زيلانديا.. أسرار القارة الثامنة التي أغرقها المحيط منذ ملايين السنين

برزت قمم صخرية في وسط محيط ساكن، واختفت معالم اليابسة الأخرى وتبددت كلها، وكأنّ السماء انطبقت على مياه البحر، لا يفصل بينهما إلا خط الأفق البعيد الذي توارت عنده الشمس.

هنا في أقصى جنوب كوكب الأرض، حيث انغمرت قارة بأكملها ولم يبق منها سوى القليل من القمم الجبلية التي كانت فيما مضى مرتفعات شاهقة، تناطح عنان السماء بعظمتها، هنا نيوزيلندا الواقعة على حافة القارة المفقودة، قارة زيلانديا المغمورة.

خليج القتلة.. معارك دامية بين الرحالة والسكان الأصليين

تعد نيوزيلندا موطنا لأكثر من 5 ملايين نسمة، ويعيش فيها خليط عرقي متعدد مع شعب الماوري، وهم السكّان الأصليون الذين كانوا أول من استوطن فيها. ويذكر المؤرخون أنّ أسلافهم البولينيسيين كانوا قد رحلوا إلى موطنهم الجديد بين القرنين 12-13 الميلاديين، وكان اكتشافهم بمحض الصدفة، وذلك من خلال بعثاتهم الاستكشافية للمحيط الهادئ، مبحرين مع تيّارات المحيط التي جرفتهم إلى تلك الأراضي النائية.

وفي غضون ذلك، تشكل لدى الأوروبيين تصور قوي بوجود أراض كبيرة في الجنوب، توازي أراضي الشمال، وذلك لكي يتحقق التوازن على الكوكب. فانطلقت أولى البعثات الأوروبية بقيادة البحّار الهولندي “أبل تاسمان” من معسكرهم الواقع في جاكرتا بأندونيسيا متجهين نحو الغرب، ثم توجهوا جنوبا ثم شرقا، حتى انتهى بهم المطاف في الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا.

لم يكن اللقاء الأول الذي جمع بين الأوروبيين والسكان الأصليين لنيوزيلندا يسير على ما يرام، فدارت بينهم عدة معارك دامية

ولم يكن اللقاء الأول الذي جمع بين الأوروبيين والسكان الأصليين سلسا، فدارت بينهم عدة معارك دامية، مما دفع “تاسمان” إلى مغادرة المكان، وقد أطلق على تلك المنطقة المشؤومة عليه خليج القتلة.

“جيمس كوك”.. ظرف سري يحمل مهمة استكشاف الجنوب

بعد مضي أكثر من 100 عام على حادثة خليج القتلة، عاد الرحالة البريطاني الشهير “جيمس كوك” في عام 1769 إلى النصف الجنوبي من الأرض في مهمة علمية فلكية، فقد أتته الأوامر برصد مرور كوكب الزهرة بين الأرض والشمس، وذلك لمساعدة الفلكيين على حساب المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس.

وكان “كوك” حينها يحمل ظرفا مغلقا بإحكام، لم يؤذن له بفتحه حتى الانتهاء من المهمة الأساسية، ويتضمن مهمة أخرى سريّة لاستكشاف المنطقة الجنوبية والأراضي الموجودة هناك، فما لبثت أن توجهت سفنه نحو نيوزيلندا، في مهمة مهدت الطريق لاحقا لبعثات الهجرة الأوروبية، فتزايدت في العقود التالية حتى بات السكان الأصليون أقليةً في عموم البلاد، وهي تتكوّن بشكل أساسي من جزيرتين كبيرتين.1

من البراهين التي تعضد كون “زيلانديا” قارة، سُمك قشرتها

وفي سعيه لتفسير طبيعة الأرض التي تقع عليها نيوزيلندا، اتجه عالم الطبيعة الأسكتلندي السير “جيمس هيكتور” في رحلة مسح لسلسلة الجزر الصغيرة قبالة الساحل الجنوبي لنيوزيلندا في عام 1895. وبعد دراستها جيولوجيا، خلص إلى أنّ نيوزيلندا ليست إلا بقايا سلسلة جبلية كانت تشكل قمّة منطقة قارية كبيرة امتدت جنوبا وشرقا، وهي الآن على الأرجح مغمورة تحت الماء.

القارة الثامنة.. ثمار قرون من البحث والتنقيب

في ستينيات القرن الماضي توصل علماء الأرض إلى إجماع حول التعريف السليم للقارة، فقالوا إن القارة ينبغي أن تكون منطقة جغرافية ذات تضاريس مرتفعة، وفيها مجموعة كبيرة من الصخور، ولها قشرة سميكة. فكان ذلك دافعا للعلماء والباحثين لإعادة النظر في خريطة العالم والبحث عن إدراج قارة ثامنة إلى القارات السبع المعروفة.

