براكين أيسلندا.. نشاط غير اعتيادي

بركان "غريندافيك"- أيسلندا 2021

مشهد معاد ومكرر، حيث يلتقي الأبيض الناصع بالبرتقالي الملتهب في أقصى شمال الكرة الأرضية، أخذت سيول اللافا (الحمم البركانية) تسير مندفعة إثر اندلاع نشاط بركاني جديد، تلتهم كلّ يابسٍ وأخضر، تشقّ طريقها فوق أكوام الجليد نحو الأحياء السكنية التي هرع أهلها بالهروب إلى مناطق أكثر أمنا، بعد أن أعلنت السلطات الأيسلندية حالة الطوارئ في المنطقة والإخلاء المباشر لمدينة غريندافيك الساحلية في 14 يناير/ كانون الثاني هذا العام 2024.

إنّها المرّة الخامسة التي ينشط فيها الحقل البركاني خلال السنوات الأربع الماضية في شبه الجزيرة الجنوبية ريكيانيس في أيسلندا، لكنها هي المرّة الأسوأ؛ فقد تسببت الحمم البركانية الزاحفة بتدمير أنابيب رئيسية تمدّ بالمياه الساخنة في المنطقة الثلجية، وهو ما دفع السلطات إلى حث أكثر من 20 ألفا من المواطنين على الاقتصاد في استخدام المياه والكهرباء على حدٍ سواء، لأنّ محطة “سفارتسينجي” لتوليد الكهرباء أيضا تُعد ضمن دائرة الخطر.1

لقد كانت تيارات الحمم البركانية تتطاير عاليا في الهواء على ارتفاعات شاهقة تصل إلى 100 متر، وقد شوهدت تلك المداخن من العاصمة الأيسلندية ريكيافيك، وهي تبعد عن منطقة الحدث 40 كيلومترا. وفي مقاطع التقطت من الأعلى، يظهر وجود صدع طويل يمتد 3 كيلومترات على أقل تقدير، وهو ما يجعل هذا البركان ذا تضاريس خاصة، ويُطلق عليه البركان التصدعي.

مجموعة من السيّاح يشاهدون ثوران بركان “غيلدينغادالير”

وعلى عكس البراكين الاعتيادية التي تنشأ في نقطة مركزية وتكون لها قصبة عميقة تمتد عاموديا نحو باطن الأرض فتخرج منها الصهارة والحمم، فإنّ البراكين التصدعية تمتد بشكل جانبي تحت الأرض، وحينما تنشط فإنّ شقوقا وتصدعات على امتداد البركان تبدأ بالحدوث.

تشتهر أيسلندا بهذا النمط من البراكين، ويُعد بركان “هيكلا” أشهرها، إذ يمتد الصدع عرضيا تحت الأرض مسافة 40 كيلومترا، وهي مسافة مهولة. وتربط تلك الجزيرة النائية علاقة وثيقة بالنشاط البركاني الذي ظلّ حاضرا على مدار سنوات طويلة، فما سرّ تلك العلاقة؟ وماذا يعني العيش عند نقطة جيولوجية ساخنة؟

فاغرادالسفيال.. بركان في منطقة هادئة منذ 8 قرون

لم يكن ثوران بركان “فاغرادالسفيال” عام 2021 مفاجئا بالنسبة للأيسلنديين، إذ كانت هناك مؤشرات أولية وواضحة عن قرب اندلاعه، فقد تعرضت المنطقة لأكثر من 50 ألف هزّة خلال الأسابيع السابقة له، علما بأنّ معظم هذه الهزّات لا يُشعر بها، وإنما تُرصد بأجهزة متخصصة.

بركان “غريمسفونت” لحظة اندلاعه عام 2011، والذي تجاوزت أعمدة دخانه المتصاعدة ارتفاع 11 كيلومترا في أقل من ساعة

ومع أنّ هذه البلاد تتميّز بطبيعة أراضيها البركانية، فإنّ ثوران البركان في هذا الجانب بالتحديد يُعد حدثا نادرا، فلم يشهد شبه الجزيرة الجنوبي -الواقع أقصى الجنوب الغربي من أيسلندا- أيّ نشاطٍ بركاني منذ أكثر من 800 عام، حتّى أنّ البركان الأخير الذي وقع، كان في سباتٍ عميق قرابة 6 آلاف سنة، قبل أن يعود إلى الحياة مجددا.

