“براكين فرنسا”.. حين يطلق البركان غضبه

براكين فرنسا

تخبرنا الأساطير الرومانية القديمة، أن الإله بركان قد عَمد إلى طمر ورشة حدادته في الخفاء، بين أمواج البحر، وما كانت تقدمه هذه الورشة السرية من أسلحة وسهام للآلهة، ساهم في تأجيج سطوة النيران الملتهبة نحو الأعلى، وهنا أدركت الأرض للمرة الأولى مذاق البراكين اللاسع.

هذا ما تداولته الميثولوجيا قديما عن البراكين، ومع التطور المتلاحق للأبحاث العلمية، نشأ ما يعرف بالعلوم الجيولوجية، وهنا اتسع نطاق الرؤية وأصبح أكثر شمولا، وهذه القوة الكامنة بين طبقات الأرض هي محور الفيلم الوثائقي “براكين فرنسا”، الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية.

أوفيرن.. كنوز بركانية تبسط اليونسكو يدها عليها

يحتوي الكوكب الأرضي على رقعته الممتدة ما يكفي ويفيض من المناطق المأهولة بالشعب البركانية، منها ما هو خامل وما هو مشتعل، لكن بعض الأماكن متباينة عن الأخرى، ولا يرجع سر تميز هذا المكان عن ذاك إلى ما تملكه من هِبات طبيعية فحسب، بل إلى تاريخ المنطقة ذاتها، فهو مكدس بصفحات من الأسرار المتوارية عن الأنظار، الباحثة عن من يزيح ستائر غموضها الكثيف.

القنوات النارية التي تربط بين سلاسل الهضاب البركانية بفرنسا

أوفيرن الواقعة في منتصف الأراضي الفرنسية غنية بمراكز البراكين، سواء الجاهز منها للاشتعال الفوري، أو المستكين في انتظار اكتمال عناصر فورانه، ومن ثم أطلقت منظمة اليونسكو بساط حمايتها على هذه المنطقة، على إثر انضمامها رسميا إلى سجلات التراث الإنساني. تُرى ما الذي يميّز هذه البقعة من مقومات، ساهمت في نيلها هذا الاستحقاق؟

للإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا أن نعود إلى عصور سحيقة من التاريخ الطبيعي، فأول البراكين المنطلقة من هذه المنطقة، يقدر عمره بنحو 25 مليون سنة، ناهيك عن اختباء الفوهات البركانية أسفل المساحات الخضراء الشاسعة الامتداد.

بحيرة “بافان”، المسماة مجازا ببحيرة الشيطان، نظرا لغموضها ولونها الأسود الداكن

من هذا المدخل الأنثروبولوجي، يصحبنا الفيلم في رحلة قوامها ما يربو على 50 دقيقة بقليل، لا تخلو من الأفكار العلمية الدسمة المطعمة بالتساؤلات، يتكاثر الواحد منها من رحم السابق، في متوالية سردية محكمة الصياغة وراسخة البنيان.

وهكذا لا يبدو الفيلم معنيا فقط بتسليط الضوء على ما خفي من كنوز بركانية في فرنسا، بل إنه يتطرق نحو ما هو أعمق، عبر التوغل في ماهية الطبيعة التي لا تزال تخفي أطنانا من الغضب المستعر بين طياتها المتشعبة، ترى ما هو المتوقع إذا قررت الأرض الانتقام من كبت قوتها غير الإرادية؟

براكين فرنسا.. فردوس هادئ يخفي جحيما مستعرا

تلال منبسطة وأخرى مرتفعة إلا قليلا، تحيط بها أوراق الأشجار المزدهرة الاخضرار، تلتقطها الكاميرا من زوايا علوية يتسارع إيقاعها، كلما توغلنا أكثر فأكثر في اتجاه تلك المنطقة.

بهذه المشاهد يبدأ الفيلم، ثم ينطلق التعليق الصوتي، فيسرد -مُسهبا- الطبيعة الجغرافية لهذه القطعة الأرضية المدججة بالسلاسل البركانية، ذات القنوات النارية المتصلة ببعضها، والمتدثرة بالمناظر الطبيعية الخلابة، لكن هذا الجمال الهادئ، يخفي أسفله جحيما مستعرا، قد يحيل هذه القطعة الفنية في لحظات إلى حفلة شواء تتطاير منها شظايا اللهب.

