سور الأزبكية.. تاريخ قلعة معرفية صقلت الأجيال وأثرت تجارة الكتاب

يشكِّل فيلم “سور الأزبكية” للمخرج محمد الضاحي محاولة رصينة لاستنطاق الزمان والمكان والذاكرة. ومع أنّ الزمان لا يذهب أبعد من ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، فإنه يشير إلى عظمة مصر وحضارتها الثقافية والفنية والعمرانية.

ولعل “سور الأزبكية” نفسه يمثل معلما ثقافيا مصريا راسخا في الذاكرة الجمعية المصرية والعربية على حدٍ سواء، بحكم ارتباطه بالكتّاب والمثقفين والقرّاء والطلبة بدءا من رياض الأطفال، مرورا بالمعاهد والجامعات، وانتهاء بطلبة الدراسات العليا، فهم يؤمّون هذا المكان الحميمي للتزود بالكتب والصحف والمجلات والمصادر القديمة التي يحتاجونها. بل إنّ هذا السوق يلبي حاجة الأطفال من مجلات التسلية بأسعار زهيدة لا تُثقل كاهل العوائل الفقيرة بمزيد من النفقات المادية.

يتناول الفيلم المراحل الزمنية التي مرّت على سور الأزبكية عقب ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، والمشاكل التي تعرض لها خلال الحقب الرئاسية الخمس التي أعقبت سقوط نظام الملك فاروق الأول، والصعوبات التي واجهها أصحاب المكتبات، في سبيل الحصول على الكتب القديمة، ومزاولة هذه المهنة الثقافية والمعرفية بامتياز، على مدى سبعين عاما أو يزيد.

اختار المخرج ست شخصيات رئيسية منها العم حربي بائع الكتب في سور الأزبكية، والكاتب الصحفي حلمي نمنم، والباحث والكاتب شعبان يوسف، والصحفي حسام مصطفى ابراهيم، وهاني الطرابيلي مؤسس موقع “كومكس العرب”، والروائية ملكة بدر.

باعة كتب يضعون كتبهم ومجلاتهم على سور حديقة الأزبكية، ومنه أخذ سوق الكتب اسمه

ومع أن ظهور المتحدثين يتفاوت بين إطلالة واحدة كما هو الحال مع الروائية ملكة بدر، أو عشر إطلالات كما هو الحال مع الكاتب الصحفي حلمي نمنم، فإن المتحدثين الستة عبّروا عمّا يجول في أذهانهم المتوهجة وقلوبهم الملأى بالمحبة والحنين لسور الأزبكية، الذي يستوطن ذاكرة المصريين والعرب جميعا.

العم حربي.. حفيد رجل أمي عشق مهنة بيع الكتب وتعلّق بها

يستحضر العم حربي الماضي، فيتحدث عن جده الذي كان رجلا أميّا لكنه أحب مهنة بيع الكتب وتعلّق بها، ونظرا لشغفه بهذه المهنة فقد نزح من “الوجه القبلي” إلى القاهرة، ودخل مزادا قيمته 3 آلاف جنيه رسى عليه في خاتمة المطاف، فانهمكت الصحف والمجلات بتصويره، حتى أنّ جريدة “الأهرام” في “عيد العِلم” كانت تنشر صورته كل سنة، وهو يحمل ثلاث “رصّات” من الكتب، مع تعليقات طريفة تشير إلى تعلّق جده الأميّ بهذه المهنة الثقافية التي أحبّها إلى أبعد الحدود وتماهى في تفاصيلها الصغيرة.

العم حربي يتصفح كتابا داخل كشك الكتب الذي يضم آلاف الكتب والمجلات النادرة

فقد كان البائع يأخذ مجموعة من الكتب ويتجول بها في المقاهي، لكي يروّج لبضاعته التي يقتنيها مثقفو القاهرة في ذلك الوقت، فليس صعبا على البائع المتجوّل أن يتعرّف على الإنسان المثقف أو المتعلّم المُولع بالقراءة، فهو يرتدي زيا رسميا يتمثّل بالبدلة الكاملة وربطة العنق، وغالبا ما يدخن “الشيشة”، أو يمسك “التمباك” بيد ويمسك باليد الأخرى كتابا يقرؤه.