وتُعد أيسلندا موطنا لنحو 130 بركانا، توجد في 30 نظاما بركانيا مختلفا. ومن حسن الحظ أنّ 18 بركانا فقط قد ثار منذ القرن التاسع الميلادي حتى اليوم، ويقال إن تلك الفترة شهدت أول وجود للبشر في تلك المنطقة النائية وفقا للسرد التاريخي. ومع ذلك فإنّ البراكين النشطة الموجودة لا تهدأ، بل يثور جلّها باستمرار تحت الأنهار الجليدية، وتعرف اصطلاحا بظاهرة “الثوران تحت الجليدي”. وتبعا لذلك تحدث ظاهرة الطوفان الجليدي، وهو اندماج الصهارة الساخنة والجليد البارد، لتتكوّن بحيرة استثنائية من السائل المنصهر.2

براكين أيسلندا.. أحزمة النار عند ملتقى الصفائح التكتونية

تشهد أيسلندا نشاطا بركانيا باستمرار، نظرا لموقعها الجغرافي على حيّد وسط المحيط الأطلسي، وهو حيّد تباعدي بين الصفائح التكتونية الموجودة بطول المحيط الأطلسي، مما يجعل البلاد نقطة ساخنة على مدار العام. ويحدث معظم النشاط البركاني داخل ما يُعرف بـ”المنطقة البركانية الجديدة”، وهي تتكوّن من 11 حزاما بركانيا يمثّل نصف اليابسة في البلاد.

بروز مرتفع وسط المحيط الأطلسي في أيسلندا جراء المنطقة الساخنة أسفل محوره

وثمّة 30 نظاما بركانيا مختلفا في أيسلندا، ويتميّز كثير منها بوجود بركان مركزي واحد على الأقل، وعادة ما يكون على هيئة بركان طبقي مخروطي الشكل، يتكوّن من عدة طبقات تعلو الواحدة الأخرى، أو بركان درعي بحيث يمثّل البركان مساحة عريضة ضمن الجبل أشبه بالقبّة. وعادة ما تشهد البراكين الدرعية في أيسلندا ثورانا واحدا فقط، على نقيض وجودها في أماكن أخرى، مثل ولاية هاواي الأمريكية، حيث تثور البراكين الدرعية عدّة مرات.

أما البراكين التصدعيّة، فإنّها تأخذ مساحة خطيّة ممتدة، وتتصدّع الأرض فتندلع الحمم البركانية عبر الشقوق، وغالبا ما يكون ثورانها هادئا من دون حدوث أيّ انفجارات بركانية.

حزام المناطق البركانية الجديدة في أيسلندا

وخلال 500 عاما مضت، احتل النشاط البركاني في أيسلندا مرتبة عالية، مشكّلا ثلث ما تطلقه الأرض من حممها البركانية، ويُعد بركان “غريمسفونت” -الذي ثار عام 2011- أشهر البراكين التي أحدثت ضجّة عالمية، فقد تفاعلت الصهارة مع الجليد لتتشكّل أعمدة بخارية شاهقة وصل ارتفاعها آلاف الأمتار، وشوهدت على بُعد عشرات الكيلومترات بمشاهد مهيبة.3

بلد البراكين والزلازل.. نشاط بركاني يؤثر على ملامح الأرض

تقع أيسلندا عند نقطة جغرافية ساخنة، حيث تلتقي صفيحتان تكتونيتان ضخمتان، وهما صفيحة أوراسيا وصفيحة أمريكا الشمالية، وتقع حدود التقائهما عند منتصف الأراضي الأيسلندية تقريبا، ويظهر ذلك جليا في حديقة “ثينغفيلير” الوطنية الواقعة جنوب أيسلندا، حيث تظهر تكوينات جيولوجية متباينة فريدة من نوعها، وهذا ما جعل الحديقة تدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

ممر مشاة يفصل بين صفيحة أوراسيا وصفيحة أمريكا الشمالية في حديقة “ثينغفيلير” الوطنية

وقد لاحظ الجيولوجيون بأنّ الصفيحتين كلتيهما تتحركان في اتجاهين متعاكسين، مبتعدتين عن بعضهما بحركة نسبية تبلغ حوالي سنتيمترين سنويا، وهذا ما يفسّر بأنّ الصهارة والحمم البركانية المندلعة تحدث نتيجة لتخفيف ضغط طبقة الوشاح أسفل حدود الصفائح المتباينة.4

ولا ينتج عن تفاعل الطبقتين التكتوتنيتين ثوران البراكين فحسب، بل إنّ الزلازل كذلك تعد ظاهرة شائعة الحدوث في أيسلندا، ويمكن أن تؤثر الزلازل على كيفية تدفق المياه في عدد من الينابيع الساخنة في البلاد، ففي يونيو/ حزيران عام 2000 ضرب زلزالان كبيران المنطقة الجنوبية، وتسببا بفوران “النبع الساخن العظيم” وعودة مياهه الساخنة مرة أخرى، بعد أن ظل شبه خامل مدة نصف قرن.