صورة ثلاثية الأبعاد لكوكب الأرض، وهو يشبه ثمرة الأفوكادو، ويظهر خلالها النيران المتأججة بين الطبقات الأرضية

بهذه المقدمة الموجزة يبدأ الفيلم، كاشفا عن مضمون أفكاره مباشرة، ودون أدنى تمهيد، فالخطر قادم لا محالة. ويرافقنا السرد ذو الإيقاع اللاهث، والمتناسب مع الإطار العام للفيلم والفكرة المراد التعبير عن هويتها، فقد نسج السيناريو بناءه قائما على الاستعانة بالأسلوب الرصين للفيلم الوثائقي، المرتكز على الارتباط الوثيق بين المشاهد المصورة، واللقاءات الحية، وما يقابلها من لقطات أرشيفية، وأخرى ثلاثية الأبعاد.

كل هذه المواد تتضافر معا في وحدة عضوية واحدة بقيادة التعليق الصوتي، لطرح ما يرغب السرد في قوله والتعبير عنه، ومن ثم يصبح تسلسل المعلومات المثيرة متدفق الإيقاع، فيسهل الوصول لمغزاه الذي يدق ناقوس خطر يبحث عمن ينصت له.

وبذلك جعل الفيلم مفتاح فهم مكنونه، يقع بين إطار كلمة واحدة، ألا وهي النار، تلك القوة المحصور انطلاقها بين طبقات الأرض المتعددة المراحل. ومن ثم يدور الفيلم في فلك هذه النيران، صحيح أنها لم تخرج من قضبان سجنها الإرادي، لكن الخوف من هذه الانطلاقة المرتقب حدوثها بين لحظة وأخرى، يجعلها بطلا، يستحق الاحترام والتبجيل.

صورة علوية لمدينة “كليرمون فيران” الفرنسية، والتي قامت على أطلال أرض بركانية

ويخبرنا التعليق الصوتي أن فرنسا تحوي بين طيات أراضيها سلسلة هضاب بركانية خامدة الاشتعال مؤقتا، لكن قد تطفو نيران غضبها المحموم في أي وقت تشاء. وهنا يستحق هذا المكان العجائبي وقفة تأملية، تستدعي التاريخ السابق والجغرافيا المعاصرة، سعيا لفهم أواصر تلك العلاقة المعقدة بين هذه القوة المستترة، والإنسان الباحث دوما عما يؤذيه.

كليرمون فيران.. مدينة يطفو بساطها الأرضي على النار

ترافقنا الكاميرا بزواياها المتحركة للأعلى على الدوام، في منطقة أوفيرن ذات الجبال والهضاب المرتفع قوامها، وهو ما يكشف عن وجود سلسلة الهضاب البركانية، ثم يبدأ التعليق الصوتي بالتعريف الجغرافي بهذه البقعة التي تبعد حوالي 350 كيلومترا عن العاصمة الفرنسية باريس، وتحوي تحت بساطها -الممتد طوله نحو 40 كيلومترا- عددا من المخابئ البركانية الخاملة في زمننا الآني، لكنها في السابق وعلى مدار ما يقرب من 90 ألف عام، شهدت عدة ثورات بركانية مفاجئة.

العلماء يتابعون أنشطة الحمم البركانية

لكن ما يثير الاندهاش حقا، هو ما يوازي هذا الحيز الجغرافي المنطوي على ذاته، من مدن ذات وفرة سكانية، مثل المدينة الشهيرة كليرمون فيران، التي يقطنها ما يزيد على 100 ألف من البشر. ثم يواصل السرد إدهاشنا بالمزيد من المعلومات التي قد نجهلها، منها أن هذه المدينة قامت أسس بنيانها على تلك الشظايا البركانية التي ساهمت السنوات المتعاقبة في صهرها وتطويعها، وحينها يصبح ما هو قابع أسفل الشوارع والبنايات قنبلة موقوتة، يرتفع منسوب خطرها المحتمل بين الحين والآخر.

وهكذا يصبح هذا المدخل الموجز عن تاريخ المنطقة، تمهيدا عفويا للوصول إلى جوهر الفيلم، إذ يستكمل التعليق الكشف عن معالم هذه البقعة الغامضة، وهنا تتداخل المشاهد الثلاثية الأبعاد، لتقديم تصور واقعي للمنافذ البركانية، فتطالعنا صورة هضبة القبة، ومن حولها تستكين عشرات من الفتحات البركانية الخاملة، كأنهن وصيفات يتحلقن حول ملكتهن.

