“شيوعيين كنا”: رؤية غير مكتملة لتجربة ثرية

أمير العمري

لم أستوعب على الإطلاق أن يعرض مهرجان أبو ظبي عملا لم يكتمل بعد هو الفيلم غير الروائي “شيوعيين كنا” للمخرج اللبناني ماهر أبي سمرا ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية، بل ولم أفهم أن يظهر مخرجه قبل العرض لتقديم فيلمه فيطالبنا بأن نغض الطرف عن عدم اكتمال الفيلم ولا نحكم عليه بما نراه لأنه قد يتغير في بنائه!
كان من الممكن عرض الفيلم الذي لم يكتمل عمل المونتاج له بشكل نهائي ضمن “ورشة” عمل للدراسين والهواة لمناقشة طريقة تشكل رؤية مخرجه أثناء العمل، فربما تفيد المناقشة المشاركين، كما تفيد المخرج في التوصل إلى شكل نهائي لفيلمه، لكن أن يتسابق الفيلم مع غيره من الأفلام الأخرى “المكتملة” فهذا أمر ليس من الممكن قبوله ببساطة هكذا.. وكان ما قفز إلى ذهني على الفور بعد تقديم المخرج لـ”مشروع” فيلمه السؤال التالي: ولماذا قبلت أنت بعرض فيلمك الذي لم ينته بعد، ولماذا جئت به إلينا إذن إذا لم تتمكن من إنهاء العمل فيه بعد “بل ولماذا قبلت أيضا أن يشارك في المسابقة؟
وعفوا، فإذا كان الفيلم قد عرض عرضا رسميا في مسابقة دولية فقد أصبح يحق لنا أن نحكم عليه، ولو أيضا بشكل مبدئي”أي كنوع من السباحة في الأفكار على أن نعاود تناوله نقديا بعد أن يكتمل إذا جاء مغايرا لما شاهدناه.
حسب ما أعلنه المهرجان فإن “شيوعيين كنا” أحد ثلاثة افلام قام بتمويلها المهرجان في خطوة ستتخذ مستقبلا شكلا أكثر رسوخا من خلال صندوق خاص يرصد أموالا لدعم الأفلام العربية والمحلية. وهو اتجاه جيد دون شك، وإن كان يتعين على القائمين على أمر هذا الصندوق إتاحة الفرص لكل التجارب الجادة على أسس فنية تماما بعيدة عن المجاملات أو التحيز العرقي.. آفة هذا النوع من الصناديق العربية كما نعرفها!
ومن خلال مجموعة “الاسكتشات” أو الفصول الخمسة المتعاقبة التي شاهدناها يمكن القول إن هذا العمل جاء على العكس تماما مما كان المرء يتوقع أو يأمل.
عنوان الفيلم يوحي بأننا سنشاهد فيلما يستعيد تلك اللحظات الماضية في التاريخ، تاريخ اليسار اللبناني في الثمانينيات، خاصة بعد الغزو الاسرائيلي في 1982، من خلال تلك الشخصيات الأربعة التي تظهر في الفيلم لشباب التحقوا بالحزب الشيوعي وهم في عمر الزهور (بين الخامسة عشرة والحادية والعشرين)، واستمروا إلى أن تركوا الحزب في أوائل التسعينيات.. بعد توقيع اتفاق الطائف وبعد تفكك المنظومة الاشتراكية ثم سقوط الاتحاد السوفيتي.
كنا نتصور أننا سنشاهد الشخوص الأربعة الذين يظهرون في الفيلم وهم المخرج أبي سمرا نفسه، وابراهيم الأمين وحسين أيوب وبشار الحسن، يعودون إلى حيث كانت أهم لحظات حياتهم في إطار النضال أو ذلك “الحلم الذي كان”.. تلك اليوتوبيا التي وقعوا في أسرها في ذلك العمر المبكر.. كيف كانوا يفكرون، وما الذي جعلهم يلتحقون بالحزب، وما الذي تعلموه من التجربة، وما هي الانعكاسات التي تركتها عليهم، وما هي النقاط التي جمعت بينهم وماذا فرقهم.. وغير ذلك.
وكان من الممكن أن يستخدم المخرج الوثائق المصورة للفترة، وأن يثري فيلمه بتقطيع الحوارات الطويلة (التي تتم في سياق أقرب إلى التحقيق التليفزيوني منه إلى فيلم سينمائي) مع تلك الوثائق التي تنتمي إلى تلك الفترة الثرية، ولو من منظور نقدي مراجع.