وقد حمل مجموعة من العلماء من الجمعية الجيولوجية الأمريكية على عاتقهم عملية البحث عن القارة الغارقة، فأثمرت نتائجُ بحثهم (نُشر عام 2017) حقائقَ تتناول تلك الأراضي مترامية الأطراف، وقد استطاعوا تطويق هذه الأرض المغمورة، التي تبلغ مساحتها 4.9 مليون كيلومتر مربّع.

“نيك مورتيمر” عضو الجمعية الجيولوجية الأميركية وأحد مكتشفي قارة “زيلانديا”

وقد بدا أن ملامح تلك القارة واضحة، وتحمل دلائل على كونها قارة حقا، وأنّ ثمة عددا من أوجه التشابه بينها وبين بقيّة القارات المدرجة، فهي ذات قشرة سميكة، وفيها صخور الغرانيت، وصخور الجرواق، وهي مجموعة متنوعة من الحجر الرملي، يتميّز بصلابته ولونه الداكن.2

صخور زيلانديا.. دلائل على سطح اليابسة والقشرة المحيطية

يقول “نيك مورتيمر” -وهو أحد الباحثين في الدراسة المذكورة آنفا- إن الأدلة على وجود القارة الخفية تندرج ضمن عدّة بنود، فالدليل الأول يتعلّق باختلاف مستويات عمق المحيط الذي يحيط بنيوزيلندا؛ فالرفوف القارية لقارة زيلانديا تقع على عمق حوالي 1000 متر تحت سطح البحر، في حين أنّ القشرة المحيطية المحاذية يصل عمقها حوالي 3000 مترا، وهذا تباين صارخ في مستويات العمق.

وتتميز زيلانديا أيضا بقمم صخرية وتضاريس مرتفعة مثل بقيّة القارات، فتصل أعلى قمّة فيها إلى 3724 مترا، وهي قمّة جبل كوك الواقع في الجزيرة الجنوبية من نيوزيلندا.

 الآثار الجيولوجية لقاع “زيلانديا” تثبت بأنها قارة

والدليل الثاني يتعلّق بطبيعة الصخور الموجودة في قاع المحيط، فعلى مدار العشرين سنة الماضية، انطلق الباحثون إلى أعماق المحيط لاستخراج عيّنات من الصخور ومقارنتها. وعلى عكس القشرة المحيطية المحاذية المكوّنة من صخور البازلت الحديثة نسبيا، فإنّ صخور زيلانديا تتكوّن من مجموعة متنوعة من صخور أقدم عمرا، منها الغرانيت والحجر الجيري والحجر الرملي.

زيلانديا.. القارة الوحيدة التي مشطها العلم برا وبحرا

في نهاية المطاف، أظهرت الخريطة التفصيلية للمسح الذي أجراه العلماء في قيعان المياه، أنّ ثمّة شريطا ضيقا من القشرة المحيطية يفصل قارة أستراليا عن المناطق الجوفية لقارة زيلانديا، مما يعني أنّ القارتين منفصلتان عن بعضهما.3

ولم تكتفِ الدراسة باستخلاص الأدلة على وجود القارة، بل إنّ المسح الذي استغرق عدّة سنوات جعل زيلانديا هي القارة الأولى والوحيدة في العالم التي تُمشط بشكل كامل، سواء كان ذلك فوق اليابسة أو في قاع المياه المحيطة. علما بأنّ جميع القارات المعروفة في العالم لها جانب مغمور تحت الماء لم يُكشف عنه حتّى اللحظة، باستثناء زيلانديا.

مقارنة بالحجم بين قارتي “زيلانديا” وأستراليا

وبهذا، فإنّ جميع التفاصيل التي تتعلّق بتضاريس القارة وبراكينها وأحواضها الرسوبية القابعة تحت الماء، تُعد معروفة بشكل كامل اليوم.

ابنة غندوانا العملاقة.. قارة منعزلة أغرقتها مياه المحيط

كانت زيلانديا جزءا من قارة غندوانا العملاقة التي تشكّلت قبل حوالي 550 مليون سنة، وكانت تتألف من جميع الأراضي الموجودة في نصف الكرة الجنوبي، ومنذ حوالي 105 ملايين سنة، حدثت عمليات جيولوجية مبهمة، أدّت إلى حدوث شرخ كبير تدريجي، فانفصلت زيلانديا عن القارة العملاقة التي كانت تضم جميع الأراضي التي تتمثل اليوم بجنوب أمريكا وأفريقيا والقطب الجنوبي وأستراليا وشبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية.

في العادة تبلغ سماكة القارة حوالي 40 كيلومترا، وهذا لا ينطبق على زيلانديا، فبسبب التمدد والتوسّع تقلّصت سماكة قشرتها إلى 20 كيلومترا، واختفى جزءٌ كبير من اليابسة تحت الماء، وبقي بعضها -مثل نيوزيلندا ونيوكاليدونيا- طافيا فوق الماء، ولا يمثل ذلك سوى 6% من مجموع اليابسة في القارة.