عودة الحمم.. بركان يستيقظ بغتة من سباته العميق

يستمر السرد في التعريف التاريخي ببراكين هذا الحيز الجغرافي، فقبل سنوات لا يعرف عددها على وجه الدقة، استيقظ بغتة أحد البراكين من سباته العميق، وظلت الحمم النارية تتساقط أياما وشهورا، ثم هدأت وتيرته حتى بلغت الظنون أنه قد خمل بعد نشاط، لكنها لم تكن سوى بضعة مئات من السنوات، حتى عاودت الشظايا التقاذف نحو الأعلى مرة أخرى.

العلماء يتقربون من إحدى الفوهات البركانية لدراسة نشاطها المرتقب فورانه

فقد أصيبت هذه المنطقة في الفترة من العام 9000 ق.م إلى العام 7000 ق.م بنتواءات بركانية، تطفو نيرانها الواحدة في أعقاب الأخرى، في سلسلة متعاقبة لا أول لها من آخر، ومنذ ذلك الحين نشأت تلك الهضاب البركانية.

فالسرد يُعنى أساسا بتقديم ما يلزم معرفته عن هذه السلاسل الجبلية، ومن ثم تصبح هذه المجسمات الربانية البطل الحقيقي لهذا الفيلم. أما باقي الهضاب أو الأمكنة التي سيعرج عليها الحكي طواعية، فستنتقل للصف الثاني من الأدوار الثانوية، مع أنها لا تزال ذات أهمية محورية.

بحيرة الشيطان.. أسرار غامضة تثير الخيال الشعبي

قبل أقل من 10 آلاف عام، هجمت الشظايا البركانية على هذه السلاسل، وهذه المدة الزمنية في عمر الأرض ليست سوى غمضة عين، وفق المفاهيم الجيولوجية، لذا لا يزال الخطر قائما. وعندئذ ننتقل لأحد الأدوار الثانوية في هذه الملحمة البركانية، إذ تتجه الكاميرا بحركتها السريعة، نحو بحيرة بافان.

صورة بانورامية لمنطقة سلاسل الهضاب البركانية المغطاه بالأشجار

فهذه البحيرة القابعة في سكون مريب، والمبتعدة بنحو 20 كيلومترا فقط عن نطاق السلاسل الجبلية، تعد إحدى النقاط البركانية النشطة. وعندها تسير الكاميرا بزاوية علوية وعلى مهل، كاشفة عن هذا المسطح المائي الشاسع الذي يضفي بلون مياهه الداكن طبقة كثيفة من الغموض. وهنا يطفو السؤال التلقائي عن الكيفية الجيولوجية التي أدت إلى إنشاء هذا البساط المائي الغريب؟

وتأتي الإجابة من عالِم البراكين “بيير بويفيين”، فيطلعنا في بداية حديثه عن الألغاز المؤطرة لهذه البحيرة المسماة مجازا بحيرة الشيطان، فإذا أصيبت السماء بسحابة غائمة، فحينها سيصطبغ لون المياه بالأسود الداكن.

وقد تخيل البعض صعود أصوات أجراس الكنيسة الغارقة من أسفل طبقات المياه، وهي طبقات لا يختلط بعضها ببعض، فالطبقة الأولى يصل عمقها إلى نحو 60 مترا، في المقابل تقبع الطبقة الأخرى في الباقي من عمق البحيرة البالغ ما يقرب من 90 مترا، وكل هذه الطبقات تربض الواحدة منها فوق الأخرى، ويرجع سبب هذا الركود إلى الطبيعة البركانية لهذا النطاق الجغرافي، وهي التي تمنع هبات الرياح من تحريك ودوران المياه.

الآثار الناجمة عن بركان “نيفادو ديل رويز” في كولومبيا

ثم يستكمل العالِم حديثه المسهب الذي يتداخل مع المشاهد المصورة والثلاثية الأبعاد، فيروي أن البحيرة قد تكونت قبل ما يقرب من 6700 عام، جراء نشاط بركاني اشتعل فجأة، بفعل التلامس المندفع بين المياه الباردة، والفوران المشتعل المنطلق من أسفل طبقات الأرض، حينها أصبحت هذه الفجوة مهيئة لاستقبال مياه الأمطار الغزيرة التي ادخرت فيها هذه القطرة فوق الأخرى، مخلفة فيما بعد هذه المياه الراكد منسوبها.

