ بعض الجميل لبلدنا عكا وحقها علينا، واسم “ولّعت” الذي اخترناه يعني أنه فاض بنا السكوت وطفح الكيل، وصار لزاما أن نصرخ لنيل حقوقنا وحقوق مدينتنا المهمَلة، فنمط أغانينا شعبيّ يدعو للتمسك بالأرض والهوية، ولسنا وحدنا في هذا المجال، بل يشاركنا كل أهل عكا صغارا وكبارا:

لو شربوا البحر.. أو هدُّوا السور
لو سرقوا الهوا.. أو خنقوا النور
ما ببيعا لعكّا.. بالدنيا كُلَّا
ما ببدِّل حارتي.. ولا بقصور

تمثال المنتصر.. تزييف التاريخ في سبيل نهب الحاضر

يقول الفنان وليد القشاش: تحاول إسرائيل تزييف التاريخ وتجييره لصالحها، فتشيّد نصبا تذكاريا لـ”نابليون”، يبدو فيه منتصرا وحاملا راية إسرائيل، والحقيقة التي يعرفها كل عالمٍ بالتاريخ وجاهل، هي أن “نابليون” هُزم على أسوار عكا شرّ هزيمة، وعاد منها إلى فرنسا يجرّ أذيال الخيبة، بعدما دنّس التاريخ العسكري بأبشع المجازر للمدنيين العزل على شواطئ فلسطين.

ففكرة تهويد عكا موجودة منذ قيام إسرائيل 1948، وأهل عكّا من العرب ممنوعون بحكم القانون الإسرائيلي من حق الاقتراض لشراء البيوت أو ترميمها، ولذلك فهم عُرضة لانتزاع ملكيات بيوتهم في أي لحظة، بحجة أنها مملوكة لوكالات أو مؤسسات صهيونية، وهي التي تملك المال الوفير لشراء هذه المساكن مهما غلا ثمنها، ثم تمليكها لليهود أو إقامة مشاريع سياحية عليها.

السلطات الإسرائيلية تقيم نصبا تذكاريا لنابليون الذي هزم على أسوار عكا، في محاولة لتزييف التاريخ

ويقول أبو أدهم: كنت أسكن في بيت صغير قبل هذا، فجاءت السلطات الإسرائيلية، وأمرتني بترك المنزل، بحجة وجوده ضمن مشروع تنظيم سياحي، فرفضت المغادرة، وقدّموني للمحكمة، فحكمت بعدم مشروعية إخلاء منزلي، وطلبت من السلطات التفاهم معي على إيجاد بديل، ودفعوا لي مبلغا زهيدا، 17 ألف دولار، ووجدت منزلا مهجورا اشتريته من صاحبه ورممته وأسكن فيه إلى الآن.

وما زالت تلاحقني المشاكل والمحاكم، بحجة أن هذا البيت مملوك لمؤسسات يهودية، والحقيقة أن كل بيوت عكا القديمة التي يسكنها العرب تعاني من نفس المشاكل. والخلاصة أن السلطات الإسرائيلية تريد تهجير العرب من عكا القديمة، والاستيلاء على بيوتهم بغير حق، لتحويلها إلى مشاريع سياحية، فالنكبة لم تنتهِ منذ عام 1948، بل هي تطاردنا في كل لحظة من لحظات حياتنا.

بيوت العرب التي تملّكتها المؤسسات اليهودية في عكا لتحويلها إلى مشاريع سياحية

فمن استطاع منا توثيق أرضه وبنائه باسمه فقد نجا، أما أولئك الذين لم يصححوا أوضاعهم فهم بنظر السلطات الإسرائيلية ينتفعون ببيوتهم، التي هي ملكهم أصلا، ينتفعون بها كمستأجرين من هيئة التطوير وشركة “عميدار”، مقابل 100 شيكل شهريا، وهؤلاء معرّضون في أي لحظة إلى أن تأتي شركة استثمار أمريكية أو كندية أو غيرها، وتدفع لهيئة التطوير أضعاف هذا المبلغ، ويكون الساكن الفلسطيني في مهبّ الريح، بحجة أن غيره من اليهود سيدفعون 1000 شيكل ويستخدمون البناء بدلا منه.

وبالنسبة لي فلن أترك عكا تحت أي ظرف، حتى لو سجنوني مرة أخرى، فسأعود إلى بيتي، وسأحلم بغد أفضل، بل سأبقى أحلم بعودة أهلي الذين هجروا من عكا، لن نكرر ما وقع فيه العرب الفلسطينيون في يافا وحيفا، وسنبقى هنا حتى نموت، وسنحاول قدر الإمكان ترميم بيوتنا وصيانتها، في غفلة من السلطات أيام العطل وأثناء الليل، ونضعهم تحت الأمر الواقع.

“نحن جزء لا يتجزأ من فلسطين التاريخية”

يقول وليد القشاش: هذه الحارة تسمى “حارة المعاليق”، فيها حوالي 10 بيوت استولى عليها اليهود، ومن الواضح أنها رُمّمت بشكلٍ عصريٍّ متميز، أما البيوت العربية فلا يسمح لها بذلك، ثم إن اليهود يسمح لهم بكتابة أسمائهم على الدور التي استولوا عليها، في حين أن العربي غير مسموح له بذلك، بل إنهم أزالوا الأسماء العربية للشوارع والأحياء، ثم استبدلوها بأخرى عبرية.

في عكا يسمح للمستوطنين بترميم بيوتهم على الطراز الحديث، في حين يمنع العرب من ذلك منعا تاما

لكننا مصممون على الحفاظ على أسماء شوارعنا وحاراتنا بالعربية، كما كانت قبل أكثر من ألف عام، فهذه حارة الشيخ عبد الله مثلا، سوف نكتب اسمها بالعربية والإنجليزية والعبرية، حتى يعلم كل من دخل هذه الحارة أنها عربية منذ القدم، وما تزال وستبقى عربية، ومثلها 23 حارة أخرى في عكا، سوف نسميها بأسمائها العربية كذلك.

الحفاظ على أسماء الشوارع والحارات العربية كما كانت قبل أكثر من ألف عام، هدف من أهداف أهل عكا

وأنا أركّز من خلال رسوماتي على حق العودة، في كل يوم أرى في عكا نكبة جديدة، فالبيوت يسكنها الغرباء وأهلها الفلسطينيون يُهجّرون منها قسرا، فالدولة الصهيونية لا تسرق المكان فقط، بل تسرق منا الأمل والحلم بالعودة. وقد تغيب صور عكا عن رسوماتي، ولكنني أرى عكا في كل لوحاتي، وأرى من خلال عكا كلّ فلسطين، فنحن جزء لا يتجزأ من فلسطين التاريخية.

صيادون وفنانون يجتمعون حول وجبة الصيّادية التي يتقنها الصيادون وأهل الشاطئ

وحين يجتمع أصدقاء أبي أدهم في بيته على وجبة “الصيادية” اللذيذة المصنوعة من الأرز المبهر والسمك، يقول لهم صاحب البيت إن هذه الوجبة المتميزة لا يتقنها إلا الصيادون، فهم الأدرى بأنواع السمك، والأقدر على تمييز الأسماك التي تصلح لهذه الوجبة، وجميع فلسطينيي الساحل من عكا إلى غزة مرورا بحيفا ويافا يجيدون طهي هذه الوجبة البحرية الشعبية.