صلاح الدين من “إِسلاميّ” إلى “إِرهابِيَ”

محمد موسى

عَرَضت القناة الثالثة لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قبل أيام، الفيلم التسجيلي “أخي الإِرهابِيَ”، والذي يُعَّد الجزء الثاني او التكملة لفيلم “أخي الإِسلاميّ”، (عُرِض قبل أربعة أعوام تقريباً) وأثار وقتها جدلاً كبيراً في بريطانيا، خاصة بعد أن وجد، وبعد عرضه التلفزيوني، حياة جديدة على مواقع الإنترنت الإِسلاميّة أو المُعادية  للإسلام، والتي عثرت في الفيلم على ذرائع للإشارة إلى مظلومياتها أو الى تطرف الجهات الأخرى، كذلك أثار الفيلم أسئلة حول موضوعات جدليّة مُثيرة كالإسلام في أوربا، واعتناق أوربيين  للدين الإِسلاميّ والتشدد بين مسلمين جدد أو من الجيل الثاني والثالث لمسلمين مهاجرين.

ريتشارد دارت

يقدم “أخي الإِسلاميّ” الرحلة التي قطعها المخرج البريطاني روب ليتش، لمحاولة  فهم التشدد الذي بلغه أخوه غير الشقيق ريتشارد دارت بعد اعتتناقه الدين الإِسلاميّ. يرافق المخرج أخاه (الذي اتخذ اسما جديدا هو “صلاح الدين”)، في حياته الجديدة، والتي يهمن عليها النشاط الدعوي. فصلاح الدين لم يكتف بتغيير دينه، هو تحول إلى داعية، وجد في الإسلام المنصة التي يريد من عليها أن يغير بريطانيا والعالم. ينتمي صلاح الدين إلى تيار مُتشدد لا يعبأ بالعرف الاجتماعي، فجماعته نظمت تظاهرات عدة كانت تشتم الجنود البريطانيين الذين قتلوا في أفغانستان، بعضها تم أثناء استقبال وحدات عسكرية بريطانية خاضت الحرب هناك، وستحرق مجموعة صلاح الدين العلم الأمريكي على بعد أمتار من السفارة الأمريكية  في لندن، في اليوم الذي كانت تحتفل فيه السفارة والبلد بذكرى اعتداءات الحادي عشر من سبتمر في عام 2001.

يفشل المخرج في النفاذ عبر الجدار المتين الذي شيده صلاح الدين حول نفسه. كما لا تؤدي أي من الحوارات بين الأخوين إلى وجهات نافعة، سوى كشفها عن تشدد الأخ، الذي سيصل إلى حدود الإهانة القاسية للآخرين، برفض صلاح الدين مثلاً مصافحة المخرج باليد اليمنى لأنه من دين آخر (وفقا لروايات إسلامية  غير معلوم مدى صحتها). هذا الأمر سيصل بالفيلم إلى لحظته العاطفية الأكثر تأثيراً، عندما يواجه المخرج أخاه، في طريق هذا الأخير للسعودية لأداء العمرة. الفيلم ينتهي بصلاح الدين، بلحيته الشقراء الكثة ولباسه، والذي يشبه ما يلبسه مسلمون من الشرق الأوسط، وهو يغيب وسط زحام المطار البريطاني، فيما كان الأخ المخرج، يجلس في قاعة الانتظار، محاولاً استعياب ما حدث للتو.

سيكون لقاء المطار ذاك، هو اللقاء الأخير بين الأخوين، فبعد عامين سيتم القبض ومحاكمة صلاح الدين بتهمة التحضير لعمليات إرهابية (استندت المحكمة على وثائق تثبت أن صلاح الدين كان في طريقه إلى باكستان للتدريب في معسكرات حركة القاعدة)، وسيصدر قرار  في العام المنصرم بحبسة لست سنوات. هذا التطور هو الذي يقف وراء مشروع الفيلم الثاني، والذي سيكون أكثر جرأة في التعامل مع الواقع، بدءاً من العنوان، فبدل “أخي الإِسلاميّ”، عنوان الفيلم الأول، سيحل “أخي الإِرهابِيَ”. ووصف “الإرهاب”، والذي تردد الفيلم السابق والمؤسسة البريطانية الإعلامية العملاقة في استعماله، سيطلق في الفيلم الجديد بدون محافظة على الأخ المحبوس وعلى رفاق له.

من الفيلم

يضع رفض صلاح الدين الحديث للفيلم الجديد، هذا الأخير في أزمة، فالشخصية الرئيسية ستغيب هذه المرة عن الوثيقة التسجيلية، ولا يمكنها، وكما كان الحال في الفيلم الأول، الدفاع عن نفسها، وتبرير أهداف المجموعة وأحلامها لبريطانيا. رفض صلاح الدين في المشاركة من سجنه  في الفيلم الجديد، سيجبر المخرج على مُقاربة مُختلفة، تحاول في مجملها أن تحلل الظروف التي قادت أخاه وآخرين لاعتناق الأفكار المُتشددة التي يدعون لها، والتي قادت لسجن مجموعة منهم، وأيضاً لجريمة هزت بريطانيا كلها في العام المنصرم، فمن المجموعة نفسها، خرج مايكل أديبولاجو، والذي قام مع رفيق له بقتل جندي بريطاني في وضح النهار في أحد الشوارع المزدحمة في لندن في شهر مايو من عام 2013. يعرض الفيلم في هذا السياق، مشاهد أرشيفية صُورت لفيلم “أخي الإِسلاميّ”، وفيها يظهر مايكل أديبولاجو في مظاهرة مع صلاح الدين نفسه.