فهذه البحيرة الهادئة المحاطة بالأشجار الباسقة الارتفاع، تشكل خطرا محتملا، بما تحويه من أنواع متعددة من البراكين، يختلف أسلوب انطلاق كل منها عن الآخر، وإن اتفقت على التساوي في الخطر المتوقع، إن غدرت الأرض بضيوفها.

أنواع البراكين الأرضية.. كوارث تفتك بالمجتمعات البشرية

يستكمل السرد تعريفه بالخواص الجيوليوجية للتربة الأرضية، ويصفها “أوليفييه ميرل” ­-وهو أستاذ الجيولوجيا في مختبر الصهارة والبركان- بثمرة الأفوكادو، فهي تتضمن بداخلها تدرجات عدة تشبه إلى حد كبير الطبقات الصلبة للقشرة الأرضية، وتحوي أسفلها -على بُعد آلاف الكيلومترات- تلك النيران الملتهبة التي قد تنطلق فجأة، مخلفة ورائها ما يسمى بالحمم البركانية المتباينة الأشكال والأنواع.

ويحدث ذلك في أعقاب فقدان طبقة الوشاح الواقعة في باطن الأرض صلابتها، ومن ثم تتحول إلى اللزوجة، وهنا يطفو على السطح سؤال بديهي، ألا وهو: هل لكل بركان توقيع مغاير عن الآخر؟

جانب من محاولات الإغاثة بعد بركان كولومبيا

فالحقائق العلمية تشير إلى أن ثمة اختلافات جوهرية بين هيئة كل بركان عن الآخر، فهنالك البركان الخامد الذي يمكن الإلمام بخطورته المحتملة، بالتنبؤ بميعاد هجومه المرتقب، وهناك النوع المباغت الذي ينفجر فجأة، ولا يقدم تحذيرات تشي بثورانه، وبين هذا وذاك عانت البشرية من تلك الثورات النارية.

بركان كراكاتورا.. دوي انفجار يبلغ آلاف الكيلومترات

يخبرنا السرد عن بعض الحوادث البركانية، وهي لا تقتصر على البراكين الفرنسية فقط، بل انطلقت في أرجاء المتسع الأرضي، ولا تفرق بين ضحاياها، والبداية مع بركان كراكاتورا في إندونيسيا، الذي كان ثورانه عام 1883.

وقد أعقب ذلك موجات تسونامي عنيفة، أدت إلى مقتل أكثر من 35 ألف إنسان، لكن ما يدعو إلى التعجب هو ما ذكرته “كلير موك” مديرة المهام العلمية في “فولكانيا”، من أن دوي صوت الانفجار البركاني، قد وصلت أصداؤه إلى أستراليا التي تبعد أكثر من 5 آلاف كيلومتر.

لقطة مقربة للحمم البركانية، والتي تصل درجة حرارتها إلى أكثر من 1000درجة مئوية

ويستمر السرد السلس ليزيح الستار عن عدد من أمثال هذه الحوادث الغامضة، فقد قرر السرد أن يحط رحاله في كولومبيا، في زيارة عاجلة لبركان “نيفادو ديل رويز” الذي انطلقت أسهمه اللاهبة عام 1985، حاصدة أرواح أكثر من 25 ألف ضحية.

وهكذا تتعدد هذه الأمثلة الحارقة، ما بين الماضي والتاريخ المعاصر. لكن يبقى السؤال الطارئ، ما هو دور العلماء في هذه الحرب غير المتكافئة؟

تحذيرات العلماء.. خطر تتجاهله السلطة وتدفع ثمنه الشعوب

حتى تكتمل عناصر إجابة السؤال السابق، يجب أن نرجع إلى الوراء قليلا، إذ تشير حادثة بركان كولومبيا إلى التحذيرات المتتابعة للعلماء حينها من الخطر المتوقع، لكن السلطات آنذاك تقاعست عن أداء واجبها الموكل إليها، من نقل السكان المرابطين حول هذا الحزام الناري، إلى مكان أبعد وأكثر أمانا، وهنا تتداخل المشاهد الأرشيفية التي تكشف حجم الدمار الناتج عن هذا الانفجار، فقد تحولت الشوارع إلى بركة متسعة من الطين الممزوج بالمياه.

