على ضفاف نهر الفرات.. ثقافات وأرزاق وتاريخ عريق حول الرافد العظيم

“على ضفة النهر”، سلسلة من عدة حلقات أنتجتها الجزيرة الوثائقية، لتأخذنا إلى أهم أنهار العالم العربي، وتعرفنا على جمالها وسحرها وطبيعة الحياة والتراث والثقافة حولها.

وفي هذه الحلقة، نطوف حول ضفاف نهر الفرات الذي يمر بثلاث دول، وهي تركيا دولة المنبع، حيث ينبع من بحيرة “وان” وجبل “أرارات”، ثم يدخل في الدولة الثانية سوريا فيقطعها، ثم يدخل العراق، وهناك سيكون له مسار مختلف وتراث آخر.

صناعة القوارب.. أمّ المهن للباحثين عن الرزق في الفرات

ففي العراق، تزدهر صناعة القوارب التي تسبح في نهر الفرات، طلبا للصيد ونقل البضائع، وأحيانا السياحة. فمهنة صناعة القوارب هي دليل مهنة الصيد، وهي ترتبط بمهن أخرى، منها صناعة الشّباك وسوق السمك ولوازم الصيادين، وغيرها من الصناعات.

في العراق، تزدهر صناعة القوارب التي تسبح في نهر الفرات طلبا للصيد ونقل البضائع

وفي الفرات أهوار (مسطحات مائية) كثيرة، يبحر فيها الصيادون من أجل رزقهم، فيوما يصيدون وآخر لا يصيدون، بحسب حركة السمك ووفرته. إذ يشتكي الصيادون من انخفاض منسوب ماء النهر الذي يعكس بالضرورة انخفاض كميات السماء المصطادة.

في السوق تزدهر أسماك النهر الطازجة بأنواعها الكثيرة

وعلى أنغام الناي التي يعزفها على شاطئ النهر في وقت الصفاء، يصف الفنان هادي الكيار نهر الفرات بالملهم للفرح والسعادة، وربما يكون مصدرا للحزن أحيانا أخرى، لأن معنى الفرات الصافي والعذب، فقد عاصر النهر ميلاد الفنانين، وكان ملهما للإبداع، فعلى امتداد ضفافه وأهواره، ظهر كثير من مشاهير الموسيقى والشعر، ذوي الحس الفني الرفيع.

أمم النهر.. تاريخ عريق بين الحضارات وأضرحة الأنبياء

بين النصوص المكتوبة، وفي الحفريات وقرب الأنهار، يبحث البشر عن حضارات الأمم القديمة، وعلى ضفاف نهر الفرات آثار كثيرة لتلك الحضارات وتاريخها، فهو يعبر حضارة بابل، فيحمل في ضفاف مائه كثيرا من ذكريات ما شيدته تلك الحضارة، وما بوابة عشتار إلا أحد معالم تلك الحضارة التي ظهرت على ضفافه، فكان شريان الحياة لها، فقد ازدهرت الزراعة فيها بسبب هذا الماء العذب الذي سقى أراضيها، وروّى أهلها ومراعيها.

على أحد ضفاف نهر الفرات يقع مقام النبي أيوب عليه السلام

ولا يقتصر الأمر على الحضارة المادية فحسب، بل إن قبور الأنبياء أيضا موجودة بالقرب ذلك النهر العظيم، فقد بعث الله أنبياءه إلى أمم جميع الحواضر، ومنها تلك الأمم التي استوطنت ضفاف الفرات، فنجد هناك مقام النبي أيوب الذي لطالما ضرب به مثال الصبر، وكأن ماء الفرات يريد أن يدخل إلى كل خلية اجتماعية حية، كما هي رسالة الأنبياء.

مدينة الديوانية.. ثروة سمكية ووفرة في محاصيل الزراعة

قريبا من النهر، بُنيت مدينة الديوانية الزراعية، وعلى طول النهر كانت الزراعة ممتدة على سواحله، ففي هذه المدينة تزدهر زراعة جميع أنواع الخضراوات والفواكه، ناهيك عن أشجار النخيل التي تملأ المكان.

الديوانية، مدينة واقعة على أحد ضفاف الفرات وهي كثيرة الخضرة والزراعة

وفي سوق الديوانية، تطوف بنا الكاميرا، لترينا ذلك التنوع الكبير في المحاصيل الزراعية الطازجة التي تصله من فلاحي النهر، ثم تنتقل إلى المنظر الآسر من النهر الطويل، وانعكاس صورة الناس وأشجار النخيل فيه.

نساء من مدينة الديوانية يخبزن على ضفاف نهر الفرات

تتحدث الكاميرا مع بعض نساء الديوانية وهن مشتغلات بالخَبز، فتصف إحداهن حياتهن اليومية، قائلة إنهن يخبزن مرة واحدة ظهر كل يوم، إلا إن استدعت الحاجة غير ذلك، لوجود ضيوف أو زائرين من الأهل والأقارب، فيخبزن مرة ثانية عصرا. ومن كانت لديه عائلة كبيرة، فعليه أن يشتري كمية أكبر من الدقيق لتكفي الخبز اليومي، دلالة على وفرة الأغلال والرزق في تلك المدينة.