وبعد كل بحثهم المكثّف عن تاريخ القارة، ما زال العلماء عاجزين عن معرفة التاريخ الدقيق للفترة التي غرقت فيها زيلانديا. ويفسّر الباحثون الجزء الذي يعلو سطح الماء بأنه تلال تشكّلت جراء تصادم صفيحة المحيط الهادئ التكتونية بالصفيحة الأسترالية التكتونية.4

كجزء من القارة الأم “بانغيا” انفصلت قارة “زيلانديا” ثم انغمرت في الماء

حين نقارن زيلانديا ببقيّة القارات، نجد أن مساحتها الصغيرة نسبيا تجعلها أكبر بقليل من شبه القارة الهندية، وتعادل نصف مساحة القارة الأوروبية.

وبعد دراسة الطبقات الجيولوجية في نيوزيلندا، خلص العلماء إلى أنّ القارة تعرضت لتقلبات في مستويات انغمارها تحت الماء، إذ بلغت أقصى مراحل غرقها قبل 30 مليون سنة، ثمّ عادت لتطفو مرة أخرى، حتى وصلت إلى ارتفاعها الحالي.

وبسبب حركة الصفيحة الأسترالية التكتونية، يُتوقع أن يحدث شرخٌ يقسم زيلانديا إلى نصفين، وربّما يحدث ذلك في غضون عشرات الملايين من السنين.

تقع قارة “زيلانديا” حجما بين قارة أستراليا وجزيرة غرينلاند

ويقول د. “بروس لوينديك” من جامعة كاليفورنيا، وهو مبتكر اسم القارة زيلانديا، إن جميع الأدلة تصب في صالح تصنيف زيلانديا قارة مستقلّة، لكن الأمر لا يعود إلى علماء الأرض لاتخاذ القرار، بل إنّ السياسيين يلعبون دورا جوهريا في هذه المسألة، لأنها تتعلّق بالحدود الاقتصادية للدول، وربطها بالحدود الجيولوجية، وما يترتب على ذلك من تغيرات إقليمية وربّما عالمية.4

ألاعيب السياسة والقانون.. فرصة نيوزيلندا السانحة لزيادة حجمها

لقد أسهمت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار -التي بدأ تنفيذها عام 1994- في تسريع عملية اكتشاف القارة المغمورة. ويتعلّق الأمر بـ”المنطقة الاقتصادية الخالصة” (EEZ) التي تنال فيها البلدان حقوقا حصرية، لاستكشاف واستغلال الموارد الطبيعية مثل صيد الأسماك واستخراج النفط، وتمتد حدود المنطقة البحرية نحو 370 كيلومترا من الساحل.

هل تنتمي نيوزيلندا إلى قارة زيلانديا التي 94% منها مغمور تحت الماء؟

وكانت الاتفاقية الموقعة تحث على وجود استثناءات للمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتمكّن البلدان من توسيع أراضيها القانونية، بضم المنطقة التي تمتد حتى نهاية الجرف القاري التي يحاذيها.

فإذا ما استطاعت نيوزيلندا إثبات أنها جزء من قارة أكبر، فيمكنها زيادة مساحة أراضيها بمقدار ستة أضعاف مساحتها الحالية، فتدخل جميع الأراضي المحيطة ضمن سيادتها بكافة ثرواتها.5

ومع كل المساعي العلمية الكبيرة في تقديم زيلانديا قارة ثامنة، ما زال غياب الإجماع في المجتمع العلمي قائما، مع ترقب مستمر لإعادة ترتيب المشهد السياسي والجغرافي.

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). لمحة تاريخية: نيوزيلندا دولة صغيرة من حيث التاريخ البشري. الاسترداد من:

https://www.live-work.immigration.govt.nz/live-in-new-zealand/history-government/a-brief-history#:~:text=The%20first%20settlers%20probably%20arrived,discover%20New%20Zealand%20was%20Kupe

[2] مورتيمر، نيك وآخرون (2017). زيلانديا: القارة المخفية. الاسترداد من: https://rock.geosociety.org/net/gsatoday/archive/27/3/abstract/GSATG321A.1.htm

[3] غوس، تيا (2017). الأرض لديها قارة ثامنة مخفية. الاسترداد من: https://www.livescience.com/57927-new-zealand-part-of-eighth-continent.html

[4] غورفيت، زاريا (2021). القارة المفقودة التي استغرق العثور عليها 375 عاما. الاسترداد من: https://www.bbc.com/future/article/20210205-the-last-secrets-of-the-worlds-lost-continent

[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. الاسترداد من: https://www.imo.org/en/ourwork/legal/pages/unitednationsconventiononthelawofthesea.aspx#:~:text=The%20United%20Nations%20Convention%20on,the%20oceans%20and%20their%20resources