عمود دخاني هائل ناتج عن ثوران أحد البراكين

لكن هذا هو دأب السلطة الذي ما عهدت غيره، ففي عام 1902، أغفلت السلطات الفرنسية عامدةً تحذيرات العلماء المعلنة عن اقتراب موعد تساقط الحمم البركانية على رؤوس سكان مدينة سانت بيار، مفضلةً أن تستكمل مسارها الديمقراطي، وأن تستكمل الانتخابات النيابية في البلدة، فالبركان يمكن أن يؤجل، أما تثبيت أركان الحكم الواهي فيجب أن يقع وفق وتيرة متسارعة.

وهكذا حدث ما هو مقدر، فتطايرت الشظايا النارية من فوهة البركان، وبمحاذاتها الأدخنة السوداء، وكلما توغلت هذه النيران للأمام تزايد عدد الضحايا، حتى وصل تعدادهم التقريبي أكثر من 35 ألف نسمة.

وهنا يطرق الفيلم بأسلوب مستتر العلاقةَ الحساسة بين العلماء والسلطة، فالعلماء يمارسون دورهم في إطلاق التحذير تلو الآخر، عساهم يجدون من يأخذه على محمل الجد، لكن أرباب كراسي الحكم ترافقهم الاستهانة والتراخي بهذه الإعلانات الصاخبة، فقد تسبب الذعر والهلع المجاني بحسب وجهة نظرهم.

فهكذا ترى السلطات تحذيرات العلماء، ومن ثم يمكن فهم مغزى هذا التقاعس غير المبرر. تُرى إذا أنصت من هم في الأعلى إلى التحذيرات المتداولة، كيف سيكون شكل العالم؟

غضب الحليم.. أنشطة جيولوجية تعكس مشاعر الأرض

من بين معلومات الفيلم المتدفقة، هنالك حقيقة يجب ذكرها، وهي أن الكرة الأرضية تعبر عن مشاعرها المتضاربة، سواء برقصاتها الفرحة في الزلازل، أو أحزانها الفياضة دموعها في الفيضانات، أو عندما ينفجر غضبها المكبوت على هيئة براكين نارية المحتوى، ومن ثم تصبح إجابة السؤال السالف الذكر، أن الموجودات كافة لها الحق في الإفصاح عما يعتمل في داخلها، مهما تباينت طرق هذا التعبير، حينها يصبح التنبؤ بهذه المشاعر أضعف الإيمان.

وهنا يسهب الفيلم في الكشف عن الكيفية العلمية للتنبؤ بهذه الظواهر المحتملة الحدوث، فتصحبنا الكاميرا في أروقة مختبر الصهارة والبركان بفرنسا، الذي يتابع أعضاؤه نشاط سلسلة الهضاب البركانية، مستعينين بأنظمة حداثية مدعومة بالمستشعرات عن بعد، فعندها فقط يمكن اتخاذ التدابير الوقائية، لإجلاء سكان المناطق المجاورة لهذا النشاط البركاني.

فوهة بركان “كراكاتورا” في إندونسيا

وهكذا يواصل السرد استخلاص المعلومات والأفكار المثيرة عن البراكين، لا من أجل بث الخوف والرهبة، بل للوقوف على تضاريس تلك الظاهرة وتفكيك معضلاتها، وفي سبيل ذلك يستعين البناء الفيلمي بآراء عدد من علماء الجيولوجيا، كل منهم يعرض عصارة خبرته العلمية، فقد عني الفيلم بإبراز الرأي والرأي المضاد، من دون أن يلتزم بجانب على حساب آخر، وبذلك خرج من نظرته الأحادية، إلى رحابة التعددية الفكرية.

هذه الأفكار التي تتقاذف كالحمم واحدة تلو أخرى، تبعث على التأمل في تلك القدرة غير المحدودة للطبيعة على الانتقام، لذا أرجوك عزيزي الإنسان، كن حذرا ولا تغضب الطبيعة المستكينة في هدوء، وما أدراك ما ثوران الحليم إذا غضب؟