صناعة الحصير.. أثاث خفيف في مدينة متأهبة للرحيل

يتسلسل الحديث حول الفرات إلى مدينة الكوفة التي عرفت بوقائعها التاريخية الكثيرة وتراثها وعلمائها، فهي مدينة يبدأ يومها من صباح النهر وصوت خرير مائه، وفيها يقع مسجد الكوفة الكبير الذي يعد مزارا لقبر خديجة، وهي إحدى بنات سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الكوفة، مدينة تاريخية تقع على ضفة من ضفاف نهر الفرات

ويتحدث المؤرخ علاء الفتلاوي عن ثقافة أهل الكوفة وعاداتهم المعيشية حول نهر الفرات، فيصف حجم أثاثهم وارتباطه بفيضان النهر قديما، قائلا: كان أثاث الناس بسيطا، كي يسهل عليهم نقله من مكان إلى آخر وقت الفيضان، وأحيانا يتركونه إن كان الفيضان سريعا.

وفي الكوفة أيضا، ظهرت صناعة الحصير أو ما يسمى محليا “الباريات”، وهي صناعة ذات ميزات جيدة، لكنها صعبة بسبب صعوبة الحصول على القصب من ضفاف النهر، مع أنها متوفرة حوله.

صناعة الحصير أو “الباريات” تزدهر في مدينة الكوفة حول الفرات

تمر عملية التصنيع بكثير من المراحل قبل إنتاج الحصير وبيعه، ويعزو الحاج عيدان فرج -وهو صانع حصير- فضل وخير هذه الصنعة إلى الله أولا، ثم إلى نهر الفرات ثانيا، فالصناع يخرجون إلى النهر فجرا لجمع القصب، ثم يعودون به بعد رحلة شاقة مغربا. وليس هذا هو الفن الوحيد الذي يتقنونه من صناعة القصب، بل إنهم يحسنون أيضا صناعة المضايف والنوافذ والحظائر وغيرها.

الناصرية.. مدينة النخيل الكبرى على ضفة الفرات

بسبب توسع المدن على حساب المناطق الخضراء، أخذ الناس يخرجون إلى ضفاف الفرات من أجل النزهة والاسترخاء، ومن هذه المدن الواقعة حول النهر مدينة الناصرية، وهي رابع أكبر مدينة في العراق، وتكثر فيها زراعة النخيل والمحاصيل الزراعية عموما، وهي أرض معطاءة في تنوع التمور وأسمائها، كما يقول مكي مهدي، وهو فلاح يزرع النخيل ويتاجر به، فهي تنتج تمور الزهدي والبرحي والبريم والقنطار والسلطاني والشيشي، وأنواعا أخرى وفيرة.

في مدينة الناصرية، رابع أكبر مدينة في العراق، تكثر زراعة النخيل

ويعزو فضل الله عليهم بوجود التمر وفضل شجرة النخيل ذات الفوائد الكثيرة، التي يستفاد من كل جزء منها. وأما نهر الفرات فهو مصدر الزرع الرئيس، فماؤه حلو على عكس مياه الآبار وغيرها، إذ ما عادت تصل صافية نقية.

بعدك شاب رغمن عالتجاعيد

النوارس على جرفك كنهن إكليل

أمواجك أعاينهن مراجيح

على رمشك فرحهن يضحك الميل

فرات وحيلك يلون الفراشات

الفرات، ملهم الشعراء والأدباء

وهي أبيات بالدارجة العراقية للشاعر زيد السلامين، تهيم حبا بالفرات، فهو يرى أن على الشاعر أن يسبح بقوافيه وخيالاته لحظة جلوسه على ضفة الفرات، فللنهر طعم خاص في مذاق الشعراء.

البصرة.. مدينة يتعانق فيها الرافدان العظيمان

في آخر محطة للنهر، تقع مدينة البصرة بأقصى الجنوب العراقي، فهي الثغر الباسم الذي يصب الفرات فيه، وهي مدينة تولد من جديد في كل عصر، ويغسل الفرات عنها همومها وأوجاعها.

البصرة، آخر مدن العراق لقاء بالفرات

وقبل لقائه بها، يعبر الفرات منطقة هور الحمّار، حيث يتفرع هناك على خمسة أفرع كلها تدخل هذا المكان، ثم يخرج منها إلى كرمة علي ليلتقي بنهر دجلة، مشكّلين معا نهر العرب الذي يدخل إلى البصرة في طريقه إلى محطته الأخيرة في الخليج العربي.

التقاء النهرين العظيمين دجلة والفرات على مشارف مدينةالبصرة

ولطالما كان حديث النهر حديث الجمال للجمال، وهمس البنفسج الطاغي في الروح المتدثرة بالخضرة، حتى جاء وقع الدمار البيئي الذي غطى البنفسج والأزهار، ثم خنقها رويدا، حتى جعل العين تهرب منه بعيدا، بعد أن كانت تحنّ، لتهرب إليه.