وكان الباعة الجوالون يعدّون هذه المقاهي سوقهم الذي يروّجون فيه بضاعتهم، وكان يقتنيها في الأعمّ الأغلب هؤلاء القرّاء الذين يرتادون المقاهي القريبة من “سور الأزبكية” الكائن أمام دار الأوبرا الملكية. ثم تطوّر الأمر بالتدريج، فأخذ الباعة يعرضون كتبهم القديمة على السور الحجري، ويجلسون تحت ظل الأشجار الوارفة، ويبيعون كتبهم على المارة الذين يتصفحون الكتب، ويقتنون منها ما يعجبهم أو ما يلفت انتباههم.

ردم بركة الأزبكية.. قاهرة جديدة تنعش تجارة الكتاب

يغوص الكاتب الصحفي حلمي نمنم في أصل هذه المنطقة، ويقول إنّ الأزبكية لم تكن في الأصل منطقة سكنية، بل كانت بركة مياه، وكانت القاهرة في ذلك الوقت مملوءة ببرك المياه التي تعد أقرب إلى المتنزهات لأهالي القاهرة، وكانت الأزبكية من أهم هذه البِرك التي يسكن قريبا منها بعض المماليك.

وعندما تطورت القاهرة في القرن التاسع عشر، وحينما جاء الخديوي إسماعيل قرر أن يبني القاهرة الحديثة، فرُدمت بركة الأزبكية وأُقيمت مكانها حديقة الأزبكية، واستوردت لها مجموعة من الأشجار النادرة من مختلف أنحاء العالم. وقد ظلت هذه الأشجار منتصبة حتى وقت قريب، ثم شُيدت في هذه الحديقة مجموعة من المسارح، فاستقطبت المطربين والفنانين في مطلع القرن العشرين.

صورة قديمة لحديقة الأزبكية ذات الشجر النادر

 

وعندما تطورت القاهرة في القرن التاسع عشر، وحينما جاء الخديوي إسماعيل قرر أن يبني القاهرة الحديثة، فرُدمت بركة الأزبكية وأُقيمت مكانها حديقة الأزبكية، واستوردت لها مجموعة من الأشجار النادرة من مختلف أنحاء العالم. وقد ظلت هذه الأشجار منتصبة حتى وقت قريب، ثم شُيدت في هذه الحديقة مجموعة من المسارح، فاستقطبت المطربين والفنانين في مطلع القرن العشرين.

وحينما انتشرت الطباعة في مصر في مطلع القرن العشرين، وأصبحت الكتب المطبوعة غذاء لكثير من المثقفين والكُتاب والدارسين، بدأ الباعة الجوالون مهنتهم الترويجية وعرض بضاعتهم على روّاد المقاهي الذين ينتظرون الكتب الجديدة بفارغ الصبر.

أما الباحث والكاتب شعبان يوسف فيرى أن أكثر الأشياء انتشارا هي الدوريات أو المجلات المعروفة. بدأت ملامح التطور والعمران على الأزبكية، مثل بناء دار الأوبرا الملكية، وتشييد عدد من المقاهي، أشهرها مقهى “متاتيا” الذي كان يرتاده جمال الدين الأفغاني في ستينيات القرن التاسع عشر وغيره الكثير، فأغرى بعض الباعة لأن يفرشوا كتبهم بعد التجول في هذه المنطقة، واكتشفوا أنها تُقتنى من قبل المثقفين، فتضاعف عدد الباعة يوما بعد يوم.

منطقة الأزبكية الراقية إبان حملة بونابرت على مصر

ويستذكر العم حربي أنه حينما كان عمره ست سنوات، كان يتمشى في شارع حمدي سيف النصر، ويرى المسرح القومي، ويرى على مدّ النظر مكتبات الأزبكية ذات الشكل البديع، وكانت الدولة تحافظ على المظهر العام للمكان، إذ يحضره الباشوات والبكوات والمثقفون الكبار.

ثورة يوليو.. بداية اهتمام السلطة بالثقافة والفنون

يعود شعبان يوسف -وهو كاتب وشاعر معروف حفر اسمه في المشهد الثقافي المصري- ليرصد الطريقة التي يتصرّف بها باعة “سور الأزبكية” في مراحل الاحتدام بين السلطة في ذلك الوقت وبين الشعب، وكان البائع يستشعر هذا الحسّ فيعرض الكتب السياسية لمحمد التابعي ومصطفى أمين وفكري أباظة وفتحي رضوان وأحمد السيد، وكان الباعة قادرين على اكتشاف أهمية الكتاب السياسي.