ماهر أبي سمرا

أما ما نراه فيتناول أساسا، ليس الماضي الذي كان، بل الحاضر بعد أن عاد “الوعي إلى تلك المجموعة من الشخوص، أو بعد أن اكتملت تجربة كل منهم في العمل السياسي والعام.
أساس الفيلم مجموعة من الحوارات التي يحاول المخرج البحث عن سياق سينمائي لها بطرق مفتعلة شديدة السذاجة، كأن يقوم بوضع مقاعد لأبطاله (ونفسه) أمام خريطة كبيرة، ويستهلك الوقت في تسجيل أحاديث تبدو لمن لم يطلع جيدا جدا على “الحالة” اللبنانية مجموعة من الألغاز. وهذه إحدى المشاكل الكبرى في هذا الفيلم، فمخرج العمل يتعين عليه عندما يصنع فيلمه أن يعرف أنه سيعرض أمام جمهور من شتى أنحاء العالم، وأنه لذلك يجب أن يكون واضحا ومفهوما وبعيدا عن الإغراق في التفاصيل المحلية الصغيرة التي قد تحتاج إلى شروح وتفسيرات حتى للبنانيين الذين لم يعيشوا تلك الفترة.
من الناحية السياسية نحن نخرج من هذا الفيلم وأمامنا عشرات الأسئلة الحائرة التي تبحث عن نقاط للاستنارة ولا أقول الإجابات. فهل يريد الفيلم أن يقول لنا في النهاية مثلا أن الانتماء للطائفة في لبنان أقوى كثيرا من الانتماء للحزب، خاصة الحزب الشيوعي الذي يرفض الطائفية أصلا وربما من هنا كان التحاق هؤلاء “الصبية به بحثا عن وعاء كبير يستوعب طاقاتهم وغضبهم بعيدا عن ذلك الانتماء الطائفي الضيق؟!
ويبدو موضوع الحرب الأهلية هو الموضوع الأهم والأكثر إلحاحا هنا بحكم أن تجربة الشخوص الأربعة ولدت في إطار تلك الحرب التي “تصوروا” وقتها أنها ربما تكون حربا طبقية، إلا انهم كما يرد في شهاداتهم في الفيلم، أدركوا أنها لم تكن كذلك ولم يكن من الممكن اعتبارها كذلك، بل كانت أساسا، حربا طائفية. وربما يكون ذلك سببا رئيسيا في استقالتهم من الحزب بعد انتهاء الحرب.
اختيار شكل الفصول المتعاقبة على نحو ما شاهدنا قد لا يكون مناسبا خاصة وأنها لا تحمل معان محددة أو تمثل لحظات خاصة. ويركز الفيلم كما أشرت، إلى ما وصل إليه أبطاله الأربعة حاليا: أين يقفون، كيف يفكرون، ما موقفهم السياسي، هل هم يعتذرون بشكل ما، عن ماضيهم، عن وقوعهم في “وهم” النظرة إلى الواقع اللبناني على أساس طبقي، وعلى أساس الحاجة إلى جبهة “تقدمية” لمواجهة غزو خارجي بتحالف من قوة معينة في الداخل؟
ربما يعبر هذا الفيلم بشكل ما، عن نظرة مخرجه “غير المكتملة” إزاء التجربة، ورغبته في المشاركة مع رفاق الماضي في فهم ما حدث لهم في ضوء ما حدث للواقع في لبنان، وهذا من حققه المخرج تماما بكل تأكيد، ولاشك أن هذاه النظرة المشوشة قد وصلت إلينا، لكن الفيلم في حاجة أكيدة إلى مزيد من الضبط وربما تصوير وإضافة المزيد من المواد التي تثري الفيلم وتجعله يصمد أكثر للزمن كوثيقة على تجربة ثرية.