إمام مُعتدل وآخر مُتشدد

يُحاول الفيلم الجديد أن ينفذ إلى جوهر وخلفيات الأفكار المتشدد لجماعة صلاح الدين، عن طريق حوارات سيجريها، مع الأمام أنجم شودري، والذي يعتبره كثيرون الزعيم  الروحي للحركات الإِسلاميّة المُتشددة  في بريطانيا. هذا المحامي السابق هو شخصية جدليّة كثيراً، إلى الحد الذي جعل بعض الصحف البريطانية  تصفه  بأنه أكثر الشخصيات مكروهة في بريطانيا. لا يتورع أنجم شودري عن الحديث في أكثر المواضيع إثارة لغضب البريطانيين، عندما يهجو جيشهم مثلاً ودوره في حروب الشرق الأوسط الأخيرة. يُحب أنجم شودري الظهور التلفزيوني، ويلبي أكثر الدعوات التي تصله، ولا يدير ظهره عن أي مُجادلة. رغم ذلك بقى بعيداً عن المشكلات او الملاحقات الحكومية، ربما، وبسبب خلفياته في العمل القضائي، يعرف جيداً الحدود القانونية ولا يتجاوزها، كما أن شجبه للعنف المسلح في بريطانيا، جعله بمنأى عما يحدث من أعمال عنف في بريطانيا.

لكن الحوارين اللذين أجراهما الفيلم مع أنجم شودري، لن يحملا الكثير من الإثارة أو الكشف، ربما بسبب تهذيب المخرج، وضعف تحضيراته أو ثقافته في الحركات الإِسلاميّة. في المقابل سيعرف الفيلم بإمام آخر مُعتدل اسمه إلياس كرماني ، والذي يعمل، إضافة إلى إمامته لجامع في بريطانيا، كمُحلل نفسي. سيفسر إلياس كرماني انجذاب شباب كثيرين إلى الأفكار المُتشددة التي تبشر بها جماعات إسلامية في بريطانيا، بأنه يعود لانعزالهم عن مجتمعاتهم ووحدتهم، لتشكل الأفكار المُتشددة التي تدعو اليها الحركات المُتطرفة وبما تُبشر به من تغييرات جذرية، عالم طوبائي  لطالما حلموا به. سيركزالإمام إلياس كرماني أيضاً على أحداث العالم والظلم وغياب العدالة الذي يعيشه كثير من المسلمين وتأثيره على مسلمين يعيشون في بريطانيا وأوربا. لكن تجربته الصغيرة، بعرض مشاهد قاسية كثيراً عن ما يلاقيه مسلمين في مناطق من العالم لمجموعة من الشباب البريطانيين غير المسلمين، لن تكون ناجحة  في تغيير نظرة هؤلاء إلى عنف الحركات الإِسلاميّة المُتطرفة أو تفهمها وتبريرها.

صلاح الدين خلف السُور العالي
يكشف روب ليتش في بدايه  فيلمه الجديد بأنه لا يرغب في الحديث لسياسيين أو شخصيات عامة، لأنه، وكما وصف، لا يرغب بالكلام المُعلب والجاهز لاستعمالات وسائل الإعلام. هو يريد أن يبقى تعاطيه مع الموضوع قريباً إلى الحياة الواقعية، ليفهم أكثر، وكذا مشاهديه .. لماذا يتطرف البعض في أفكارهم، أو يحملون كل هذا الكره للآخر. هذا لن يكون في صالح الفيلمين، فجزء من قوة مشروع الحركات المُتطرفة هي لجوؤها للنص الديني، وكان يمكن للفيلم أن يواجهها بتفسيرات عقلانية مُضادة من النصوص الدينية ذاتها .

ومثل الفيلم الأول، يصل “أخي الإِرهابِيَ” إلى خاتمة عاطفية تعكس الفقد الشخصي للمخرج، فأخوه يبدو اليوم أشد بعداً عن الحياة الطبيعية عما كان عليه قبل ثلاث سنوات. ترافق الكاميرا المخرج وهو يتمشى بموازاة السور العالي للسجن الذي يقضي فيه صلاح الدين عقوبته اليوم. لازال الأخ الأكبر لا يفهم كيف يمكن أن تنتهي الأمور على هذا النحو. وكيف يمكن لأخيه، الخجول والهاديء في طفولته، أن يتصدر الأخبار في بلده وأن يُلقى في السجن لنشاطه “الإِرهابِيَ”.