وفي أوائل الخمسينيات، احتدمت الأمور بين السلطة والشعب حتى حدث في يناير/ كانون الثاني 1952 حريق القاهرة الكبير، وكان قد بدأ من وسط البلد، ونال قدرا كبيرا من سوق الأزبكية، ولكن بعد الحريق عاد الباعة من جديد، ثم حدثت ثورة يوليو التي أولت اهتماما كبيرا بالثقافة والفنون.

بعد ثورة يوليو 1952، أمر عبد الناصر ببناء سور الأزبكية على شكل أكشاك

ويمجّد العم حربي ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 ووصول الزعيم جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم، فقد أمر بأن تُعمل أكشاك المكتبات من الخشب، ويذكر بأنّ عبد الناصر كان يأتي إلى جامع الأزهر بسيارة مكشوفة، ويمشي بشارع حمدي سيف النصر، ويمرّ من أمام المكتبات، وكانوا يقفون على الكراسي من أجل رؤيته، وكان والده يحمله على الأكتاف، حتى تخيّل العم حربي أن يده قد لامست يد جمال عبد الناصر.

كتب السور.. ملاذ التآليف المحرمة ومخزن المكتبات المفلسة

يصف حلمي نمنم باعة الكتب بأنهم مواطنون بسطاء، وكان معظمهم من الطلبة الذين لم يكملوا تعليمهم فامتهنوا هذه المهنة، أو أناس من محبّي الكتب شُغفوا بهذه المهنة أو تعلقوا بها. ويذكر أن كثيرا من الكُتاب كانوا يترددون على سور الأزبكية، وذات مرة كتب المازني مقالا عن تجربته مع السور، وكان يعود إلى المجلات القديمة في حقب الأربعينيات والخمسينيات والستينيات.

حلمي نمنم، كاتب صحفي ورائد من رواد سور الأزبكية

ولا يذيع سرا حينما يقول إن القارئ كان يمكن أن يقتني كتابا مهما بقرش واحد، وهذا السعر لم يكن متاحا في دور النشر، فكتاب “الهلال” كان يُباع بـ8 قروش وكتاب “اليوم” بـ15 قرشا، وكتب “زهرة المعارف” تتراوح بين 20-30 قرشا، وقد تصل إلى 70-80 قرشا.

يسترجع العم حربي ذكرياته مع سور الأزبكية، ويقول إن أناسا عظماء كانوا يرتادون هذا السور، وذات مرة وقف أمام نجيب محفوظ، وسأله: حضرتك تكتب روايات مثل “قصر الشوق” و”بين القصرين” و”السكرية”، فلماذا تشتري كتب الفلسفة وما علاقة الرواية بالفلسفة؟ فابتسم ووضع يده على رأسه، وقال له “لمّا تكبر راح تعرف”.

حينما تتوقف أي دار نشر، أو تعلن عن إفلاسها، فإن مخازنها تنتقل تلقائيا إلى سور الأزبكية

ويتوقف حلمي نمنم عند حقبة السبعينيات التي ازدهر فيها سوق الأزبكية، ليس بسبب الانفتاح الاقتصادي، بل بمجيء السادات الذي جاهر بعدائه لليسار، فانتقلت كل الكتب اليسارية إلى السور.

وحين سقط الاتحاد السوفياتي وأُغلق المركز الثقافي الروسي، انتقلت كل كتبه تلقائيا إلى سور الأزبكية، وحينما تتوقف أي دار نشر أو تعلن عن إفلاسها أو تُوقف نشاطها لسبب من الأسباب، فإن مخازنها تنتقل تلقائيا إلى تجار السور وباعته. وإذا ما احتاج القارئ إلى كتاب معين ولم يجده في كل مكتبات القاهرة أو العالم العربي، فإنه يمكن أن يجده في سور الأزبكية.