شق أرضي هائل طوله 80 كم ناجم عن النشاط الأرضي في أيسلندا

ويظهر أن المشهد الجيولوجي الديناميكي لأيسلندا -متمثّلا بالحركة المستمرة للصفائح التكتونية- يؤثر بشدّة على التضاريس والعمليات الجيومورفولوجية، وهو ما أطلق عليه علماء الأرض “التشوّه الجيولوجي لأيسلندا”. (الجيومورفولوجيا: الوصف التفسيري للأشكال الأرضية).

تدفئة المنزل بالطاقة الحرارية.. تجربة رجل بسيط تلهم البلديات

لقد كان هذا النشاط الديناميكي دافعا للأيسلنديين للبحث عن طرق للاستفادة منه، فثمّة تحت هذه الأرض مخازن طاقة حرارية هائلة، وتنتظر من يستفيد منها. وكانت البداية في مطلع القرن العشرين، حينما وجد أحد المزارعين المحليين طريقة لاستخدام الماء الساخن المتسرّب من باطن الأرض، لتطوير نظام بدائي للتدفئة بالطاقة الحرارية الأرضية لمزرعته وبيته.

بسبب النشاط البركاني العالي تندفع المياه من النبع الساخن العظيم إلى ارتفاع 60 مترا

وتدريجيا بدأت البلديات المحليّة اعتماد نجاح هذه القصّة البسيطة في استغلال الينابيع الحرارية، لتصبح أيسلندا إحدى الدول الرائدة على مستوى العالم في مجال الطاقة المستدامة والصديقة للبيئة، وتشكل الطاقة المنتجة المحليّة المستدامة نسبة 85% من إجمالي الطاقة المستمدة.

ووفقا للحكومة الأيسلندية، فقد شكّلت الطاقة الحرارية الأرضية حوالي 65% من إنتاج الطاقة عام 2016، وشكّلت الطاقة الكهرومائية نسبة 20%، وأما الوقود الأحفوري فكان 15%. ويُعد الاستخدام الرئيس للطاقة الحرارية الأرضية هو تدفئة الأماكن، إذ تُوزّع الحرارة على المباني من خلال أنظمة تدفئة واسعة النطاق. ويعتمد حوالي 85% من جميع المنازل في أيسلندا على الطاقة الحرارية الأرضية في التدفئة.

مركز البركان.. منجم من الطاقة يسعى العلماء لاستغلاله

كما تعد أيسلندا أكبر منتج للطاقة الخضراء والكهرباء في العالم للفرد، ويبلغ ذلك حوالي 55 ألف كيلو وات في الساعة للشخص الواحد سنويا، وبالمقارنة مع متوسط دول الاتحاد الأوروبي، نجد أنه يعادل أقل من 6 آلاف كيلو وات في الساعة.5

هل يمكن استهداف الحجرة الصهارية في مركز البركان للحصول على طاقة غير محدودة؟

وفي مفاجأة هندسية، كُشف عن مخطط لعلماء ومهندسين من أيسلندا، يبحث عن إمكانية استهداف الحجرة الصهارية في مركز البركان للحصول على طاقة غير محدودة. وتهدف هذه المبادرة التي يقودها مشروع “كرافلا ماغما تيستبد” إلى إحداث ثورة في الطاقة المتجددة من خلال الاستفادة من خزان الصخور المنصهرة أسفل فوهة البركان.

ويؤمن القائمون على العمل بأنّ الطاقة الناتجة ستكون غير محدودة وكافية لإمداد البلاد بالحرارة والكهرباء اللازمة، ومن المتوقع أن يبدأ العمل مع حلول عام 2027، من خلال خطط تمويل بقيمة 100 مليون دولار.6

 

المصادر:

[1] أرمسترونج، كاثرين، وكيسي، إيان (2024). إعلان حالة الطوارئ في أيسلندا بعد ثوران بركان. الاسترداد من: https://www.bbc.com/news/world-europe-68237327

[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). براكين أيسلندا المهيبة. الاسترداد من: https://www.hurtigruten.com/en-us/expeditions/stories/icelands-volcanoes/

[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). دليل إلى بركان غريمسفونت. الاسترداد من: https://perlan.is/articles/grimsvotn-volcano-iceland

[4] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). خلفية: الحمل الحراري للوشاح، وذوبان الضغط، وقمم جبلية وسط المحيط. الاسترداد من: https://www.e-education.psu.edu/rocco/node/1987#:~:text=Iceland%20straddles%20the%20Mid%2DAtlantic,beneath%20this%20divergent%20plate%20boundary

[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). الطاقة. الاسترداد من: https://www.government.is/topics/business-and-industry/energy/

[6] ديكسيت، مريغاكشي (2024). الأول من نوعه في العالم: يستهدف العلماء الوصول إلى قلب البركان للحصول على طاقة غير محدودة. الاسترداد من: https://interestingengineering.com/energy/iceland-drill-magma-chamber-geothermal-energy