ملتقى الكتاب والفنانين والشخصيات العامة.. مكان استثنائي

ربما تشكّل ذكريات العم حربي مادة دسمة في هذا الفيلم، فهو يشير إلى جمال سور الأزبكية وبصمته المميزة، ويورد أمثلة عدة نذكر منها الإشارة إلى مُقتبس من كتاب “البحث عن الذات” لأنور السادات يقول فيه: كنت مولعا بالقراءة، وأتصيّد الكتب من على سور الأزبكية كلّما ذهبت إلى القاهرة.

لكن العم حربي بدأ يشكو من ضيق ذات اليد، بسبب التنقلات العشوائية وغير المخطط لها، فهي تُتعب الباعة وتجعلهم يتذمرون من مشقة الحياة، لدرجة أنه كره المهنة التي أحبها على مدى سنوات طويلة.

عم حربي، أحد أقدم بائعي الكتب في سور الأزبكية

وللباحث والشاعر والناقد شعبان يوسف تجربة مهمة في سور الأزبكية، ففي المرحلة الثانوية كان يحاول الاقتراب من المكتبات، ليس لشراء الكتب فقط، بل كان يحاول رؤية بعض الكُتاب مثل طه حسين والعقّاد ومحمد عبد الحليم عبد الله.

وحينما كان يسأل عن بعض الكتب ينصحونه بالذهاب إلى سور الأزبكية، فكانت أول زيارة له في أوائل السبعينيات، فاكتشف أنّ الكتب والمجلات رخيصة جدا، وأن هناك كتبا متنوعة كثيرة حوّلت السور إلى عالم سحري أو مغارة علي بابا التي عثر فيها على ما لم يعثر عليه في أي مكتبة شعبية.

شعبان يوسف، باحث وشاعر وناقد، وأحد رواد سور الأزبكية

ولم تقتصر علاقة شعبان بسور الأزبكية على علاقة بائع ومشترٍ، لأنه هو نفسه قد اشتغل في السور، وأفاد منه فائدة كبيرة، وتعلّم الأرشفة من وكيل الفنانين الذي يستيقظ صباحا ويفتح الجرائد ويتأملها ويفحصها كل يوم، فقد كان يؤرشف لعشرة فنانين، منهم فاتن حمامة وهند رستم ونادية لطفي، وغيرهن من الأسماء الساطعة في سماء الفن المصري.

انهيار السور.. مكتبات ذات تاريخ في مهب الريح

يتحدث حلمي نمنم عن انهيار سور الأزبكية في أواخر الثمانينيات عندما تغيّرت معالم المكان، فقد قررت محافظة القاهرة هدم دار الأوبرا القديمة، وتشييد مرآب متعدد الطوابق في مكانها، كما هُدم مقهى بديعة مصابني الذي يعد مكانا فنيا وثقافيا، وشُيّد مكانه سوق كبير.

مبنى للمواقف العامة للسيارات يقام على أرض سور الأزبكية للكتب القديمة

ثم حدثت الطامة الكبرى، حينما قررت محافظة القاهرة أن تكمل المحطة الثانية من قطار الأنفاق الذي يتحرك من رمسيس إلى العتبة مرورا بالتحرير، وكان لا بد من الحفر أسفل منطقة الأزبكية، فأدى ذلك إلى ارتكاب أخطاء قاتلة، أولها هدم مقهى متاتيا، وثانيها قطع كل الأشجار التي استوردها الخديوي إسماعيل من الخارج، وثالثها إزالة السور بالكامل. ولم تكتفِ المحافظة بما عملت، بل أرسلت آليات لتزيح كل الأكشاك الجميلة التي اعتاد الناس على رؤيتها والتردد عليها لاقتناء الكتب والمجلات.

ويُشيد حلمي نمنم بمبادرة د. سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، حين اقترح أن يُدعى باعة الكتب لأن يقفوا على كورنيش النيل أمام مقر هيئة الكتاب ودار الكتب، في محاولة لإنقاذ السور.

المحافظة تهدم سور الأزبكية من أجل بناء كوبري سيارات

لكن محافظ القاهرة اللواء عمر عبد الآخر الذي أصدر الأمر بإزالة السور رفض الفكرة، وقال إنها ليست من اختصاص د. سمير سرحان والهيئة العامة للكتاب، لأن منطقة الكورنيش هي من اختصاص المحافظ، فاتُفق مع معرض القاهرة الدولي للكتاب أن يخصص لهم سنويا مساحة محددة بإيجارات مخفّضة، يبيعون فيها الكتب ويحضرون فيها بشكل رسمي في كل معرض سنوي.

باعة الأزبكية.. بوابة لإنقاذ القرّاء الباحثين عن الكتب المفقودة

يرى الصحفي حسام مصطفى أن سور الأزبكية يمثّل بوابة لإنقاذ آلاف القرّاء الذين يقصدون معرض الكتاب سنويا، ويتوجهون إلى المكان المخصص للسور، لأنهم يجدون جميع الكتب القديمة التي يبحثون عنها بأسعار رخيصة، بل إنّ هناك طبعات جديدة للكتب الصادرة حديثا بأسعار مخفّضة، مما يحلّ مشكلة تيه القارئ.

وقد سمع هاني الطرابيلي -مؤسس موقع كومكس العرب- بسور الأزبكية من خلال حكايات والده عباس الطرابيلي، وهو كاتب صحفي، وكان قد أخبره بأن هذا السور هو مكان مخصص لبيع الكتب والمجلات القديمة، وحينما استفسر عن المكان أخبروه بأنه في ناحية العتبة، فذهب إلى هناك وفوجئ بعشرات الأكشاك، فأبهرته وأشعرته بالندم لأنه تأخر كثيرا في زيارة هذا المكان المعرفي المدهش.

هاني الطرابيلي، مؤسس موقع كومكس العرب

وكان هاني يبحث عن الأعداد الناقصة لديه من مجلة “سمير”، وقد وجدها عند أحد تجّار الكتب، كان قد اشتراها من دار الهلال حين أفرغت أحد مخازنها، وباعت كل الكتب والمجلات المخزّنة فيها، وهذا يعني أن باعة الكتب يعرفون دائما البضاعة المطلوبة التي يحتاجها القرّاء، ويبذلون قصارى جهدهم لتلبيتها.

وللروائية المصرية ملكة بدر علاقة طيبة مع بائعي سور الأزبكية مثل العم حربي، فهي تعرفه منذ سنوات كثيرة، وهو يعرف بخبرته المتراكمة عن أي كتاب تبحث، وإذا لم يكن الكتاب متوفرا لديه، فإنه يدلّك على الطريقة التي تحصل بها على الكتاب المطلوب.

فقد احتاجت ذات مرة لرواية “الآمال الكبيرة” للكاتب “تشارلز ديكنز”، وترددت في أن تسأل العم حربي خشية ألاّ يكون ممن يعرفون اللغة الإنجليزية، شأنه شأن كثير من الباعة الذين لم يكملوا تحصيلهم الدراسي، وعندما ذكرت اسم “تشارلز ديكنز” أخبرها أن الرواية التي تبحث عنها هي “آمال عظيمة” (Great Expectations)، ثم سألها هل تريد النسخة القديمة أم الجديدة؟

ملكة بدر، روائية مصرية تعتقد أنها مدينة لسور الأزبكية بالكثير في تكوينها الفكري والثقافي

وتعد ملكة بدر نفسها مدينة لسور الأزبكية بالكثير في تكوينها الفكري والثقافي، وأنها لو اعتمدت فقط على الكتب الحديثة لما وصلت إلى هذا التطور الذهني الذي هي عليه الآن.

ويعزز الناقد شعبان يوسف رأي ملكة بدر، فيقول إن باعة الكتب يعرفون قيمة الكتاب، ومتى صدر، وعدد الطبعات، والاختلاف بين طبعة وأخرى، فكتاب “إيماني” مثلا لأحمد حسين الذي صدر سنة 1936 مختلف عن الكتاب الذي صدر في الثمانينيات، وتاجر الكتب يعرف هذه الفروق جيدا.

وينبّه الصحفي حلمي نمنم إلى خدمة تصوير الكتب التي ظهرت في السنوات الماضية ولم تكن معروفة من قبل، إذ يستطيع البائع أن يصور الكتاب المطلوب ويجلّده ويقدّمه إلى القارئ. وبسبب هذه الميزة فقد بدأ الباحثون الغربيون يتوافدون على سور الأزبكية ويبحثون عن أنماط معينة من الكتب والمجلات القديمة.

ثورة يناير.. مناخ سياسي غامض يغير اتجاهات القراءة

يرى الصحفي حسام مصطفى بأن سور الأزبكية استمر في القيام بدوره المعروف إلى أن حدثت ثورة 25 يناير 2011، وغيّرت أشياء كثيرة. ويورد المخرج محمد الضاحي جزءا من خطبة الرئيس حسني مبارك يقول فيها: “أيها الأخوة المواطنون أتحدث إليكم في أوقات صعبة”، ثم نسمع خبر تخلّيه عن منصب رئيس الجمهورية.

ويقول حسام إن الهمّ الأكبر بعد الثورة أصبح متابعة الأحداث السياسية، في حين تراجع الاهتمام بأشياء كثيرة من بينها القراءة، وانصبّ التركيز على الكتب السياسية في محاولة لفهم ما يجري في ظل الغموض الذي كان مسيطرا على المناخ العام، مما قلّل من الذهاب إلى سور الأزبكية.

بعد ثورة 2011 ازدادت متابعة الأحداث السياسية وتراجع الاهتمام بالقراءة

ويطلب العم حربي من محافظة القاهرة أن تطور سوق الكتب وتعرّف بأهمية الكتاب، ونظرا لهذه الغصة التي يشعر بها، فهو لم يعلّم أبناءه هذه المهنة لكيلا ينهمكوا فيها مستقبلا.

ويرى حلمي نمنم أنّ بائع اليوم قد تغيّر عن بائع الأمس، وأنّ المُشتري والبضاعة قد تغيرا أيضا، وأنّ الحالة الحميمية التي كانت موجودة سابقا قد تغيرت ولم تعد موجودة الآن.

أما هاني الطرابيلي فيرى أن الكتب المدرسية قد غزت السور، ويرى في هذا الغزو حالة إيجابية لاستمرار هذه الصناعة التي تحقق لتاجر الكتب عيشة كريمة.

هاني الطرابيلي، مؤسس موقع كومكس العرب يتجول في سوق الأزبكية

ويفرّق العم حربي بين الزبون القديم الذي يقرأ كل شيء، وبين القارئ المعاصر الذي يبحث عن روايات كان ينبغي أن يقرأها قبل عشر سنوات. فحينما يقصده عشرة شباب يبحثون عن كتاب “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، فسيعرف بحدسه أنّ هذا الكتاب مطلوب، ولا بد من توفيره للقراء، لأنه يشعر بالسعادة كلّما لبّى للقارئ حاجته.

“قطعة من تاريخ مصر وثقافتها وعقلها ووجدانها”

يرى حسام مصطفى أن الناس تتصارع من أجل لقمة العيش، ولا تجد الوقت الكافي للذهاب إلى سور الأزبكية للبحث عن كتاب قديم، كما أن انتشار الـ”بي دي إف” قد أتاح للقرّاء إيجاد كثير من الكتب القديمة والحديثة خلال عشر دقائق، ويمكن أن تقرأه على الحاسوب المحمول أو الهاتف النقال وأنت في الشارع أو في أي مكان آخر.

ويقول إن تجارة “الكتب المزوّرة” قد وجدت طريقها إلى القارئ، فبدلا من أن تقتني الكتاب بـ50 جنيها، تستطيع أن تشتري طبعة رديئة لا تكلفك أكثر من 10 جنيهات. وينتقد جشع بعض أصحاب دور النشر الذين يضعون أسعارا عالية، تجعل الكتاب بعيدا عن متناول الجميع.

سور الأزبكية سيظل قطعة من تاريخ مصر وثقافتها وعقلها ووجدانها

يختم المخرج محمد الضاحي فيلمه بآراء مكثفة لأربعة متحدثين، فالسور لدى العم حربي يمثل “عمره وطفولته وشبابه وذكرياته الحميمة”. أمّا حلمي نمنم فيراه “قطعة من تاريخ مصر وثقافتها وعقلها ووجدانها”. ويرى الباحث شعبان يوسف أنه “ذاكرة مصر الحية والنابضة التي لن تزول أبدا”. في حين يرى هاني الطرابيلي أنه “دورة ثقافية تربط القديم بالجديد، والباعة بقرّاء مختلفين من مصر”.